– مفهوم الحرية
الحرية في اللغة ما خالف العبودية وبرئ من العيب والنقص، ويقال حَرَّ الرَّجُلُ يَحَرُّ، مِنَ الْحُرِّيَّةِ” ([1])، و “الحر: نقيض العبد” ([2]). وتحرير الرقبة: عتقها، وتحرير الولد أن تفرده لطاعة الله وخدمة المسجد” ([3]). و “الحرية: الخلوص من الشوائب أو الرق أو اللؤم”.([4])
تدور معاني الحرية على القيم والأخلاق والفضائل، لذلك كانت الأمم الأخلاق ما بقيت، فخطورة عدم الإلتزام النفسي بآدابها، يفسر أسباب الانحطاط
يعرف المتصوفة الحرية بكونها: “الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار، وهي على مراتب: حرية العامة: عن رق الشهوات، وحرية الخاصة: عن رق المرادات لفناء إرادتهم من إرادة الحق، وحرية خاصة الخاصة: عن رق الرسوم والآثار لانمحاقهم في تجلي نور الأنوار”([5]). هذه المعاني التي تجعل من الحرية خلقا وقيمة، هي التي تهدف العقيدة بناءها في النفس، فالحرية المستمدة من العقيدة “أفعال، وأخلاق محمودة لا تستعبدها المطامع، والأغراض الدنية”([6])، فتكون إذن: “حلية الإنسان وزينة المدنية فيها تنمي القوى وتنطلق المواهب، وبصوبها تنبت فضائل الصدق والشجاعة والنصيحة بصراحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتتلاقح الأفكار وتورق أفنان العلوم”([7]).
تدور معاني الحرية على القيم والأخلاق والفضائل، لذلك كانت الأمم الأخلاق ما بقيت، فخطورة عدم الإلتزام النفسي بآدابها، يفسر أسباب الانحطاط، لذلك نتحدث في المجتمع المسلم عن الالتزام بالإلزام الخلقي، وهو بمعنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو عندنا قيمة عظيمة وواجب عقدي، وعند الغرب يسمونه مجرد حرية في التعبير؛ لأن الحرية عندهم أن يصنع الإنسان في نفسه ما يشاء. وهكذا انفلتت المجتمعات الغربية، بسوء فهمها لها، فأخذت عندهم منحى خطيرا، حتى أمست تنادي بمراجعة حزمة القيم.
– أثر قيمة الحرية في العلاقة بين العبد وربه.
عندما يدرك الإنسان المكرم قيمة الحرية، تحدث في نفسه حالة من الالتزام والحياء والصدق والمراقبة؛ لأنه يعلم أنه لولا الله لكان عبدا لغيره من المخلوقات، ولما كان طبع الإنسان بفطرته متشوفا إلى الحرية، فإنه يقدم على الموت بهمة عالية واختيار راشد، حين تسلب منه، ولا يرضى العيش في قيود الرق والعبودية للمخلوقين.
التوجه إلى الله تعالى بكامل الحرية، يصنع العبد الأواب الصادق المخلص، هذه النظرة إلى الحرية، هي التي ينبغي أن نفهمها من العقيدة التي تؤكد أن “إفراد الله تعالى بالتوجه إليه في جميع الأمور يحقق للإنسان الحرية الحقيقية التي يسعى إليها … فتصغر بذلك في عينه جميع المعبودات من دون الله، وتصغر العبودية للمادة والانقياد للشهوات”([8])، حين يعلم أن العقيدة الطريق الوحيد الذي يصنع منه إنسانا حرا كامل الحرية. ولهذا فإننا نجد التنويه الرباني بالمؤمنين، فسعادة الإنسان بحريته الكاملة، لا توجد في “حرية البهائم، بل في الحرية التي تكون في دائرة الشرع ومحيطه” ([9])، فيتحول الإنسان السفاك للدماء، المفسد في الأرض، إلى إنسان كريم، حليم، يحيي الأرض ويعمرها، والأنفس ويكرمها.
يذهب الإنسان بالحرية من منظور عقدي مذهبًا أخلاقيًّا بعيدًا، يرتضيه الله من عباده، وهذا يجلي عن الحرية كل مزيف لصورتها الحقيقية، وهذا التجلي للحرية الكاملة، يظهر في منع الحر من الرضوخ لأي خاطر أو وسوسة، ما لم يكن مريدا لها، لهذا لم يكن الجزاء والعقاب على الفعل، وإنما على اختيار الفعل، “ومن ثم يتجلى دور الإرادة الحرة، في مقاومة الشر، ومتابعة عمل الخير، والدعوة إليه”([10])؛ حتى يكون الإنسان بعد تكريمه حرا مريدا، ولن يكون حرا حتى يكون له عبدا كامل العبودية، وتأكيدا لهذه المعاني يقول الجنيد: “إنك لن تكون على الحقيقة لله عبدا وشيء مما دونه لك مسترقا، وإنك لن تصل إلى صريح الحرية وعليك من حقيقة عبوديته بقية، وإذا كنت له وحده عبدا كنت مما دونه حرا”([11]).
عندما يدرك الإنسان المكرم قيمة الحرية، تحدث في نفسه حالة من الالتزام والحياء والصدق والمراقبة؛ لأنه يعلم أنه لولا الله لكان عبدا لغيره من المخلوقات، ولما كان طبع الإنسان بفطرته متشوفا إلى الحرية
ومن الآثار التربوية لقيمة الحرية على العبد من زاوية العقيدة، حسن قيامه بالخلافة والعمران، لأن الحرية بكرامة تحمله الأمانة بقدرها، ومن أعظم الآثار تمكين الإنسان من الشعور بإنسانيته، حين يعلم أن الله جل جلاله يخيره بين الإيمان والكفر، فيقول: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)([12])، ويقول الله تعالى كذلك: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)([13]). يكون مما سبق لزاما تربية الأولاد على حرية الاختيار، بعد البيان والإقناع، فمن شاء أن يرتقي فليفعل، ومن اختار لنفسه أن يستفل، فله ذلك وليتحمل مسؤوليته، فهل توجد حرية أعظم من هذه الحرية؟
– أثر قيمة الحرية على النفس والأسرة والمجتمع.
إن الأثر الذي تحدثه العقيدة بين العبد وربه، يوحد أفعال العباد، فتتفق على البناء والعمران للخلافة، وبها يعرج هذا العبد مع الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، وبهذه القيمة العظيمة – قيمة العبودية – يترجم الإنسان قيمة الحرية، آثارا عملية في علاقاته مع نفسه وأسرته ومحيطه، فلا يفسد ولا يعتدي؛ لأنه يعلم أن الاعتداء خلق مذموم، وأن البناء والرعاية أخلاق محمودة، فيلتزم بها، لتكتمل لديه مقومات الإنسانية؛ “ذلك لأن الحرية هي الإنسانية، في معناها ومغزاها، فمن أهدر الحرية فقد أهدر الإنسانية” ([14]). وهكذا نجد الإسلام يدعو إلى العدل الأسري، والحوار، ويحرم القتل؛ لأنه اعتداء على الحياة، بل يذهب الإسلام أبعد من هذا، فيحرم قتل النفس؛ لأنه ليس من الحرية في شيء، بل هو عبودية خالصة للأدواء والوساوس، ومنه يكون تحريم الإفساد في النفس والأرض من حسن فهم النصوص القرآنية، وهكذا يصبح المؤمن كالنحلة، كما وصفه صلى الله عليه وسلم قائلا: “إن مثل المؤمن لكمثل النحلة، أكلت طيبا، ووضعت طيبا، ووقعت فلم تكسر ولم تفسد”([15]).
– تجليات مقاصد العقيدة في بناء قيمة الحرية الأسرية.
للعقيدة الأثر الفعال في تحرير الإنسان من كل سالب لحريته، حتى نفسه التي بين جنبيه، فهي تعمل على تزكية المسلم وتحليته بالفضائل، كما تعمل على تحريره من نفسه؛ باعتبارها موطن الأهواء والأدواء، كما تتجلى هذه المقاصد في تحرير فكر المؤمن من كل فكر سالب أو مستبد، حتى من أفكار نفسه الفاسدة. هذه هي الحرية الحقيقية التي ينبغي للأسرة بناءها لدى الأولاد، حرية معينها القرآن الذي يبني منهج التفكير البناء، والتحصين النفسي من الأفكار المشوشة، كما يبني منهج التحرر الفكري وأسسه. إن القرآن مصفاة ربانية لكل مناقض للفطرة، ومقاصد العقيدة الحقيقية هي التي تسعى إلى بناء القيم، وأعظمها القيم الأسرية.
ونظرا لمركزية حرية الفكر في العقيدة الإسلامية، فإن الله تعالى مهد لها الإنسان منذ البدء، ليكون حرا في فكره لا يؤثر عليه أحد فيجره؛ لأن ما بني بعاطفة، قد يهدم بعاطفة، والإنسان المجبر لا ينتج، وهذا ما سأبسطه في التجليات الآتية:
– مقاصد العقيدة تحرر الإنسان من التشويش العقدي ليختار عقيدته ببصيرة:
يقوم القرآن ببناء منهج العقل والإيمان، عبر زعزعة المسلمات والدعوة إلى إعادة التفكير فيها، وتنظيم أفكار جديدة، تسوقه إلى التفكير السليم، يقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صادقين)([16])، وهو أسلوب تربوي فعال، باعتباره فطرة وطبيعة بشرية. ولما كان القرآن يدعو في آخر كل مقارعة إلى الحق والتوحيد، بأسلوب فيه تحد من جهة، وتنويه بمقاصد الحرية من جهة ثانية، من مثل قوله تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)([17])، فإنه من الطبيعي أن يعلم الإنسان أن أعظم ما ألزمه الله به توحيده، مع علمه أنه تعالى لو شاء لساقهم إليه سوقا، إلا أنه تعالى ترك حرية الاختيار للناس فقال: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)([18])؛ ليكون على بصيرة من هذا الأمر، ويأخذه بعزم وقوة.
– مقاصد العقيدة تحرر الإنسان ليعرف نتيجة اختياراته
يوجهنا الله تعالى إلى المنهج البرهاني؛ للوصول إلى الحقائق، ويبين لنا نتيجة كل طريق، ليتأكد العبد من اختياراته، ويسلك سبل الاقتناع والتعلم، ويأخذ الحقيقة من أهلها، فيقول تعالى: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم)([19])، ويقول كذلك: (أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون)([20])، فبالتذكر والتدبر يصلون إلى الحقيقة، وبالاقتناع والتعلم يأخذون الحقيقة من مصدرها، قال تعالى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)([21])، دون ضغط أو قهر أو إرغام، هكذا يبني القرآن إنسانا حرا كامل الحرية، لا أحد يرغمه على الفعل أو ترك الفعل سوى اختياره واقتناعه، وما عقد عليه قلبه وجوارحه، لذلك سميت العقيدة عقيدة.
مقاصد العقيدة تحرر الإنسان من التقليد والاتباع المذمومين
في سياق بناء منهج طرق الاستدلال، وعدم الاكتفاء بالموروث والمسلم، يبين الله تعالى سلوك إبراهيم عليه السلام مع قومه منهج التفكير والشك فيما يعبدون من دون الله، حتى قال: (فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)([22])، هذه الآية في غاية الأهمية لبناء منهج الاستدلال على الحقائق عند أبنائنا، ليتحرروا في فكرهم، وأعظم الحقائق البحث عن العقيدة الصحيحة، ونبذ التقليد، وفي هذا يقول تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون)([23])، فهذا مثال قوي يرشد الآباء إلى تشجيع أبنائهم على البحث بل التشكيك في كل شيء؛ ليصلوا بأنفسهم إلى الحقيقة، فالإسلام إذن “يترك للإنسان حريته واختياره في العقيدة؛ لأن الإيمان أساسه إقرار القلب وتسليمه، وليس مجرد كلمة تلفظ باللسان، أو طقوس وحركات تؤدى بالأبدان. ولكن القرآن دعا إلى إعمال وإجهاد الفكر لمعرفة الحق، والوصول إلى الخالق الواحد الأحد، وحث لذلك على معرفة الحقائق، واكتشاف أسرار الكون، وخزائن الأرض، مما يجعل التفكير ليس مجرد حق، بل هو فريضة إسلامية وعقلية”([24])، وهذا منهج القرآن في التوجيه نحو طرق بناء المعرفة، عكس بعض الآباء الذين يجهدون أنفسهم ليجعلوا من أبنائهم صورة لهم، فيسلبونهم حرية الاختيار.
مقاصد العقيدة تحرر الإنسان وتوجهه نحو الإحسان
ينتقل القرآن الكريم إلى بناء القالب الذي يؤطر هذه المعرفة، فيوجه المؤمن إلى الإيمان الصحيح، والعمل الصحيح، والفكر الصحيح، وهو ما يمكن تسميته هاهنا التربية على الإحسان. يقول تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون)([25])، ويقول سبحانه: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)([26])، فالتربية على الإحسان منطلقها التمكين من الحرية، فلابد للآباء من الانتباه إلى هذا الأمر، حتى لا يصنعوا جيلا منافقا، والقرآن يعلمنا كيف نربي الأولاد على الإحسان بالبيان والتوجيه، حتى إذا اختاروا أبدعوا فأحسنوا.
– مقاصد العقيدة تحرر الإنسان من نفسه
يصف الله عز وجل عباده الذين يشرفهم بإضافتهم إليه فيقول: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ)([27])، تعرف الآية العبد أقصر الطرق للتحرر الحقيقي، عبر التخلص من حظوظ النفس ونوازع الهوى، ليكون عبدا كامل الحرية، ففي علاقته بربه يحرص على التوحيد، وفي علاقته بالمحيط يحرص على كف الأذى، وفي علاقته بنفسه يكون إيجابيا لا ييأس من رحمة الله تعالى، وهو ما يقرره لحاق الآية بعد، ومعرفته أنه عبد الرحمن تؤهله إلى رحمة نفسه باتباع الرحمن الرحيم والتسليم له وبه؛ إذ يعلم ألا خير لنفسه إلا في العقيدة.
إن الأثر الذي تحدثه العقيدة بين العبد وربه، يوحد أفعال العباد، فتتفق على البناء والعمران للخلافة، وبها يعرج هذا العبد مع الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، وبهذه القيمة العظيمة يترجم الإنسان قيمة الحرية، آثارا عملية في علاقاته مع نفسه وأسرته ومحيطه، فلا يفسد ولا يعتدي.
إن المنهج القرآني في بناء القيم منهج فريد، ذلك أنه من عند الله، فتربية الأولاد من خلال هذا المنهج تربية لا تخطئ، تربية أساسها أنسنة الإنسان وترقيته إلى المرتبة التي تليق به؛ حتى إذا مشى على الأرض يمشي سويا بفكره وعقيدته، قال تعالى: (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم)([28]). من هنا كانت القيم الأسرية عبر التاريخ وحدها التي تصنع الأمم وتبنيها.
وحتى لا يبقى الكلام أقرب إلى الفلسفة، هي دعوة للنفس أولا إلى تمثل القيم في الحياة، والالتزام بمقاصد العقيدة، باعتبارها الدواء. ألا يصف لنا الطبيب دواء مرا موجعا، لفقر الدم، وهشاشة العظام، وضعف البصر، وفقدان الشهية فنقبله برضا؟ فالنظرة المقاصدية إلى العقيدة، تصف لنا الدواء لفقر النفس، وضعف الإيمان، وهشاشة الأخلاق.
بقلم/ حميد العساتي