تقرير: محمد عبيد الله
نقدم اليوم لمتابعي زمان التركية آخر حلقات التقرير الذي يحاول تحليل أبرز الأحداث التي شهدتها تركيا منذ الانقلاب الناعم في 1997 حتى الانقلاب الفاشل في 2016 لنشرع بعده في سرد الأحداث التي عاشتها تركيا في ظل حالة الطوارئ التي أعلنها الرئيس رجب طيب أردوغان بحجة التصدي لهذا الانقلاب.
12ـ تصفية الجيش بانقلاب صوري
يدل ما أدلى به أردوغان من تصريحات ليلة الانقلاب الفاشل على نيته المبيتة في إعادة هيكلة الجيش وفق أهوائه حيث قال: “هذه المحاولة في التحليل الأخير لطف كبير من الله من أجل تطهير القوات المسلحة من العناصر التي من المفترض أن تكون خالية ونقية منها أصلاً.” كما يدل قوله في ذات التصريح: “واتخاذُ مثل هذه الخطوة قبيل عقد مجلس الشورى العسكري مطلع شهر أغسطس/ آب المقبل (2016) له دلالته؛ فالبعض توقعوا ما سيحدث في هذا الاجتماع، فبادروا إلى الإقدام على مثل هذه الخطوة”، على أنه كان يخاف من قيام الجيش بفتح “ملفَّات شائكة” كدعم داعش والعمال الكردستاني وتوظيفهما في ذلك الاجتماع، مع إبراز الأدلة والوثائق، ولذلك كان يبحث عن “ذريعة” قبل انعقاد هذا الاجتماع ليقوم بحركة استباقية وينقذ نفسه من الضغوطات العسكرية المحتملة.
(وكنا بينّا في الحلقة الأولى من التقرير أن تقريراً رسميا أعد بعد سنة من الانقلاب كشف أن الأغلبية الساحقة من الضباط والجنرالات الذين زعم أردوغان أنهم أقدموا على الانقلاب “خوفًا من تعرضهم للتصفية” أو “إحالتهم إلى التقاعد رغمًا عنهم”، كان سيتم ترقيتهم في اجتماع مجلس الشورى العسكري القادم لو لم يحدث ما يسمى بالانقلاب الفاشل).
أما دعوة أردوغان أنصاره للنزول إلى الشوارع بدلا من القوات الأمنية ليلة الانقلاب، وتوزيع أسلحة عليهم واستخدامها ضد الطلبة العسكريين العُزل، وقصف مقر البرلمان فقد شكلت الصورة التي يريدها من أجل إضفاء صبغة حقيقية على روايته الرسمية للأحداث، كما فعل من قبله هتلر الذي أحرق البرلمان الألماني لإطلاق حركة تصفية شاملة ضد معارضيه. ومن ثم فقد شرع أردوغان في صبيحة تلك الليلة في تصفية غير مسبوقة في صفوف الجيش ومجلس القضاء الأعلى وكبار البيروقراطيين وفق قوائم التصنيفات التي أعدها حليفه أرجنكون والتي تتكون في الأساس من الجنرالات والضباط الموالين للناتو، باعتراف هذا الأخير، ثم فصل واعتقال عدد كبير من العسكريين الذين تصدوا للانقلاب، ومنهم القائمون على حماية طائرة أردوغان شخصيًّا أثناء انتقالها من مدينة موغلا إلى إسطنبول، كما توسعت حملات تصفية المدنيين دون تمييز بين الرجال والنساء والأطفال، حتى الذين كانوا خارج تركيا زمن الانقلاب. كما انتهز أردوغان هذه الفرصة وأمر بإغلاق مئات من المؤسسات التعليمية والإعلامية ومصادرة ممتلكات أكثر من ألفي شركة وفصل مئات الآلاف من وظائفهم. بالإضافة إلى التعذيب الممنهج داخل السجون والمعتقلات لانتزاع اعترافات من المعتقلين تستخدم لمزيد من الاعتقالات ولإضفاء الشكل القانوني على المحاكمات الصورية.
وتحمل كل هذه الإجراءات والممارسات دلالات صريحة على تدبير أردوغان لهذه المحاولة الانقلابية الفاشلة 15في يوليو / تموز 2016 مع حليفيه أرجنكون والإسلاميين ليتمكن بعدها من إطلاق انقلاب مضاد حقيقي يعيد من خلاله هيكلة المؤسسة العسكرية والسلك البيروقراطي والحياة المدنية. وليس أدل على ذلك إلا اتخاذ أردوغان قرارًا بالتدخل العسكري في سوريا عقب وقوع الانقلاب وإجراء التصفيات اللازمة في الجيش في ظل رئيس الأركان عينه الذي أعلن قبل 5 أشهر فقط أن الجيش لن يتدخل عسكريا في سوريا ما لم يكن هناك قرار أممي(73).
13ـ الخدمة ذريعة أردوغان الجاهزة
كان أردوغان في حاجة إلى كبش فداء يحمله فاتورة هذا الانقلاب ويصفي من خلاله كل معارضيه ويقود حملة ممنهجة لهيكلة الجيش وعزل كل من كان يقف عائقًا أمام طموحاته، فوقع اختياره على الفور وقبل أن تتكشف ملابسات الأحداث على حركة الخدمة، وهي التي استخدمها من قبل عبر إطلاق ذريعة “الكيان الموازي” للتغطية على فضائح الفساد والرشوة التي تورط فيها عام 2013، ونجح من خلال هذه الذريعة في هيكلة كل الأجهزة على مقاسه، وإنقاذ نفسه من المحاكمات، والحصول على حصانة قانونية، وتوسيع نطاق صلاحياته وامتيازاته. وهذا بالفعل ما أكده اعتراف أحد رجال أردوغان في تسجيل صوتي تم تسريبه.
ويرجع اختياره لحركة الخدمة دون سواها لأنها كانت الوحيدة التي يمكن تحميلها هذا الحجم من الاتهامات كـ”الانقلاب” و”السيطرة على العالم” و”العمل لصالح القوى العالمية”، نظرا لأنها حاضرة بقوة ليس في تركيا فقط بل في جميع أرجاء العالم من خلال مؤسساتها.
كذلك فإن توجيه الاتهام في هذا الوقت لحركة الخدمة بات ميسورًا لأنه تم الاشتغال عليه طيلة ثلاث سنوات مضت قام خلالها بتشويه سمعة الخدمة وتحويلها إلى هدف وتوجيه الجماهير الغاضبة للهجوم عليها، ثم استحداث جريمة جاهزة تحت مسمى “الانتماء إلى الكيان الموازي” ثم تهمة جديدة وهي “الانتماء إلى منظمة فتح الله كولن…” وإلصاقها بكل من يريد تصفيته سواء كان داعمًا للحركة أو معارضًا لها.
وكما أحدث أردوغان “انقلابا مضادا” في اليوم التالي من بدء تحقيقات الفساد والرشوة عام 2013 نسف به أجهزة الأمن والقضاء من ألفها إلى يائها، بفضل لافتة “جريمة الانتماء إلى الكيان الموازي”، وأنشأ مكانها أجهزة أمن وقضاء جديدة من أنصاره وحلفائه من جماعة أرجنكون الموالية للمعسكر الأوراسي والإسلاميين الموالين لإيران، أقدم كذلك على “انقلاب مضاد” في صبيحة ليلة الانقلاب المدبر والمسيطر عليه ليطيح بكل القادة العسكريين وأعضاء مجلس القضاء الأعلى المنتمين إلى تيارات مختلفة، بفضل اللافتة ذاتها، سواء شاركوا في الأحداث أم لم يشاركوا، وسواء أكانوا منتمين إلى حركة الخدمة أو لم تكن لهم أي صلة بها، وذلك للتخلص تمامًا من كل أولئك الذين رصدوا استعانة هذا التحالف الثلاثي بالتنظيمات الإرهابية التي تطرقنا إليها سالفًا والشروع في تنفيذ مشاريعهم المحلية والإقليمية بالكوادر الجديدة الموالية للمعسكر الأوراسي.
14ـ تصفية 30 ألف جنرال/وضابط أطلسي
لعل التصريحات الصادمة التي أدلى بها زعيم حزب الوطن “دوغو برينتشاك” المحكوم عليه سابقًا في قضية أرجنكون في اجتماع عقده مع كبار المسئولين الإيرانيين بطهران حول التصفيات الشاملة في الجيش وأجهزة الدولة الأخرى تكشف الصورة الكاملة لهذا الانقلاب المدبر؛ إذ أعلن أنهم مَنْ أعدوا قوائم الأسماء التي تمت تصفيتها وأنهم استطاعوا تصفية “30 ألف جنرال/وعسكري كانوا موالين للناتو” بعد الانقلاب الفاشل(74). بمعنى أن برينتشاك أعلن من “إيران” أنهم قاموا بتصفية الجنرالات والضباط الأتراك الموالين للناتو بعد هذا الانقلاب المدبر بفضل لافتة “جريمة الانتماء إلى منظمة فتح الله كولن” الجاهزة من جانب، ويفتخرون من جانب آخر بأنهم عينوا مكانهم الجنرالات والضباط الموالين للمعسكر الأوراسي(75) ممن كانوا حوكموا سابقًا في قضية أرجنكون بتهمة التجسس العسكري وتسريب وبيع “الوثائق السرية للأمن والجيش التركي، إلى ستّ دول بينها إسرائيل واليونان”(76).
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن “محمد أيمور”، رئيس شعبة مكافحة الإرهاب في جهاز المخابرات التركي سابقًا قد وصف برينتشاك بـ(fabricator) أي المفبرِك، وتعني “المحترف في اختلاق أحداثٍ من أجل إثارة البلبلة والفوضى في البلاد”؛ في حين يتهمه “هرم عباس”، نائب رئيس المخابرات الأسبق بـ”العمالة لدولة أجنبية”، ويشرح مهمته في كتاب له بعنوان “التحليل” (Analiz) بقوله: “تنفيذ عمليات التصفية باستخدام طرقٍ وأساليبَ شتى ضد العناصر المستهدَفة التي تشكّل عائقًا أمام تحقُّق مصالح الدولة الأجنبية التي يعمل لصالحها، والسعي للحيلولة دون تطورِ وتقدُّم تركيا، ومنعها من اتباع سياسة وطنية مستقلة بعيداً عن مصالح تلك الدولة الأجنبية، وذلك من خلال تنظيم أنشطةٍ وفعاليات تقود البلاد إلى حالة عدم الاستقرار المتواصلة”(77).
الخاتمة
1ـ مفهوم الانقلاب الذاتي
كل الحقائق التي أوردناها في سياق هذا التحليل المدعوم بمعلومات وافرة تقودنا بالضرورة إلى ما وصفه الكاتب “بروس. و. فاركا” بـ”الانقلاب الذاتي” (Self- coup) في كتابه إذ يعرفه بقوله: ” مصطلح الانقلاب الذاتي يُطلق على انقلاب يقوده الجالس على قمة هرم السلطة في أي بلد ضد نفسه من أجل توسيع صلاحياته بصورة مخالفة للدستور المعمول به”. *
ويلخص الكاتب “باول بروكر” مهمة الجيش في أثناء هذا النوع من الانقلاب قائلاً: “يتظاهر الجيش وكأنه يستولي على السلطة في البلاد حين يقدم دعمه لزعيم يسعى إلى بناء نظام رئاسي شعبوي في نهاية المطاف من خلال تدبير انقلاب ضد نفسه. لكن ما يفعله الجيش في الواقع هو أنه يصبح شريكًا في الجريمة مع هذا الزعيم الذي يسيء استخدام منصبه وسلطته قبل اندلاع الأحداث وبعدها”.** ونرى تفصيل ذلك عند الكاتب “كارلسون أنيانغو” حيث يقول: “في مثل هذه الظروف التي يحاول فيها الزعيم الأعلى حبك انقلاب ضد شخصه، تحصل السلطة الحاكمة على صلاحيات فوق الدستور، فتغيّر شكل النظام المطبق تمامًا، وتقود البلاد إلى نظام جديد مختلف كاملاً، وذلك بدعم سري أو علني، وأعمال تحريضية يقوم بها الجيش. لكن ما يحدث في الأصل هو إسقاط السلطة الحاكمة للنظام الدستوري القائم وإحلالها نظامًا دستوريًّا جديدًا. ويُطلق على هذا الوضع مصطلح “الانقلاب الذاتي أحيانًا”.
ومن ثم يلفت كارلسون أنيانغو الانتباه إلى نقطة مهمة إذ يقول: “في نهاية كل انقلاب ذاتي تظهر تلك النزعة التالية: كل الانقلابات الذاتية تحمل في طياتها بذور انقلاب جديد مضاد أو تمرد موسّع، يطيح في نهاية المطاف بالشخص الذي نظَّم هذا الانقلاب الذاتيّ، ويعيد تأسيس النظام الدستوري السابق”.***
2ـ أردوغان يفشل في إقناع العالم
رغم توظيف أردوغان كل إمكانيات الدولة في سبيل الدعاية السوداء ضد حركة الخدمة، وتكريس وسائل الإعلام التي بات يسيطر على 80 % منها أو أزيد لإقناع العالم بإرهابية الحركة ووقوفها وراء الانقلاب فإنه فشل في ذلك ولم يقتنع بروايته عن قصة الانقلاب حتى كثير من الكتاب الموالين له وشريحة كبيرة من أنصاره.
كما أن انفتاح الحركة بمؤسساتها التعليمية على جمهوريات وسط آسيا، ونجاحات الطلبة الدارسين فيها في المسابقات العلمية العالمية وحسن سلوكهم وأخلاقهم حال دون نجاح تلك الدعاية السوداء ومحاولات القضاء عليها في أثناء انقلاب أرجنكون في 1997، كذلك فإن انتشار الحركة في أكثر من 170 دولة حول العالم في الوقت الراهن، ونزاهة سيرتها الممتدة لأكثر من قرن، أحبط خطة أردوغان أيضًا، رغم استيلاء أردوغان على كل مؤسساتها الإعلامية قبل الانقلاب؛ إذ أصدرت كبرى الاستخبارات العالمية التي تراقب منذ عقود حركات وسكنات الخدمة تقارير برأت ساحة الخدمة ووجهت أصابع الاتهام إلى أردوغان. ذلك لأن الخدمة على الرغم من تعرضها لهذا الكمّ الهائل من عمليات الفصل والاعتقال والتعذيب وحتى القتل بصورة مباشرة وغير مباشرة، فإنها لم تخرج عن الإطار القانوني ولم تنزل إلى الشوارع ولم توجه حتى صفعة لأي أحد، بل كل ما فعلته هو القيام بتسليط الأضواء على حقيقة الأمور عبر ما بقي من وسائل إعلامها من جهة، واستخدامِ الوسائل القضائية للدفاع عن نفسها من جهة أخرى، تمامًا مثلما كانت تفعل في أثناء انقلاب 1997.
وكما أن التقارير الاستخباراتية الدولية الحالية تبرئ ساحة الخدمة من تهمة الانقلاب الفاشل وتكشف يد أردوغان فيه، كذلك فلا شك أن القضاء التركي سيصدر حكم البراءة لها فور تحرره من القبضة الحديدية لأردوغان وسيكشف عن المجرمين الحقيقيين الذين دبروا ونفذوا هذه المسرحية الانقلابية.
* Bruce W. Farcau, The coup: tactics in the seizure of power, 1994
** Paul Brooker, Non-democratic regimes, 2014.
*** Carlson Anyangwe, Revolutionary overthrow of constitutional orders in Africa, 2012