التقرير: ياوز أجار
نقدم لمتابعي النسخة العربية لصحيفة “زمان” التركية التقرير الذي أعددناه لمجلة ومركز “نسمات” للدراسات الاجتماعية والحضارية -الإصدارة السادسة- وسننشره على شكل حلقات سبق أن نشرنا الحلقة الأولى منه تحت عنوان “بالأدلة والمستندات… الانقلاب المدبر في ذكراه السنوية الثانية”.
هذه الدراسة محاولة لإزاحة الستار عن خيوط الانقلاب الفاشل الذي شهدته تركيا في 15 يوليو/تموز 2016 وأسفر عن خضوع 402 ألف شخص لتحقيقات جنائية، واعتقال ما يقارب 80 ألفًا، بينهم 319 صحفيًا، وإغلاق 189 مؤسسة إعلامية، وفصل 172 ألفًا من وظائفهم، ومصادرة 3003 جامعة ومدرسة خاصة ومساكن طلابية، بالإضافة إلى وفاة نحو 100 شخصًا في ظروف مشبوهة أو تحت التعذيب أو بسبب المرض جراء ظروف السجون السيئة، وفرار عشرات الآلاف من المواطنين إلى خارج البلاد، وفق التقارير الأخيرة التي نشرتها المنظمات الدولية ومنها تقرير منظمة العفو الدولية مطلع شهر مايو/أيار 2018، علمًا بأن هذه الأرقام قابلة للتغيير نظرًا لاستمرار العمليات الأمنية بتهمة المشاركة في الانقلاب على الرغم من مرور عامين كاملين على وقوعها.
أولاً: الخدمة في مرمى الانقلابيين منذ 1997
عديد من الباحثين والكتاب يعيدون جذور انقلاب 15 يوليو / تموز 2016 إلى ما سمي بـ”انقلاب 28 فبراير/شباط 1997 الناعم”، أو بشكل مختصر “عملية 28 فبراير الانقلابية” قبل 21 سنة(1)، التي استهدفت الحكومة الائتلافية بين حزب الرفاه “الإسلامي” وحزب الطريق القويم “اليميني” في الظاهر وإن كان المجتمع المدني هو هدفها الأساسي.
قد يبدو الأمر نوعا من المبالغة، لكن إذا تابعنا بدقة التصريحات التي أدلى بها القائمون على هذا الانقلاب قديمًا وحديثًا فسندرك صحة هذا التشخيص، ويتبين لنا أن ما فعله أردوغان من خلال تدبير انقلاب صوري على ذاته ليس إلا “تتمة دموية” لذلك الانقلاب في 1997.
ما فعله أردوغان من خلال تدبير انقلاب صوري على ذاته ليس إلا “تتمة دموية” لـ”انقلاب 28 فبراير/شباط 1997 الناعم”
1ـ بعض التصريحات التي تؤكد ذلك
لقد أعلن رئيس الأركان عام 1997 “حسين كفريك أوغلو” أن “عملية 28 فبراير/ شباط (الانقلابية) ستستمر لألف سنة قادمة”(2) (3).
إن حجم الضرر الذي تعرض له المجتمع المدني بكل أطيافه من انقلاب 1997 أكثر بكثير من الضرر الذي تعرضت له الحكومة آنذاك والتي خضعت للضغوطات العسكرية ووافقت على تطبيق ما سمي حينها “قوانين مكافحة الرجعية الدينية”(4)، وهي ذاتها القوانين التي أعلن زعيم حزب الوطن اليساري العلماني المتطرف “دوغو برينتشاك” أنه من حرر نصوص 11 مادة من مواد هذه القرارات ووقع عليها رئيس الحكومة آنذاك نجم الدين أربكان بإرادته المحضة،(5) (6) على حد قوله.
كما صرح “دورسون تيتشاك”، رئيس دائرة “الحرب النفسية” في الجيش سابقًا، وأحد المتهمين في إطار قضية أرجنكون، لصحيفة (حريت) في شهر مارس/آذار من عام 2016 أن “الهدف الأساسي من انقلاب 28 فبراير/شباط 1997 كان الرجعيةَ الدينية والمقصود بها 80% حركة الخدمة وباقي النسبة للحركات والجماعات الدينية الأخرى.”(7). وما كتبه برينتشاك الذي كان أكبر الداعمين لانقلاب 1997 في صحيفة “آيدينليك” في 25 يناير/كانون الثاني 2017 يؤكد ما قاله الجنرال تيتشاك من أن: “عملية 28 فبراير/ شباط (الانقلابية) استهدفت تحالف تنظيم فتح الله كولن وحكومة تيشلّر (الائتلافية مع أربكان)، وأن تشخيص خطورة هذا التنظيم للجمهورية التركية لعب دورًا مهمًّا في هذه العملية”(8).
ومن ثم ينتقل برينتشاك إلى هذه الأيام ويؤكد أن “تركيا عادت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 إلى برنامج عملية 28 فبراير/ شباط (الانقلابية) عقب تعرضها للانقطاع”(9). ويعني برينتشاك “بعد محاولة الانقلاب الفاشلة” حركة التصفية الشاملة التي انطلقت في صفوف الجيش والأمن والقضاء وكل فصائل الحياة المدنية، والتي أكد برينتشاك أنه هو ورفاقه من أعدوا قائمة الأسماء الواجب تصفيتها.
ويصب في هذا الاتجاه أيضًا تصريحات نائب رئيس حزب الوطن “نُصرتْ سنيم” حيث قال: “قرارات 28 فبراير/ شباط (الانقلابية) لم تتخذ ضد نجم الدين أربكان. بل كان هدفها الحقيقي هو تانسو تيشلّر (زعيمة حزب الطريق القويم شريكة الحكومة الائتلافية مع أربكان) وحليفها تنظيم فتح الله كولن…”(10).
ويعزز هذا أيضًا رئيس الأركان العامة السابق “إيلكار باشبوغ” الذي سبق أن سجن في إطار قضية أرجنكون فقد قال: “أردوغان كان أفضل شخصية لمكافحة تنظيم فتح الله، لولاه لما قطعنا شوطًا بعيدًا في هذا الصدد”(11). وسبب ذلك يفسره الكاتب الصحفي من جريدة آيدينليك “صباح الدين أونكبار” بقوله: “بغضّ النظر عن حبكم أو كراهيتكم للرجل، فإن أردوغان كان الترياق الشافي لسمّ تنظيم فتح الله كولن… ولا يمكن لأحد إطلاقًا أن يحل محله في هذا الأمر. تخيلوا أن الآلاف من النساء المحجبات من هذا التنظيم قابعات في السجون! لو لم يكن أردوغانُ الحاكمَ في تركيا اليوم لكانت هناك دعاية بأن هذه الخطوة هدفها معاقبة النساء المحجبات. لذا فإن الطريقة التي يتبعها أردوغان مهمة للغاية للنجاح في تصفية تنظيم كولن…!”(12).
رئيس الأركان العامة السابق: “أردوغان كان أفضل شخصية لمكافحة تنظيم فتح الله، لولاه لما قطعنا شوطًا بعيدًا في هذا الصدد”
وإذا علمنا أن القوى التي حرضت ونفذت انقلاب 1997 هي عينها التي تقود اليوم الحرب الشاملة ضد حركة الخدمة مع حليفها أردوغان من خلال “حالة الطوارئ” التي أعلنت بعد الانقلاب المزعوم، ثم اكتسبت صفة دائمة في البلاد، فإنه من السهولة بمكان أن نستنتج أن انقلاب 2016 ليس إلا امتدادًا لانقلاب 1997 وأن حركة الخدمة هدف هذين الانقلابَينِ الغاشمَينِ.
2ـ من وراء الانقلابَيْن؟
لا يمكن استيعاب حقيقة الانقلاب الفاشل من دون معرفة “العصابة” التي تقدم نفسها وكأنها “الدولة العميقة” في تركيا. هذه العصابة تولدت من رحم “دائرة العمليات الخاصة” التي شكّلها حلف شمال الأطلسي ضمن وحدة القوات الخاصة للجيش التركي بشكل سري، مثلما شكل نظائرها في جميع الدول الأعضاء أثناء الحرب الباردة (1947 -1991) لتكون سدًّا منيعًا أمام أطماع الاتحاد السوفيتي التوسعية. فلما اتخذ الناتو قرارًا بتصفية هذه الدائرة وأمثالها في الدول الأعضاء في سبعينات القرن الماضي قاوم ذلك بعضُ عناصر “الفريق” الذي أشرف على عمل هذه الدائرة وألقى بنفسه في أحضان المعسكر الأوراسي، وجعل من عناصر تلك الدائرة المدربين على الحرب غير النظامية وأموالها ونفوذها عصابة أو تنظيمًا سريًّا يمسك بزمام الأمور من وراء الحجب. وقد ذُكرت هذه العصابة السرية بأسماء مختلفة كـ”الكيان العميق” و”كونتر غريلاّ” قبل تسعينات القرن الماضي، وعصابة “أرجنكون” بعد هذا التاريخ حتى اليوم. تسللت هذه العصابة إلى مواقع حساسة في أجهزة الدولة، خاصة في المؤسسة العسكرية، من أجل تكوين قوة تمكنها من “الانفلات من قيود الدستور والقانون” و”الحصول على امتيازات خاصة”، و”تبرير أعمالها المارقة”، من خلال استخدام أساليب مافيوية من قبيل التهديد والوعيد والقتل والاغتيال والابتزاز والضغط والفوضى والبلبلة وغيرها.
هذه العصابة التي تضمّ أذرعًا كثيرة كـ “الأخطبوط” خلقت “خطر الشيوعية واليسارية” ووظفته في إعادة تصميم أجهزة الدولة وشرائح المجتمع المدني، كما كانت عاملاً رئيسيًّا في دفع المؤسسة العسكرية إلى القيام بانقلابات عسكرية في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي للقضاء على الصراعات التي كانت تحدث بين تنظيمات ومجموعات تابعة لها تبدي العداء والكراهية لبعضها البعض مع أنها إنتاج مصنع واحد. وعندما زال خطر الشيوعية بعد الحرب الباردة في تسعينات القرن الماضي احتاجت هذه العصابة إلى ذريعة جديدة لكي تستمر في عملية تصميم الدولة والمجتمع، فوجدت ضالتها فيما وصفته بـ “الرجعية الدينية” تزامنًا مع الموجة الإسلامية التي أثارتها الثورة الإيرانية “الإسلاموية” في طول العالم الإسلامي وعرضه وفي المقدمة تركيا.
اضغط هنا لمزيد من المعلومات حول تاريخ الدولة العميقة في تركيا
لكن بالتزامن مع زيادة أنشطة العصابة عقب خروجها عن الإطار القانوني بالكلية، خاصة بعد الاغتيالات الصاخبة وآلاف الجنايات مجهولة الفاعل في شرق تركيا ذات الأغلبية الكردية، أبدى كثير من السياسيين والعسكريين والبيروقراطيين انزعاجهم منها، وعلى رأسهم رئيس حكومة حزب اليسار الديمقراطي “بولنت أجاويد”، ورئيس حكومة حزب الوطن الأم “طرغوت أوزال” الذي قتل مسمومًا، والقائد العام لقوات الدرك الجنرال “أشرف بتليس” الذي اغتيل في تسعينات القرن الماضي، ورئيس شعبة مكافحة الإرهاب في جهاز المخابرات “هرم عباس” الذي كان يقود مشروع “إضفاء الطابع المدني على المخابرات” بأمر من أوزال، وقضى نحبه إثر عملية اغتيال أيضًا على يد هذه العصابة. بل أبدى رئيس الأركان العامة الأسبق “كنعان أفرين” الذي انقلب على الحكومة في 1980 استياءه من أنشطتها كذلك، إذ كتب في مذكراته أنه بعد أن تسلّم رئاسة الأركان العامة وجه دائرة العمليات الخاصة المذكورة للقيام بوظيفتها الأصلية، وأكد للمشرفين عليها أنه لا يريد أن يسمع مرة أخرى حديثًا عن تنيظم “كنتر غيريلا”، الاسم الذي كان أطلق في ذلك الوقت على هذه العصابة(13).
في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1996، أي قبل سنة واحدة من انقلاب 1997 الناعم على حكومة حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان، وقعت فضيحة “سوسورلوك” المرورية الشهيرة التي أظهرت إلى العلن لأول مرة العلاقات القذرة بين ثلاثي “الدولة-السياسة-المافيا”، أو بعبارة أخرى “عصابة أرجنكون”(14)، الأمر الذي أثار قلقًا كبيرًا لدى قادتها من العسكريين والمدنيين ودفعهم إلى التفكير في إعادة هيكلة الدولة والمجتمع لكي يستمر حكمهم في البلاد من وراء الستار وإن كانت في الواجهة حكومات منتخبة ديمقراطيًّا.
ثانيًا: لماذا الخدمة؟
لم يكن هدف عصابة أرجنكون التي دبرت وحرضت على انقلاب 1997 هو القضاء على حكومة “أربكان”، كما ذكرنا أعلاه، بل دأبت على استغلال الصراع بين ممثلي “الإسلام السياسي” و”العلمانيين” لقمع ما يمكن التعبير عنه بـ “الإسلام المدني” طيلة تاريخ الجمهورية الوليدة. فهذه العصابة كانت تضع أمام القيادات المتنفذة في الجيش وأجهزة الدولة الحساسة فزاعة “الرجعية الدينية الساعية إلى هدم أسس الدولة العلمانية”، محاوِلةً تجسيدها في “حركة الخدمة”.
أما لماذا وقع اختيارها على الخدمة بالذات لتمثل هذه الفزاعة التي يحتاجونها فيمكن أن نرجع ذلك للأسباب التالية:
1ـ انتشار الخدمة الواسع داخليًّا وخارجيًّا
لقد وقع اختيار عصابة أرجنكون على الخدمة بالذات دون غيرها من سائر الحركات نظرًا لانتشارها الواسع في الداخل والخارج وتناسبها مع حجم “الخطر” و”التهديد” الذي صوروه وضخموه في أذهان الرأي العام من أجل اختلاق الذريعة اللازمة لتصفية كل العسكريين ورجال الأمن والبيروقراطيين الذين حمّلتهم مسئوليةَ الكشف عن “سريتها” من خلال حادثة سوسورلوك المذكورة، كما كانت تستغل خطر الشيوعية في أيام الحرب الباردة للسيطرة على الحكم. أو بعبارة أكثر دقة إنها كانت تخطط للقضاء على “المناخ الديمقراطي” و”السلم السياسي” الذي حاول الرئيس الراحل طرغوت أوزال خاصة، والحكومات اليمينية واليسارية “المعتدلة” عامة، تـأسيسه بين الدولة والجماهير العريضة من جانب؛ ومن جانب آخر “السلام المجتمعي” الذي حاولت حركة الخدمة مع شقيقاتها الأخرى من منظمات المجتمع المدني إقامته بين أصحاب الديانات والأفكار والأعراق والمذاهب المختلفة في البلاد(15).
2ـ الطبيعة الحضارية لحركة الخدمة
رغم عزم عصابة أرجنكون على استهداف حركة الخدمة وجعلها فزاعة تتذرع بها لإجراء عملية جراحية في الدولة والمجتمع على حد سواء، فقد كانت هناك مشكلتان رئيستان تحُولان دون إلصاق تهمتي “الرجعية” و”هدم العلمانية” بهذه الحركة، إذ كانت تتميز عن الحركات ذات المرجعية الدينية التقليدية بوصفين مهمين وهما:
أ- الأصالة الإسلامية الوسطية من حيث الروح والمعنى
بـ- المعاصَرة من حيث الشكل والصورة والأدوات
فهي حركة تلتزم بمعارف الوحي الأصلية، وفي الوقت ذاته تتفاعل مع الحداثة والديمقراطية وتقبل الاجتهادات والتفسيرات الجديدة، وتتبنى “الانفتاح” و”الحوار” مع “الآخر” من أصحاب الأفكار والأديان والثقافات الأخرى في” تركيا” و”العالم” كله. لذلك جعلها الوصف الأول تلتقي في نقطة مشتركة مع المذاهب والحركات الفكرية الإسلامية التقليدية، لكنه في الوقت نفسه حمل “العلمانيين المتطرفين” على اتهامها بـ”الرجعية والتخلف”، و”السعي لهدم العلمانية” و”تأسيس دولة الشريعة” على حد تعبيرهم. وفي حين أن الوصف الثاني جعلها تتقارب من “العلمانيين المعتدلين” وتلتقي معهم على أساس قبول كل طرفٍ للآخر كما يعرّف نفسه دون أي إملاءٍ من الطرفين، فإن ذلك الوصف أيضًا دفع أنصار “الإسلام السياسي” إلى اتهامها بـ”العلمانية” و”العمالة للولايات المتحدة والغرب وإسرائيل” ولو بصوتٍ خافت في البداية خشية خسارة أصوات الحركة في الانتخابات.
وقد صارت مواجهة الخدمة لهذين النوعين المتناقضين من الاتهام قدرها المحتوم خاصة في ظل تمسكها بهذين الوصفين وعدم تخليها عن أيٍّ منهما. ومن ثم كانت تتعرض على الدوام لانتقاد كل من العلمانيين “المتطرفين” والإسلاميين “المتشددين” المنحصرين داخل منظومة ضيقة مغلقة رافضة للانفتاح والحوار. فالعلمانيون المتطرفون هاجموها بحجة “الحفاظ على علمانية الدولة”؛ بينما الإسلاميون استهدفوها بحجة دعم بعض المتعاطفين معها للأحزاب اليمينية بدلاً من حزبهم “الإسلامي” واختلاف منهج الطرفين في الفكر والعمل.
وفي المقابل كانت الخدمة تأخذ على الفريقين احتكارهما العلمانية والإسلام في أنفسهما، واستغلالهما “الأيديولوجي” و”المصلحي” لهما، وتحويلهما تصورهما عن العلمانية والإسلام إلى “طغمائية” غير قابلة للتغيير والتفسير والزيادة والنقص، ورفضهما أي فكر معتدل بديلا عنهما، واتخاذهما من العلمانية أو الإسلام “أداة” لشيطنة الآخر، و”درعًا” للحيلولة دون أي نقد قد يوجه إليهما ولو كان بنّاءً إيجابيًّا
3ـ لغة جديدة في المجتمع
امتدت نشاطات الخدمة التعليمية والإنسانية إقليميًّا ودوليًّا، خاصة في الجمهوريات التركية المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي في أعقاب انهياره، ونجحت في تقديم حلول ناجعة لإقامة جسور ورأب الصدع المجتمعي بين العلمانيين والإسلاميين، والأتراك والأكراد، والعلويين والسنة، والقوميين والأقليات الأجنبية، وأطلقت حركة حوار شاملة مع كل مكونات المجتمع، داعية الجميع إلى نبذ العنف والتخلي عن الصراع والنزاع، وإيثار لغة الحوار ونشر ثقافة التعايش السلمي. ونتيجة لهذه الجهود الحثيثة استجابت فئات كثيرة من الشعب لهذه الدعوات، وبدأت لغة جديدة تسري في المجتمع وهي لغة الحب والاحترام والقبول بين المختلفين فكريًّا وثقافيًّا وعرقيًّا ودينيًّا، واتفقوا ضمنيًّا دون تسمية على “احترام أي فكر أو اتجاه أو دين” و”التخلي عن التوظيف السياسي للعلمانية والدين”، وكانت أنظار الرأي العام تتركز على سنّ دستور جديد بمقاييس عالمية تحمي وتحترم حقوق كل إنسان بغضّ النظر عن فكره ومذهبه وعرقه ودينه.
وبهذه اللوحة الجديدة التي عملت حركة الخدمة ومن لف لفها من منظمات المجتمع المدني الأخرى على رسمها وتشكيلها تم حرمان عصابة أرجنكون من الأرضية الخصبة التي كانت تستثمرها لصالحها وهي أرضية الاستقطاب المجتمعي الحاد الذي يخلق بؤرًا متنوعة من الصراعات والنزاعات.
اضغط هنا لمزيد من المعلومات حول طبيعة حركة الخدمة وأسباب خلافها مع أردوغان
ثالثًا: خطة أرجنكون للقضاء على الخدمة
اكتسبت الخدمة شعبية كبيرة في الداخل والخارج بسبب خطابها الحضاري، وتبنيها لغة توافقية تجمع بين مختلف أطياف المجتمع، وترفض التصنيف والإقصاء والتهميش والانعزال، ومن ثم كان من الصعب على عصابة أرجنكون تصويرها على أنها فزاعة راديكالية رجعية متشددة. لذا اضطرت إلى تغيير تكتيكاتها والالتجاء إلى طرق ملتوية لتحقيق غرضها عبر وضع خطة مكونة من ثلاث خطوات:
1ـ دعاية سوداء للحطِّ من قيمة مؤسسات الخدمة وأنشطتها، واغتيالها معنويًا في المجتمع.
2ـ إعلان الخدمة حركة إرهابية “غير مسلحة” أولاً.
3ـ ثم إعلانها حركة إرهابية “مسلحة”.
1ـ التشويه المنظم
لترجمة هذه الخطة على أرض الواقع أطلقت العصابة دعاية سوداء ضد الحركة أثناء عملية 28 فبراير/شباط الانقلابية من خلال مجموعتين متناقضتين في الظاهر متعاونتين في الخفاء:
– مجموعة معادية لأي مظهر من مظاهر الإسلام في القطاع العام والخاص.
-مجموعات إسلامية متطرفة، تتبنى نهجًا راديكاليًّا معاديًا للدولة.
فالمجموعة الأولى كان يقودها دوغو برينتشاك(*) الذي استطاع بعد 2012 استقطاب أردوغان إلى صفه بشكل أو بآخر وعقد معه تحالفًا استراتيجيًّا لا يزال مستمرًا إلى اليوم.
حاولت المجموعة الأولى بقيادة برينتشاك تشكيل رأي عام عن الخدمة يصنفها بأنها “حركة إسلامية متطرفة” تسعى لقلب النظام من العلماني إلى الشريعة؛ في حين روجت المجموعة الثانية -التي ضمَّت حزب الله “التركي” وتنظيم “السلام والتوحيد” المواليين لإيران، وجماعات “عجزي مندي” و”تحشية” المرتبطتين بـ”تنظيم القاعدة” و”حيدر باش” المتطرفة- شائعات تتضمن اتهام حركة الخدمة بأنها “حركة تظهر الإسلام وتبطن اليهودية أو المسيحية وتعمل لصالح أمريكا وإسرائيل”، بل وصمت هذه المجموعة فتح الله كولن رائد حركة الخدمة، بأنه “جاسوس الفاتيكان” لمجرد أنه التقى البابا في إطار جهود حوار الأديان. كما عملت هذه المجموعات “الإسلامية” على إعداد فيديوهات ومنشورات تحتوي على آراء لكتاب و”علماء دين” متطرفين تكفّر وتضلّل كولن وأفراد حركة الخدمة وتتهمهم بالعمالة للغرب(16).
كانت مؤسسات الخدمة التعليمية من مدارسَ وجامعاتٍ ومعاهدَ للتحضير الجامعي وصالات للقراءة والمدارسة الهدفَ الأول لعصابة أرجنكون، لأنها كانت ترى أن تلك المؤسسات مسؤولة عن انفلات “المجالات العلمية والاقتصادية والبيروقراطية” في البلاد من أيدي أقلية نخبوية قديمة ومهيمنة إلى الطبقات الشعبية العريضة، الأمر الذي جعلها تتهم الحركة باختراق الدولة والتوغل في مؤسساتها. لذلك نشر إعلامها “العلماني” المؤدلج أخبارًا مفبركة تزعم أن حركة الخدمة تدرّس “الشريعة” في مؤسساتها التعليمية، لإثارة حفيظة العلمانيين في الجيش وأجهزة الدولة الأخرى والمجتمع، مع أن كافة البرامج في مؤسسات الخدمة التعليمية هي عينها البرامج الرسمية السائدة في البلاد؛ وفي المقابل اشتغل الإعلام “الإسلامي” الموجَّه على إشاعة أنباء مفادها أن الخدمة لا تدرّس العلوم الإسلامية وتتبنى المنهج العلماني لتشوه صورتها لدى الملتزمين دينيًا وتشكل رأيًا عامًّا سلبيًّا عنها.
2ـ تهمة اختراق مؤسسات الدولة
سعى هذا التنظيم لاتهام الخدمة بأنها تعمل على اختراق مؤيديها لمؤسسات الدولة وهي التهمة القديمة الجديدة الذي حاول كل نظام سواء أكان علمانيًّا أم “إسلاميًّا” إلصاقها بالخدمة أو معارضيه، وقد رد الأستاذ كولن على هذا الاتهام بنفسه قائلا: إن تشجيع أي إنسان لأفراد شعبه على دخول بعض مؤسسات بلاده في إطار القانون لا يمكن تسميته بـ”الاختراق”، لأن الملتحقين بهذه المؤسسات مواطنون أتراك، والمؤسسات تركية، وبالتالي فالمؤسسات ملك هذا الشعب وهذه الدولة”. ثم أشار إلى نقطة مهمة بقوله: “إن الاختراق الحقيقي في تركيا جرى فعلاً في فترة معينة على أيدي فئة قليلة لا تنتمي إلى الأمة التركية. فالذين يتهمون اليوم أبناء الأمة التركية باختراق دولتهم ربما يسعون للتستر على اختراقهم الحقيقي للدولة التركية. ولعل قلقهم نابع من أن أبناء هذه الأمة لاحظوا اختراق هذه المجموعات لمؤسسات دولتهم. فالأتراك لا يخترقون مؤسسات دولتهم، بل الدخول إليها والتوظيف فيها حق قانوني ومشروع لهم، فهم يستطيعون أن يدخلوا إلى السلك السياسي والقضائي والجيش والاستخبارات والخارجية في إطار القوانين واللوائح الخاصة بتلك المؤسسات الرسمية دون أي مانع”(17) (18).
كانت عصابة أرجنكون تسعى إلى توفير الحصانة القانونية لأعضائها وأعمالها المارقة ومن ثم فقد كانت ترى في كل مسئول سياسي ملتزم بالديمقراطية أو موظف إداري ملتزم بالدستور والقانون خطراً يهددها، وتسعى إلى تصفية هذا النوع من السياسيين أو الموظفين بأي ذريعة. لذلك لم يتوقف هذا النوع من الأخبار الساعية إلى تشويه سمعة الخدمة وشيطنتها وإقناع الشعب بضرورة إغلاق مؤسساتها، ومنع تسلل المتخرجين فيها من الطلبة إلى أجهزة الدولة المختلفة حتى اليوم.
في ظل هذه الأجواء الخانقة، اتخذ كولن قراراً بمغادرة تركيا إلى أمريكا عام 1999، لكن السلطات القضائية -بتحريض من عصابة أرجنكون- فتحت ضده دعوى في 22 أغسطس/آب 2000 تتهمه فيها بـ”التحريض على هدم الدولة العلمانية لتأسيس دولة الشريعة” و”تشكيل منظمة إرهابية غير مسلحة”.
3ـ فشل وصم الخدمة بالإرهاب
كانت عبارة “منظمة إرهابية غير مسلحة” تدل أساسًا على دراية أرجنكون بأنها لن تجد لمزاعمها مؤيدين سواء في تركيا أو العالم الخارجي لو ادعت على الخدمة بأنها حركة إرهابية “مسلحة”، فسيرة الخدمة النزيهة الممتدة لأكثر من 40 عامًا كانت ستدحض كل هذه المزاعم على الفور، ومن ثم لجأت إلى تشكيل تنظيمات وجماعات إسلامية متطرفة كتنظيم “حزب الله” المسلح، ومجموعات “عجزي مندي” و”تحشية” و”حيدار باش” المتطرفة، وسعت إلى خلق علاقات وصِلات بينها وبين الخدمة، بهدف الدعاية أنها لا تختلف كثيرًا عن هذه الحركات الإسلامية المتطرفة أو المسلحة. بل إنها بادرت إلى وضع أسلحة في مؤسسات الخدمة خُفية لتجسيد هذه الصورة في نظر الرأي العام، كما يفعل اليوم نظام أردوغان. لكن رغم هذه الدعاية السوداء التي تهدف إلى النيل من سمعة مؤسسات الخدمة فإنها لم تنجح في ترويج هذا الاتهام بين السواد الأعظم من العلمانيين والمسلمين “المعتدلين”(19).
ويمكن القول إن انفتاح حركة الخدمة بمؤسساتها التعليمية على جمهوريات وسط آسيا، ونجاحات الطلبة الدارسين فيها في المسابقات العلمية العالمية، وحسن سلوكهم وأخلاقهم بشهادة الجميع، قد أسهم في فشل ترويج مثل هذه الدعايات المغرضة وقضى عليها في مهدها.
ورغم هذا الكم الهائل من التضليل والتشويه الإعلامي في حق الخدمة وتسليط شتى أجهزة الدولة عليها فإنها التزمت بالأطر والأعراف القانونية ولم تحاول الخروج عنها قط كما هو الحال في الوقت الراهن، واكتفت بتسليط الأضواء على الحقائق عبر وسائل إعلامها من جهة، والاحتكام إلى القضاء للدفاع عن نفسها من جهة أخرى.
وإذا كانت عصابة أرجنكون قد فشلت في إقناع الرأي العام باختراق الخدمة لأجهزة الدولة، فإنها نجحت في تصفية الآلاف من العسكريين وأعضاء الأمن والقضاء والسلك البيروقراطي منذ بدايات انقلاب 1997 حتى 2002 بتهمة ممارسة “الرجعية الدينية” أو “الانتماء إلى حركة الخدمة”، رغم أن جميع المفصولين لم يكونوا من الخدمة بل كانوا ينتمون إلى شتى المجموعات والحركات الفكرية.
ومن المثير أن هذه العصابة كانت تقود دعاية سوداء ضد المطرودين من هذه المؤسسات حتى لا يتوظفوا في القطاع العام، تمامًا مثلما يفعل اليوم نظام أردوغان بل يتجاوز ما كان في تلك الفترة بخطوات، حيث لا يسمح للمفصولين بقانون الطوارئ بالعمل ليس في القطاع الحكومي فحسب وإنما في القطاع الخاص أيضًا.