يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(النور:27)؛ وهي خصوصية من الخارج، كما يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(النور:58)؛ وهي خصوصية من الداخل.
يتضح من الآيتين الكريمتين السابقتين أن خصوصية بيت المسلم أمر واجب وتوجيه قرآني يجب أن يراعى عند تصميم المسكن. وعلى ذلك فإنه بالنسبة للخصوصية التي يجب أن تتوفر بالمسكن من الخارج، فيمكن أن تظهر في تصميم واجهات المسكن الخارجية عن طريق النوافذ والشرفات، بحيث يتم الحرص على أن تفتح ضلف النوافذ الخارجية (الشيش) بنفس أسلوب المشربيات التقليدية. أما بالنسبة للضلف الزجاجية للنوافذ والشرفات، فيمكن أن يستخدم الزجاج الملون، والذي يساعد على كسر حدة أشعة الشمس، أما الشرفات التقليدية فيمكن أن يوضع أمام أبوابها من جهة الشارع الخارجي بعض القواطيع البسيطة من الخشب البغدادلي مثلاً، وبذلك لا ينكشف ما بداخل الغرفة عن طريق باب الشرفة إذا ما تم فتحها.
إن للمسلمين دينًا قيمًا، وضع لهم منهجًا متكاملاً للحياة وبالتالي لأسلوب المعيشة والحياة، لذلك فإن تصميم المسكن وعمارته من الداخل والخارج، يجب أن يعكس منهج وتعاليم الإسلام الخنيف.
وبالنسبة لخصوصية المسكن من الداخل، فيكون ذلك بفصل جناح النوم وأهل البيت عن جناح المعيشة والزوار، ويكون ذلك إما بالفصل أفقيًّا عن طريق وجود مدخل متوسط للوحدة السكنية يخدم الجناحين، أو بالفصل بين الجناحين رأسيًّا كما في التصميم التقليدي للربع الإسلامي، حيث يتم وضع جناح المعيشة والزوار في الدور الأرضي، ويوضع جناح النوم في الدور الأول ويربط بينهما درج داخلي.
2- الاقتصاد مع الإتقان والبعد عن الإسراف والتبذير
يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)(الإسراء:27)، ويقول سبحانه: (وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ*وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ*وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)(الزخرف33-35)؛ وهذه الآيات الكريمة تحض في مجمل معناها على مراعاة العوامل الاقتصادية عند تصميم وبناء المساكن، ولكن مع الإتقان وعدم المبالغة في تزيين وبهرجة المسكن، لأن ذلك من متاع الحياة الدنيا الزائل.
والمضمون الإسلامي السابق يمكن أن يؤثر على تصميم كل من جناحي النوم والمعيشة، فبالنسبة لجناح النوم فمن الأهمية وجود غرفة نوم رئيسية ثم غرفة أو أكثر للأطفال، ولكن بالنسبة لجناح المعيشة فلا داعي لتأثيث عدد كبير من غرف لا تستعمل أغلبها إلا نادرًا في المناسبات، فيستحسن تصميم غرفة معيشة واستقبال بمساحة معقولة تكون متعددة الأغراض، ويمكن لكل أسرة أن تختار ما يناسب إمكاناتها المادية لتجميل مسكنها، وهو ما سوف نوضحه في المعيار الخاص باللمسات الجمالية.
3- أفضلية توجيه غرف المسكن جهة القبلة
من الأفضل للمسلم في جلوسه أن يكون جهة القبلة عملاً بالسنة النبوية، كما يفضل أداء صلاة النافلة داخل البيوت والمساكن، لذلك فإنه يفضل -إن أمكن- في تصميم غرف المسكن توجيهها جهة القبلة، وذلك لتسهيل عملية أداء الصلاة داخل هذه الغرف خاصة بعد فرشها، وبذلك لا يتعارض أسلوب فرش الأثاث مع الذي يصلي مستقبلاً القبلة.
أما بالنسبة لدورات المياه فيفضل عدم استقبال أو استدبار القبلة في دورات المياه، أما بالنسبة لحوض غسيل الأيدي فيفضل أن يكون قبالة القبلة لتحقيق إحدى سنن الوضوء بالنسبة للمتوضئ.
4- النهي عن الجلوس على جلود السباع والحرير الطبيعي
عن أبي المليح عن أبيه رضي الله عنهم: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع”، وفي رواية أخرى للترمذي:”نهى عن جلود السباع أن تفترش”.
فالأحاديث الكريمة تنهى المسلم عن الجلوس على جلود السباع، والجلوس على الحرير الطبيعي وستر الجدران به، مما يؤكد على عدم افتراش جلود السباع أو استخدامها كبسط داخل بيت المسلم، مع عدم استعمال الكسوات من الحرير الطبيعي سواء للمجالس أو الوسائد أو الحشايا، وعدم ستر الجدران أو النوافذ أو الأبواب بالحرير الطبيعي.
5- النهى عن تصوير الكائنات الحية
عن أبي زرعة رضي الله عنه قال: “دخلت مع أبي هريرة دار مروان بن الحكم، فرأى فيها تصاوير وهي تبنى فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: “قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي فليخلقوا ذرة أو فليخلقوا حبة أو فليخلقوا شعيرة”.
فالحديث الشريف ينهى عن تصوير الكائنات الحية سواء كانت على هيئة لوحات فنية، أو جدارية مسطحة، أو على هيئة تماثيل منحوتة.. وعلى ذلك فإنه يجب أن ينحصر وجود اللوحات الفنية أو الجدارية، على تصوير الطبيعة أو كل ما لا روح فيه، أو الأشكال الزخرفية التجريدية أو الهندسية دون إسراف أو مبالغة.
6- مراعاة العوامل البيئية
يقول تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)(سبأ:15).
إن الآية الكريمة تلفت النظر إلى أهمية اختيار مواقع المدن والتجمعات العمرانية من حيث المناخ الجيد والهواء الطيب، كما تلفت النظر إلى علاقة وجود الجنات الأرضية وتأثيرها على تحسين مناخ هذه التجمعات. فلقد أشارت الآية إلى وجود جنتين عن يمين وشمال مساكن بلدة سبأ، وهو مما يلفت نظر المصممين إلى أهمية تواجد الحدائق في التجمعات العمرانية كعنصر جمالي وبيئي في نفس الوقت، كما يجب أن لا نغفل دور إحاطة المساكن عن يمينها وشمالها بالحدائق، مما يحميها من الرياح المحملة بالرمال في حالة هبوبها على هذه التجمعات السكنية.
إن عملية تحديد علاقة الأماكن أو الفراغات العمرانية والمعمارية بالجهات الأصلية، لها أهمية قصوى، لأن ذلك سوف يؤثر على الأسلوب الذي تتعرض له هذه الأماكن للإشعاع الشمسي أو الرياح السائدة بكل منطقة، وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة بطريق غير مباشر، حيث أوضحت أن مريم -عليها السلام- انتبذت مكانًا شرقيًّا من حيث تطلع الأنوار في الصباح.. وكما نعرف الآن، فإنه ينصح بالتعرض للشمس عند طلوعها قبل أن ترتفع في السماء وتشتد أشعتها، لما في هذا التعرض من فوائد صحية جمة.
يقول تعالى: (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)(النحل:81)، لقد أورد الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير الآية الكريمة ما يلي: “لما كانت بلاد العرب شديدة الحر وحاجتهم إلى الظل كبيرة، فقد أوضح الله عزوجل أن الظلال إحدى نعمه التي منَّ بها على بني البشر، فالله سبحانه وتعالى قد خلق للبشر الأشجار التي توفر الظلال، كما جعل من الجبال مواضع للسكنى كالكهوف (كما في كهف أهل الكهف) يلجأ إليها الإنسان طلبًا للظل والحماية، كما ألهمهم اتخاذ الأبنية حماية لهم من الحر والبرد وطلبًا للظل”.
إن حرص القرآن الكريم على لفت الأنظار لأهمية الظلال في عمليات التصميم البيئي له شقان، الأول منهما يؤكد على أهمية العلاقة بين العوامل البيئية والعمران والبنيان الإسلامي، والثاني يوضح أن هذا التأكيد والحرص على أهمية الظلال يتفق مع القياسات العلمية الحديثة التي توضح أثر توفير الظلال في خفض درجات الحرارة داخل المباني والفراغات الخارجية المكشوفة.
7-توفير اللمسات الجمالية
من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله جميل يحب الجمال”؛ فالجمال ضرورة في حياة المسلم وأحد المعايير الواجب توافرها في بيته إن أمكن ذلك، فيمكن أن يكون أثاث البيت بسيط التصميم ولكنه جميل الشكل. ويمكن إضفاء اللمسات الجمالية بالمسكن عن طريق إيجاد حديقة صغيرة إذا سمحت المساحة بذلك، ويفضل أن تكون داخل فناء يتمتع بالخصوصية حتى يتسنى لأهل الدار حرية التمتع، والجلوس فيها بعيدًا عن أنظار المتطفلين.
8- النهي عن التطاول في البنيان
عن أبى هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله قال: “لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان”، كما يبين صلى الله عليه وسلم في الحديث عن علامات الساعة “وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان”.
إن عملية تحديد علاقة الأماكن أو الفراغات العمرانية والمعمارية بالجهات الأصلية، لها أهمية قصوى، لأن ذلك سوف يؤثر على الأسلوب الذي تتعرض له هذه الأماكن للإشعاع الشمسي أو الرياح السائدة بكل منطقة
والعلة من النهي عن التطاول في البنيان إذا كان فيه تفاخر ومباهاة، أو وقوع الضرر على الجيران في حالة جرح خصوصيات مساكنهم، أو حجب الشمس والهواء عنهم.. من هنا فإن ضابط تعدد الطوابق في العمارات السكنية يكون للحد الذي يضمن التوازن بين الكثافات السكنية والمسطحات والفراغات التي تبنى عليها، وذلك للوقاية من العديد من الأمراض الاجتماعية، والأضرار الأخلاقية التي يمكن أن تنتج عن التطاول في البنيان بلا ضابط أو رابط.
هذه هي بعض أهم معايير وضوابط تصميم مسكن المسلم في كل زمان ومكان، وهي كلها مستنبطة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، واضعة بذلك أهم الثوابت الواجب توافرها في مسكن المسلم مع مراعاة التوافق مع كل بيئة يبنى فيها المسكن، وكذلك الإمكانات المادية لكل مجتمع.
بقلم / يحي وزيري