ولقد تعاملت في أبحاثي العلمية منذ أكثر من عشر سنين مع آية عظيمة من القرآن الكريم، فوجدت أن كل كلمة قد وضعت في مكانها، ولها دلالات علمية واضحة تفسر بأسلوب علمي بديع عملية الإنبات وما يعتريها من تجوية جيوكيميائية، بل إن الترتيب لكلمات الآية ترتيب معجز، حيث لا يمكن أبدًا أن نغير كلمة مكان كلمة، وهذه الآية هي قول المولى سبحانه وتعالى: (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)(الحج:5).
ولقد أشار المولى عز وجل بترتيب علمي غاية في الدقة، إلى خطوات إخراج النبات في صورته البهيجة من الأرض الميتة الهامدة، حيث أشارت الآية الخامسة من سورة الحج الآنفة الذكر، إلى خمس حلقات متسلسلة ومترابطة:
1- الأرض الهامدة أو الخاشعة
(وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَة)ً، وقال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً)(فصلت:39). وهي الأرض التي لا يكون فيها حياة ولا عود ولا نبت بل هي ميتة، ولكن يتكون بها فتات صخري تجمع نتيجة التجوية. ويمكننا تعريف كلمة التجوية أو التأثير الجوي، بأنها مجموعة العمليات التي تسبب تفتت الصخور وتحللها، لكي تتمكن عمليات النقل بعد ذلك من حملها ونقلها إلى مقرها الأخير، مما يؤدي إلى تكوين التربة، وهي قد تكون هامدة أو خاشعة.
لقد سبق القرآن الكريم علماء الطب النفسي في أن علاج مريض الاكتئاب يكون بتأمل ألوان الطبيعة الخضراء، والتي تجلب البهجة والسكينة والطمأنينة والسرور.
والتربة بالمعني الجيولوجي والزراعي، هي الطبقة السطحية من الوشاح الصخري، سمكها في العادة لا يزيد عن عدة أقدام، وهي تتكون من خليط من جسيمات معدنية مختلفة تنتج من عمليتي التجوية الميكانيكية والكيمائية لمادة الأساس الصخري. وتتكون كذلك من المواد العضوية المتحللة التي تسمى بـ”الـدبال” (Humus) ومن الماء والعناصر الرئيسية المنفصلة من التجوية الكيميائية، وهي الكالسيوم والبوتاسيوم والصوديوم والمغنسيوم.
2- نزول ماء المطر
قال تعالى:(فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ)، من فضل الله على عباده ورحمته ولطفه بهم، أن ينزل ماء المطر من السماء خاليًا من الشوائب، وأن يكون في غاية النقاء والصفاء والطهارة عند بدء تكوينه، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا)(الفرقان:48). فالشمس هي المحرك الأساسي لدورة الماء، حيث تقوم بتسخين المياه في المحيطات التي تتبخر، أي تتحول إلى بخار ماء داخل الجو. وتقوم التيارات الهوائية المتصاعدة بأخذ بخار الماء إلى أعلى داخل الغلاف الجوي، حيث درجات الحرارة الباردة التي تتسبب في تكثيف بخار الماء وتحويله إلى سحاب. تقوم التيارات الهوائية بتحريك السحب حول الكرة الأرضية، وتصطدم ذرات السحاب وتنمو وتسقط من السماء كأمطار.
ويتكون جزيء الماء من اتحاد ذرة أكسجين واحدة مع ذرتي أيدروجين برابطة قوية لا يسهل فكها، وتربط هذه الذرات مع بعضها البعض بشكل زاوله قطبية كهربية واضحة، لأن كلاًّ من ذرتي الأيدروجين يحمل شحنة موجبة نسبية، وذرة الأكسجين تحمل شحنة سالبة نسبية، مما يجعل جزيء الماء غير تام التعادل كهربيًّا، والماء بهذه الصفات الطبيعية المميزة إذا نزل على تربة الأرض، أدى إلى إثارتها كهربيًّا، مما يجعلها تهتز.
ومن إعجاز هذه الحلقة، أن نزول ماء المطر أو الري المتكون من الأمطار، عندما يسقط الماء يبدأ في التفاعلات الجيوكيميائية لجميع الأراضى الهامدة، فتدب بها الحياة.
3- الاهتزاز
قال تعالى: (اهْتَزَّتْ)، وكلمة “اهتزت” تخبرنا عن حقائق عرفناها نحن الآن؛ ففي عام 1827م اكتشف عالم بريطاني اسمه “براون”، أن ماء المطر إذا سقط على التربة، أحدث لها اهتزازات تهتز لها حبيبات التربة، ونظرًا لدقة حجم الحبيبات الصلصالية (التي لا يتعدى قطرها واحد على 256 من الملليمتر، أي أقل من 0.004 من الملليمتر)، تتكون المعادن الصلصالية أساسًا من سيليكات الألومنيوم المميأة، وهذا المركب الكيميائي له قدرة على إحلال بعض ذرات الألومنيوم بذرات قواعد أخرى مثل المغنيسيوم والكالسيوم، ونتيجة لإحلال ذرات الألومنيوم بذرات غيرها من العناصر، ترتبط بعض الأيونات الموجبة الشحنة مثل الصوديوم والكالسيوم على حواف وأسطح رقائق الصلصال لمعادلة الشحنات السالبة، الناتجة عن إحلال ذرة الألومنيوم الثلاثية التكافؤ بذرة الكالسيوم أو المغنيسيوم الثنائية التكافؤ.
والأيونات الموجبة -مثل أيونات الصوديوم والكالسيوم- سهلة الإحلال بقواعد أخرى، مما يحدث اهتزازًا في مكونات رقائق الصلصال في وجود جزيء الماء القطبي الكهربية.
تتكون حبيبات التربة من المعادن المختلفة، والتي تتركب من صفائح متراصة بعضها فوق بعض. كما نجد إبداع الله عزوجل في ترتيب وتنسيق ذرات المعدن الواحد المتواجدة في التربة، ومثال ذلك معدن الأليت، كما أن هذه الذرات هي معمل التغذية للنبات، حيث تنطلق منها المواد المغذية للنبات مثل البوتاسيوم والماغنسيوم والكالسيوم، لكي يمتصها النبات ويتغذى عليها.
فإذا نزل المطر تكونت شحنات كهربائية مختلفة بين الحبيبات بسبب اختلاف هذه المعادن، ويحدث تأين نتيجة لاختلاف الشحنات الكهربائية المتولدة، فتهتز هذه الحبيبات نتيجة هذا التأين بحركة عشوائية، مما تؤدي بدورها إلى دخول الماء بين الصفائح المتراصة. ومن ثم فعند نزول الماء على الأرض بكميات مناسبة، يؤدي إلى اهتزاز حبيباتها، وقد لاحظ العالم “روبرت براون” هذه الحركة للدقائق الغروية، ولذا سميت من بعده باسم “الحركة البراونية”، ثم يتبعها الحلقة الرابعة من ربو التربة.
4- الربو والزيادة
(وَرَبَتْ)؛ يقصد بـ”الربو” الزيادة والنماء، وهذا ما يتحقق علميًّا للتربة بعد الاهتزاز، فإن ذلك يؤدي إلى دخول محاليل التربة إلى داخل الصفائح المعدنية، مما يؤدي إلى خروج الكتيونات المغذية للنبات مثل البوتاسيوم والكالسيوم وغيرهم، مما يؤدي إلى انهيار ذرات المعدن، كما هو واضح في معدن الأليت، مما تعرف هذه العملية بالتجوية الجيوكيميائية.
5- الإنبات
(وأَنْبَتَتْ)؛ بعد الحلقات الأربعة السابقة تحدث عملية إنبات البذور، وتنتقل المواد المغذية البسيطة المنفصلة بعد الاهنزاز والربو، إلى النباتات، فتنبت أعضاؤه وتبدأ ببزوغ الجذير نحو الأسفل، ثم تليه الريشة التي تعطي المجموع الخضري إلى أعلى لتظهر فوق سطح التربة بألوانها الجميلة.
تتكون حبيبات التربة من المعادن المختلفة، والتي تتركب من صفائح متراصة بعضها فوق بعض،فإذا نزل المطر تكونت شحنات كهربائية مختلفة بين الحبيبات بسبب اختلاف هذه المعادن.
نعم، لقد سبق القرآن الكريم علماء الطب النفسي في أن علاج مريض الاكتئاب يكون بتأمل ألوان الطبيعة الخضراء، والتي تجلب البهجة والسكينة والطمأنينة والسرور. هذا الربط الرائع بين الحدائق وحدوث البهجة (حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ) في قوله تعالى: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ)(النمل:60).
جاءت الآية القرآنية في مقام التسلسل والارتباط الدقيق، حيث جاءت في صياغة علمية غاية الدقة، ومحكمة غاية الإحكام، ولقد أشارت الآية الخامسة من سورة الحج إلى عملية الإنبات من خلال خمس حلقات متسلسلة. ولقد نزلت هذه الآية الكريمة في زمن لم يكن لأحد من الناس أن يعلم معنى كلمتي: (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) المذكورة في الآية القرآنية السابقة، والتي تؤكد حدوث اهتزازات للتربة وما يتبعها من عمليات التجوية المختلفة، والتي تزيد من مساحة السطح النوعي للتربة، والمعرض للنشاط الكيميائي العالي الذي يؤدي إلى زيادة انفصال العناصر الرئيسية المغذية للتربة، ولم يكن أحد يستطيع الإلمام بتلك الحقيقية العلمية ولا بطرف منها، وظلت أجيال الناس جاهلة بمعناها وذلك لمدة قرون متطاولة بعد زمن الوحي، حتى تم الإلمام بشيء منها منذ القريب بعد ظهور التقنيات الحديثة لفحص الاتحادات البنائية المكونة لحبيبات التربة، الذي لم يخترع إلا في عام 1952م.
بقلم/ أحمد مليجي