إنه تعريف نوري يعترف الأنصاري بتركيبه من عدة نصوص من أقوال سعيد النورسي، ومنها قوله: “للوصول إلى مرتبة الإنسان الكامل، وذلك بالتوجه القلبي إلى الله طوال سيره وسلوكه، وأثناء معاناته الروحية التي تسمو بحياته المعنوية، أي الوصول إلى مرتبة المؤمن الحق والمسلم الصادق، أي نيل حقيقة الإيمان والإسلام لا صورتيهما، ثم أن يكون الإنسان عبدًا خالصًا لرب العالمين وموضع خطابه الجليل وممثلاً عن الكائنات من جهة، ووليًّا لله وخليلاً له، حتى كأنه مرآة لتجلياته سبحانه، وفي أحسن تقويم حقًّا فيقيم الحجة على أفضلية بني آدم على الملائكة.. وهكذا يطير بجناحي الإيمان والعمل بالشريعة إلى المقامات العليا، والتطلع من هذه الدنيا إلى السعادة الأبدية بل الدخول فيها”.
إنه الإنسان الذي صنعه الله بتدبيره وقدرته، وهيّأه لخلافته في الأرض، وأسجد له الملائكة تكريمًا وتشريفًا، وعلّمه الأسماء كلها، وجهّزه بالسمع والفؤاد والنظر ليشيّد حضارة متوازنة تؤسس الإنسانية وفق منظور متكامل. ولكي يرقى إلى مرتبة الإنسان الكامل هاته، ينبغي العروج من الإيمان التقليدي إلى الإيمان التحقيقي: “فإن للإيمان حقائق غزيرة جدًّا؛ إذ ترتبط حقائق كثيرة لأنوار ألف اسم واسم من الأسماء الحسنى، ولسائر أركان الإيمان بحقائق الكون، حتى اتفق أهل الحقيقة على أن أجلّ العلوم قاطبة وقمة المعرفة وذروة الكمال الإنساني، إنما هو في الإيمان والمعرفة القدسية السامية المنفصلة والمبرهنة النابعة من الإيمان التحقيقي. نعم إن الإيمان التقليدي معرّض لهجمات الشبهات والأوهام، أما الإيمان التحقيقي فهو أوسع منه وأقوى وأمتن، وله مراتب كثيرة جدًّا”.
فإذا تساءلنا عن الآليات التي يقترحها الأستاذ النورسي للرقي بالإنسان من الإيمان التقليدي إلى الإيمان التحقيقي، فإنه يوجّهنا إليها ضمن تصور جديد للطاقات والأحاسيس المذخورة في الإنسان، والتي توجد في داخله ألوف منها، لكنه يدعونا إلى حسن توجيهها حتى تؤدي به إلى الكمال: “فما في فطرة الإنسان من رغبة ملحّة، ومحبة جياشة، وحرص رهيب، وسؤال شديد، وأحاسيس أخرى من أمثال هذه -وهي أحاسيس شديدة وعريقة- إنما وُهبت له ليغنم بها أمورًا أخروية؛ لذا فإن توجيه تلك الأحاسيس وبذلها بشدة نحو أمور دنيوية، إنما يعني إعطاء قيمة الألماس لقطع زجاجية تافهة”.
ومن الأمثلة العملية لصرف هذه الأحاسيس وتوجيهها نحو تربية سلوكية تعرج بالإنسان نحو الكمال، كما يشرحها الأستاذ النورسي: “إن سببًا من أسباب عدم تأثير نصيحة الناصحين في هذا الزمان هو، أنهم يقولون لسيئي الخُلُق: لا تحسدوا، لا تحرصوا، لا تعاندوا، لا تحبوا الدنيا، بمعنى أنهم يقولون لهم: غيّروا فطرتكم، وهو تكليف لا يطيقونه في الظاهر، ولكن يقولون لهم: اصرفوا وجوه هذه الصفات إلى أمور الخير، غيّروا مجراها، فعندئذ تُجدِي النصيحة، وتؤثر في النفوس، وتكون ضمن نطاق إرادة الإنسان واختياره”.
رسالة المشروع الأخلاقي الشمولي
هذا شأن الإنسان عمومًا، أما الإنسان الكامل الموكولة إليه رسالة إنجاز المشروع الأخلاقي الشمولي، فإن أحاسيسه، أي لطائفه -ضمن مرادفات النورسي- يوجّهها نحو المقصود الأساس -وهو عبادة الله- حتى يقترب من كمال الصحابة الكرام: “فالإنسان الكامل هو -كالصحابة الكرام- يسوق جميع تلك اللطائف إلى مقصوده الأساس وهو عبادة الله. فيسوق القلب كالقائد كل لطيفة منها ويوجّهها نحو الحقيقة بطريق عبودية خاص بها، عند ذلك تسير الكثرة الكاثرة من اللطائف جنودًا في ركب عظيم وفي ميدان واسع فسيح، كما هو لدى الصحابة الكرام رضي الله عنهم”.
وإذا تساءلنا: هل كان تصور النورسي لهذا الإنسان الكامل طوباويًّا متوهمًا، أم كان متحققًا في المجتمع الإنساني؟ يجيبنا بالتدرج من النموذج الأكمل، وهو الرسول الأكرم والدليل الأعظم إلى الله، قد أظهر جميع ما بيّناه من كمالات الإنسان وقيمته ومهمته ومُثُله، فأظهر تلك الكمالات في نفسه وفي دينه، بأوضح صورة وأكملها، مما يدلنا على أن الكائنات مثلما خُلقت لأجل الإنسان، أي أنه المقصود الأعظم من خلقها والمنتخب منها، فإن أجلّ مقصود من خلق الإنسان أيضًا، وأفضل مصطفىً منه، بل أروع وأسطع مرآة للأحد، إنما هو محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم يعرض نماذج بشرية متحققة في واقعنا المُعَاش، وهم بعد الأنبياء “الصحابة الكرام” هم كُمّل الأولياء، من حيث إنهم فرّغوا كل طاقاتهم لله الواحد الأحد، وكانوا بذلك أعلم الخلق -بعد الأنبياء- بالله عز وجل، وكانوا نماذج الإنسان الكامل.
كما يعرض لإشكالية تحقق هذه النماذج في القرون المتوالية وفق رؤيته الواقعية وتوقيره لجيل الصحابة رضي الله عنهم: “حقيقة أن الصحابة الكرام هم كُمّل الأولياء، لقربهم وتتلمذهم على الإنسان الكامل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم واستمدادهم من نور القرآن الكريم، لكن هذا النور ساطع ومتيسر للإنسان في كل زمان، لذلك “فإن الأولياء الصالحين والعلماء الأصفياء، هم ثمار استمدت من شجرة القرآن الكريم، فتكاملهم الحيوي يدل على أن شجرتهم المباركة هي ذات حياة وعطاء، وذات فيض دائم وذات حقيقة وأصالة”.
وعدة الإنسان للرقي إلى مرتبة الإنسان الكامل، كل جوارحه المخلوقة لعبادة الله؛ إذ “لو كان الإنسان مجرد قلب فقط، لكان عليه أن يترك كل ما سواه تعالى، بل يترك حتى الأسماء والصفات، ويرتبط قلبه بذاته سبحانه. ولكن للإنسان لطائف كثيرة جدًّا كالقلب، منها العقل والروح والسر، كل لطيفة منها مكلفة بوظيفة ومأمورة بالقيام بعمل خاص بها”.
المشروع الأخلاقي النوري
وإن كنا نعرض هنا للمشروع الأخلاقي النوري؛ فينبغي التذكير بأنه انتقال منهجي فحسب، وإلا فنحن لم نغادر المفهوم النوري للإنسان الكامل عدة وعماد هذا المشروع، فبسلوكه طريق المعراج القرآني “الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، فلا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو أقصر طريق وأوضحه، وأقربه إلى الله، وأشمله لبني الإنسان، ونحن اخترنا هذا الطريق” وبهذا السلوك يترقى الإنسان نحو الإنسان الكامل.
وبآلية المجاهدة الوجدانية الدائمة تتم الصناعة التربوية العميقة للإنسان، كما أشار المرحوم الأنصاري في دراسته “الكونية الأخلاقية بين علوم القرآن وعلوم الإنسان”، فيرشد إلى الإدراك العجيب عند الأستاذ بديع الزمان النورسي إلى ما أدت إليه هذه المجاهدة من عروج الإنسان نحو الكمال، بقيادة راشدة رشيدة للإنسان الكامل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فتحولت “هذه الأقوام المختلفة البدائية في هذه الصحراء الشاسعة، المتعصبون لعاداتهم، المعاندون في عصبيتهم وخصامهم، كيف رفع هذا الشخص جميع أخلاقهم السيئة البدائية وقلعها في زمان قليل دفعة واحدة؟ وجهّزهم بأخلاق حسنة عالية، فصيّرهم معلمي العالم الإنساني وأساتذة الأمم المتمدنة”.
فإذا سعينا إلى معالجة مفهوم الأخلاق في مشروع الأستاذ بديع الزمان النورسي، فصلاً يقتضيه المنهج فحسب، فأول ما يسترعي النظر هو فهمه التجديدي للأخلاق بوصفها نظامًا قرآنيًّا. لكن الأنصاري -رحمه الله- استوعب المفهوم الأخلاقي النوري، وميّزه عن حصره عند الآخرين في مجال الفضائل: “فرسالة القرآن إنما جاءت لتصنع مجتمعًا قائمًا على أساس الأخلاق بمعنى كليّ. فكل التصرفات البشرية في العلاقات النفسية والاجتماعية والوجودية مع سائر الكائنات إنما هي “أخلاق”. وهذا مفهوم خاص لمعنى “أخلاق” الذي يحصره بعضهم فقط في مجال “الفضائل” بمعناها الاجتماعي الصرف. و”الفضائل” في المعنى السائر المتأثر بالدلالة الفقهية مفهوم موحٍ بنوع من النفل الزائد الذي يفعله الإنسان تطوعًا وهذا معنى فرعي، بينما تصور النورسي للأخلاق قائم على أنها “أصول” لا “فروع””.
وثاني ما يسترعي النظر أنه مفهوم شمولي، لأنه يتدرج في مكونات المشروع الأخلاقي من أعلاها وهي الأخلاق الإلهية فالنبوية فالإنسانية فالوحشية وهي أدناها. ومن هنا نفهم تأكيده على صلتها بالإنسان الذي يوكل إلى الكامل منه أمر القيادة والقدوة كما فعل الأنبياء.
وأما آليات المعراج والترقي بالمجاهدة النفسية الدائمة للإنسان، فتقتضي -منهجيًّا- الترقي من الأدنى إلى الأعلى، لذلك تقترح من النماذج ما تحقق في المجتمع الجاهلي الذي ترقت به القيادة الراشدة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى مجتمع راشد مهيأ للصلاح والإصلاح. أما في مجال المناهج والنظم، فتقترح ما يمثله القرآن الكريم بوصفه نظامًا للأخلاق. لنستمع للأستاذ بديع الزمان النورسي وهو يحيل على شهادة “غوستاف لوبون” في توضيح هذه الخصيصة القرآنية: “إن أصول الأخلاق في القرآن عالية علوّ ما جاء في كتب الديانات الأخرى جميعها، وإن أخلاق الأمم التي دانت له تحولت بتحول الأزمان والعروق.. إن أهم نتيجة يمكن استنباطها، هي تأثير القرآن العظيم في الأمم التي أذعنت لأحكامه، فالديانات التي لها من السلطان على النفوس قليلة جدًّا، وقد لا تجد دينًا اتفق له ما اتفق للإسلام من الأثر الدائم”.
ورغم استمداد النورسي مشروعه الأخلاقي من نظام القرآن العظيم، إلا أنه في تصوره الشمولي لهذا المشروع، يُدرج ما هو إلهي، وما هو إنساني، وما هو اجتماعي، وما هو وحشي، ويرسم معارج للرقي من الأدنى إلى الأعلى كما سنعرض لها وفق سلّم الترقي والاقتضاء المنهجي؛ فأما الأخلاق الوحشية الرذيلة فهي رذيلة حسب عبارة بديع الزمان النورسي؛ لأن “أسّ أساس جميع الاضطرابات والثورات في المجتمع الإنساني، إنما هو كلمة واحدة، كما أن منبع جميع الأخلاق الرذيلة كلمة واحدة أيضًا.. الكلمة الأولى: “إن شبعتُ فلا عليَّ أن يموت غيري من الجوع”، والكلمة الثانية: “اكتسب أنتَ، لآكل أنا، واتعب أنت لأستريح أنا”.
نعم، لا يمكن العيش بسلام ووئام في مجتمع إلا بالمحافظة على التوازن القائم بين الخواص والعوام، أي بين الأغنياء والفقراء.
وهي وحشية، لأنها أخلاق الجاهلية التي كانت عند العرب بعبارة الأنصاري: “ولأن محمدًا الهاشمي صلى الله عليه وسلم مع أنه أميّ لم يقرأ ولم يكتب، ومع عدم قوته الظاهرة وعدم ميله إلى تحكم وسلطنة، قد تشبث بقلبه بوثوق واطمئنان -في موقع في غاية الخطر وفي مقام مهم- بأمر عظيم، فغلب على الأفكار، وتحبب إلى الأرواح، وتسلط على الطبائع، وقلع من أعماق قلوبهم، العادات والأخلاق الوحشية المألوفة الراسخة المستمرة الكثيرة، ثم غرس في موضعها في غاية الإحكام والقوة -كأنها اختلطت بلحمهم ودمهم- أخلاقًا عالية وعادات حسنة. وقد بدّل قساوة قلوب قوم خامدين في زوايا الوحشة بحسيات رقيقة، وأظهر جوهر إنسانيتهم، ثم أخرجهم من زوايا النسيان، ورقى بهم إلى أوج المدنية، وصيّرهم معلمي عالمهم”.
عملية توجيه الأحاسيس وتحويلها والرقي بها لتنهض بالإنسان من المستوى الأدنى إلى الإنسان الكامل، هي جوهر هذه الإشارة ومثيلاتها عند الأستاذ بديع الزمان النورسي، وهي التي حوّلت عرب الجاهلية إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليمثلوا أروع نموذج لهذا الإنسان الكامل المتحقق في الواقع المُعَاش، كما أشار إليها في أكثر من موقع من رسائل النور.
أما المرتبة التالية في سلّم الترقي الأخلاقي، فهي الأخلاق الاجتماعية التي انتقلت إلى غير المسلمين؛ “فوا أسفاه! إنه مثلما انتقلت محاسننا إلى غير المسلمين، فسجايانا الحميدة هم الذين سرقوها كذلك! وكأن قسمًا من أخلاقنا الاجتماعية السامية لم يجد رواجًا عندنا، فنفر منا والتجأ إليهم، وإن قسمًا من رذائلهم لم يلقَ رواجًا عندهم فجلب إلى سوق جهالتنا”.
ولا يفوته التعريض بالسياسة، فيحمّلها مسؤولية رواج هذه الأخلاق الاجتماعية حين يقول: “صار الصدق والكذب يعرضان معًا في معرض واحد، ويصدران معًا من مصدر واحد، ففسدت الأخلاق الاجتماعية واختلت موازينها، وزادت الدعايات السياسية إخفاء قبح الكذب المرعب، وستر جمال الصدق الباهر”.
ثم نرقى إلى الأخلاق الإنسانية المشتركة مع المجتمع الإنساني، لأنها -حسب الأنصاري- خصال الفطرة الإنسانية الضرورية للوصول إلى الحق يلمح الأستاذ النورسي إلى وجودها وانتساب وتخلّق البشرية بها، لكنها تحتاج إلى التحوّل من الفطرية إلى التسديد والاستقامة بفضل المنهج الأخلاقي النوري.. لذلك فأيسر الطرق في الأخلاق الإنسانية، وأنفعها وأقصرها وأسلمها، هي في الصراط المستقيم وفي الاستقامة.
وهو بهذا التلميح إلى حاجة البشرية إلى التسديد، إنما يوجّه الإنسان للرقي إلى أعلى المراتب والغايات في مشروعه الأخلاقي الشمولي وصولاً إلى الأخلاق الإلهية؛ إذ “الغاية القصوى للإنسانية، والوظيفة الأساسية للبشرية، هي التخلّق بالأخلاق الإلهية، أي التحلّي بالسجايا السامية والخصال الحميدة التي يأمر بها الله سبحانه، وأن يعلم الإنسان عجزه فيلتجئ إلى قدرته تعالى، ويرى ضعفه فيحتمي بقوته تعالى، ويشاهد فقره فيلوذ برحمته تعالى، وينظر إلى حاجته فيستمد من غناه تعالى، ويعرف قصوره فيستغفر ربه تعالى، ويلمس نقصه فيسبح ويقدس كماله تعالى”.
قيام الإنسان الكامل بتشييد المشروع الأخلاقي الإلهي
فالوصول عند معراج التخلق بالأخلاق الإلهية يستدعي متابعة الأستاذ بديع الزمان النورسي في تأويله لقول الله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾(الأحزاب:72). فمن الخزينة العظمى لهذه الآية الجليلة، سنشير إلى جوهرة واحدة من جواهرها، وهي أن الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها، لها معان عدة ولها وجوه كثيرة. فمعنى من تلك المعاني ووجه من تلك الوجوه هو “أنا”. نعم إن “أنا” بذرة نشأت منها شجرة طوبى نورانية عظيمة، وشجرة زقوم رهيبة، تمدان أغصانهما وتنشران فروعهما في أرجاء عالم الإنسان من لدن آدم عليه السلام إلى الوقت الحاضر.
هكذا فالبذرة المنتجة لشجرة طوبى النورانية، هي التي تنتج الإنسان الكامل في أحسن تقويم بوعي وعلم ونفس. فالذي يعرف ماهية “أنا” على هذا الوجه ويذعن له، ثم يعمل وفق ذلك وبمقتضاه، يدخل ضمن بشارة قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾(الشمس:9)، ويكون قد أدى الأمانة حقها حتى يشيد المشروع الأخلاقي الإلهي. أما البذرة المنتجة لشجرة زقوم الرهيبة، فتنتج الإنسان الظلوم الجهول في أحسن تقويم كذلك، لأنه صنع الله الذي أتقن كل شيء، ولكن إذا نسي “أنا” حكمة خلقه، ونظر إلى نفسه بالمعنى الاسمي، تاركًا وظيفته الفطرية، معتقدًا بنفسه أنه المالك، فقد خان الأمانة ودخل ضمن النذير الإلهي: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾(الشمس:10).
هكذا نقترب من مفهوم الإنسان الكامل المستمد من نظام القرآن الذي يطبع صورة الروح الإنسانية بماهيتها، ويسلك بها مدارج التربية والمجاهدة لاكتساب معناها الكوني، ولتأسيس المشروع الأخلاقي النورسي، متدرجًا من الأخلاق الوحشية فالاجتماعية فالإنسانية وصولاً إلى الأخلاق الإلهية.
عودة إلى الفرضية
نعود إلى الفرضية التي طرحناها في بداية هذه الدراسة بغاية التحقق من صحتها أو دحضها، فنشير إلى صحتها إذا استثمرنا إيحاءات الأستاذ بديع الزمان النورسي بين ثنايا مشروعه الإصلاحي، وتلميحاته إلى أن الإنسان الكامل متحقق في شخصية النبي صلى الله عليه سلم والصحابة الكرام في فترة خير القرون، لكن الاستمداد من نور القرآن الكريم ونظامه الأخلاقي، يؤدي إلى سعي الإنسان في كل زمان، إلى الرقي عبر معراج الانتساب الإيماني من درجة الأخلاق الوحشية إلى الاجتماعية فالإنسانية فالإلهية وصولاً إلى مرتبة الإنسان الكامل.
وأنا أتابع روايتي المرحوم فريد الأنصاري “آخر الفرسان” و”عودة الفرسان” طرحت سؤالاً: ما هي دلالة الآخر في نسبتها إلى المفكر المجدد بديع الزمان النورسي، ودلالة العودة في سيرة محمد فتح الله كولن؟
هل كان -وهو يتأمل في المشروع الإصلاحي النوري- يبحث عن درجة تحقق هذا المشروع؟ وهل توخى تحققًا للإنسان التواق إلى الكمال في هذين النموذجين؟
سؤالان مشروعان لكنهما يقتضيان جوابًا من المرحوم الأنصاري الذي غادرنا وفي صدره شيء من رسائل النور، غادرنا وهو موجّه إهداء الرواية “عودة الفرسان” على الشكل التالي:
“أما هذه الورقات فإنني أهديها لكم أنتم شباب العالم العربي.. عسى أن نبصر موقع الرأس من أمتنا.. فنسلك الاتجاه الصحيح”.
إنه إهداء عميق الدلالة لشباب العالم العربي بحثًا عن موقع الرأس من أمتنا، ومن تكون هذه الرأس إن لم تكن كناية عن الإنسان الكامل أو من في الطريق إليه؟!
أختم بالإشارة إلى أننا خلال هذه المقاربة لمفهوم الإنسان الكامل تعمدنا إغفال مفاهيم مجاورة من أمثال الإنسان الحق، والإنسان الكلي، ومقاربة مقارنة لهذا المفهوم عند فلاسفة ومتصوفة آخرين من أمثال الإمام فخر الدين الرازي، والشيخ الأكبر ابن عربي، والشيخ عبد الكريم الجيلي، والشيخ عبد الغني النابلسي، والشيخ محمد بهاء الدين البيطار، والشيخ صدر الدين القونوي، والشيخ كمال الدين القاشاني، والشريف الجرجاني، والشيخ عبد الكريم الجيلي؛ لأننا نسعى في هذا الحوار الأكاديمي حول فكر النورسي، إلى التدقيق في جانبٍ مرجئين النظر في بعض الجوانب الأخرى إلى حوارات أكاديمية مقبلة. حوارات مستنيرة بنور القرآن كما استوعبه واهتدى إليه الأستاذ بديع الزمان النورسي، فاقترح منذ الألفية الثانية الحلول الواقعية الناجعة لما تعانيه الإنسانية من المشاكل والأزمات في هذه الألفية الثالثة.
بقلم/ سعيد الغزاوي
ــــــــــــ
المراجع:
(1) كليات رسائل النور، لبديع الزمان النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
(2) مفاتح النور، لفريد الأنصاري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
(3) عودة الفرسان، لفريد الأنصاري، دار النيل للطباعة والنيشر، القاهرة.