برلين (زمان التركية)ـــ نشر الكاتب د. نصر محمد عارف مقالا بموقع (العين الإخبارية) يرصد من خلاله الخطر الاقتصادي الذي يحدق بدولة تركيا ويهدد سلطان رئيسها التركي رجب طيب أردوغان، مع هجرة رأس المال الدولي، الأسواق الناشئة مثل تركيا لغياب الاستقرار فيها، وبسبب الصراعات التي تحيط بتركيا من الجنوب. ورأى الكاتب أن التحولات السياسية لأردوغان الذي احتفل مؤخرًا بتنصيبه رئيسا للبلاد، تتحول شيئا فشيئا إلى وسيلة لإجهاض الإنجاز الاقتصادي الذي سبق أن حققه الرئيس وحزبه الحاكم.
وجاء في المقال: علاقة الاقتصاد بالسياسة علاقة معقدة جداً، يظن البعض أن السياسة هي التي تتحكم في الاقتصاد، أو أنها هي الأصل، والاقتصاد فرع لها، أو أن السياسة هي الحاكم والاقتصاد هو المحكوم.. والحقيقة وراء ذلك، وبعيدة عنه جدا، بل قد تكون عكسه، فمن حيث تطور تاريخ العلوم كان الاقتصاد أسبق ظهوراً من السياسة إلى الحد أن في بدايات علم السياسة كان فرعا من فروع علم الاقتصاد يسمى: الاقتصاد السياسي، ومن حيث الواقع فإن السياسة هي في الظاهر قمة الهرم، ولكن قاعدته هي الاقتصاد، وبدون القاعدة لا وجود للقمة، ولذلك فإن من يظن أن امتلاك المناصب السياسية يمكن أن يحقق الأهداف الاقتصادية فهو واهم أو مغرور؛ لأن للاقتصاد مفاعيله، وتفاعلاته، وأياديه الخفية، وقواه غير المرئية التي لا يمكن للسياسي أن يتحكم فيها بمجرد أن يتمكن من المنصب السياسي.
الاقتصاد حلقة وسطى بين الدولة والمجتمع، في الظاهر تديره الدولة، وفي الحقيقة يتحكم فيه المجتمع، فلا تستطيع القرارات السياسية أن تجبر المجتمع على التوفير والادخار ما لم تكن هذه الثقافة موجودة في المجتمع بمحض إرادة ورغبة أفراده، ومن ثم لن يتكون رأس المال الذي هو أهم عناصر العملية الاقتصادية إلا بقرار من المجتمع؛ ممثلا في ملايين الأفراد الذين يختارون الادخار بدلاً من الإنفاق، ويمكنون الدولة والقطاع الخاص من توظيف رأس المال الضروري للعملية الاقتصادية، وكذلك لا تستطيع القرارات السياسية أن تجبر أفراد المجتمع على العمل، أو إتقان العمل، أو الجودة في العمل، لأن ذلك من صميم ثقافة المجتمع، ولا يملك أحد أن يجبر فردا على الإبداع أو الإتقان أو الجودة.. كل العمليات الاقتصادية الأساسية تأتي من خارج القرار السياسي، من المجتمع. لذلك فإن الإمساك بتلابيب السياسة، والاستحواذ عليها لا يضمن النجاح الاقتصادي ما لم يكن المجتمع في حالة توافق مع صانع القرار السياسي، أو من يملك السلطة السياسية على نفس الأهداف ونفس الخطط.
لقد صعد حزب العدالة والتنمية التركي، ورئيسه السيد رجب طيب أردوغان بإنجازات اقتصادية؛ بدأت بقليل من السلطة السياسية وكثير من التأييد والدعم المجتمعي، وتصاعدت حينما منح المجتمع المزيد من السلطة ومن القوة السياسية لذلك الحزب ورئيسه، حينما رأى الإنجازات الاقتصادية التي انعكست على حياة الشعب التركي رخاءً، ورفاهيةً مجتمعية، وتحسناً في مستويات الحياة، والبنية التحتية، والتعليم والصحة، وظل الشعب التركي وفياً لهذا الحزب ورئيسه طالما استمر هذا الإنجاز الاقتصادي الذي يشعر به المواطن العادي في حياته الشخصية، وفي مستوى الخدمات التي يجدها حين يحتاج إليها في مختلف مرافق المجتمع والدولة.
ولكن للأسف لم يكن حزب العدالة والتنمية بنفس القدر من الوفاء للمجتمع الذي منحه السلطة السياسية، وبدأ الحزب وقيادته يوظف تفويض المجتمع له لتحقيق أهداف أيديولوجية تتعلق بالحزب وقيادته والجماعة الدينية عابرة الحدود التي ينتمي إليها، بدأت الدولة التركية تتورط في صراعات خارجية لا علاقة لها بمصالح الشعب التركي وحياته، ولكنها من صميم مصالح النخبة المسيطرة على حزب العدالة والتنمية، والتي تحولت إلى مجرد “صبيان” لرئيس الحزب الذي تضخمت ذاته حتى فاقت إمكانيات الفضاء التركي على استيعابها، وظن رئيس الحزب السيد أردوغان أنه يعيش في تاريخ الدولة العثمانية حين كانت تستعمر الكثير من دول العالم الإسلامي وغير الإسلامي، وبدأ يتصرف طبقا لهذا الوهم الذي غرق فيه، ولم يستطع الخروج منه، فخسرت تركيا شركاء اقتصاديين في مصر ودول الخليج العربي الكبيرة، سوريا والعراق وليبيا واليمن.. إلخ، ولم يبق معها من دول الجوار العربي إلا إمارة قطر الصغيرة، وبعض الدول التي لا تملك اقتصادات كبيرة في العالم العربي.
هنا تحولت السياسة، كما مارسها أردوغان وحزبه، إلى وسيلة لإجهاض الإنجاز الاقتصادي الذي سبق أن حققه أردوغان وحزبه، ودخلت الحالة التركية في صدام نكد لا ترغب فيه أي دولة، ذلك الصدام الذي يحدث عندما تكون حركة السياسة عكس متطلبات الاقتصاد، واستمر الرئيس التركي أردوغان يسير كالنائم خلف أحلامه السياسية غير مكترث بتأثيراتها على اقتصاد بلده الذي كان نجاحه فيه سبباً في تزايد وتصاعد قوته السياسية، فخسر كثيراً من الشركاء في الاتحاد الأوروبي، وبدأ في تفجير الصراعات بعد أن كاد رئيس وزرائه السابق الدكتور أحمد داود أوغلو أن يصل بعدائيات تركيا إلى الصفر، فقد رفع شعار “تصفير العداءات”، ولكن أردوغان تخلص من الدكتور أوغلو ومن شعاره، وكاد أن يصل بالعداءات إلى نسبة مائة في المائة.
وحين بدأت الأزمة الاقتصادية التركية في التصاعد، وكان من أهم مؤشرات هذه الأزمة ارتفاع نسبة التضخم، وحالة الكساد، وتراجع الاستثمارات، وتدهور قيمة العملة، في هذه اللحظة خاف أردوغان على ضياع أحلامه وأوهامه الشخصية في أن يكون سلطاناً عثمانياً جديداً خارج التاريخ، وبدون الجغرافيا، فبادر بالتحول إلى النظام الرئاسي الذي يحقق له هذا الحلم قبل أن تتفاقم الأزمة الاقتصادية، وتصل مفاعيلها إلى المجتمع، ويفقد القاعدة الاجتماعية التي استفادت من إنجازاته الاقتصادية بعد أن تتبخر هذه الإنجازات.. هنا انحاز أردوغان للسلطة السياسية حتى بدون قاعدتها الاقتصادية، ونجح في تحقيق أهدافه، ووصل إلى نوع جديد من السلطة في تركيا يصبح فيها الحاكم بأمر الله في الشعب التركي، دون أن يدري أن لهذا ثمنا عظيما، فالسلطة المطلقة التي حصل عليها سوف تحمّله مسؤولية مطلقة عن كل ما يحدث في تركيا، ومن ثم فأي فشل في أي قطاع خصوصاً الاقتصاد وحياة الناس سوف يكون هو وحده المسؤول الأول أمام الشعب عنه.
المؤشرات الموجودة حالياً في الحالة التركية تقول إن الوضع صعب للغاية خصوصاً مع التحول في توجهات رأس المال الدولي، الذي بدأ يهجر الأسواق الناشئة مثل تركيا لعدم توفر الاستقرار فيها، وبسبب الصراعات التي تحيط بتركيا من الجنوب، والتي تضع ثقلا على نفقاتها العسكرية، وفي نفس الوقت تفقدها أسواقا تجارية كانت مفتوحة أمام السلع التركية، ومع ارتفاع التضخم، وتدهور قيمة العملة، ومع العقوبات القادمة على إيران التي يبلغ حجم التبادل التجاري التركي معها أكثر من عشرين مليار دولار، وفوق كل ذلك، وأهم من كل ذلك حالة الانقسام المجتمعي التي وصلت إليها تركيا بعد محاولة الانقلاب المزعوم 2016، وعمليات الانتقام التي طالت مئات الآلاف من الأتراك سجناً وتشريدا، وقطعاً للأرزاق، وطرداً من العمل، واستيلاء على الثروات.. مع كل هذا من الصعب أن يحافظ الرئيس التركي صاحب السلطات السلطانية العثمانية، على ما وعد به هذا الشعب، بأن يكون الاقتصاد التركي ضمن أقوى عشرة اقتصادات في العالم، بل من الصعب أن يحافظ على منجزاته السابقة، وستكون الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت للسلطان الحالم الرئيس المطلق أردوغان، وستكون المسؤوليات بنفس حجم السلطات، وستكون المحاسبة بطريقة ديمقراطية إن هو التزم بالديمقراطية، وبطريقة غير ديمقراطية إن هو سلك نفس السياسات التي جاءت بعد الانقلاب المزعوم.
الرئيس التركي المطلق السيد أردوغان يشبه قائد طائرة ماهر جداً، أقلع بطائرته -التي هي تركيا- بصورة سريعة سلبت عقل ركابها، وهم شعبه، وسوف يهبط بها بصدمة عنيفة على الأرض تزلزل قلب شعبه وتعيد لذلك الشعب عقله.