برلين (زمان التركية)ــ نشرت وكالة (دويتشه فيله) الألمانية تقريرا يتناول الوضع الاقتصادي المتأزم في تركيا واحتملات تجاوز الأزمة المالية في البلاد، قبل أقل من 24 ساعة على انطلاق الانتخابات التركية المصيرية، وذلك بعد جلسة حوارية أعدها تلفزيون (دويتشه فيله) بحضور خبراء في الاقتصاد قالوا إن تركيا ستلجأ مرة أخرى إلى صندوق النقد الدولي أيا ما كان الفائز بالانتخابات.
وجاء في تقرير الوكالة الألمانية: يبدو مستقبل تركيا الاقتصادي عشية انتخابات مصيرية مثقلا بمشاكل خطيرة على غرار مستقبلها السياسي، فالديون تتراكم وقيمة الليرة تتآكل والأموال تهرب. يبقى السؤال، هل من سبيل لتجنب أزمة مالية تودي بمكتسبات الحقبة الأردوغانية؟
لا جدال في أن الرئيس رجب طيب أردوغان حقق لتركيا نهضة اقتصادية نادرا ما شهدتها بلدان أخرى، فعندما تولى السلطة في عام 2002 كانت البلاد تعاني من أزمة اقتصادية خطيرة رافقها اضطرابات سياسية وتضخم وفقر وبطالة وهروب لرؤوس الأموال. لكن وبعد توليه الحكم بدأ إصلاحات سياسية واقتصادية ليبرالية رافقها انفتاح على أسواق روسيا والدول المجاورة. كما رافقها استثمارات ضخمة ونمو اقتصادي زاد معدله السنوي على 7 بالمائة.
وكان من تبعات ذلك مضاعفة دخل الفرد ليصبح بحدود 11 ألف يورو سنويا في غضون عشر سنوات اعتبارا من عام 2003. ونتيجة الاستثمار الكثيف في مجال التعليم والتدريب وبرامج التشغيل تراجعت نسبة الفقر وانخفض عدد العاطلين عن العمل إلى معدلات قياسية. وهكذا انتقل الاقتصاد التركي من اقتصاد مأزوم إلى اقتصاد مزدهر يحتل المرتبة السابعة عشرة عالميا وأحد أكثر اقتصاديات البلدان الصاعدة حيوية وديناميكية. وهكذا وبفضل هذا النجاح الاقتصادي صعد نجم أردوغان السياسي كزعيم لا منازع له في تركيا منذ وصوله إلى دفة الحكم.
الأزمة وخلفياتها
غير أن هذا الاقتصاد التركي يقف اليوم على عتبة أزمة اقتصادية قد تكون كارثية عشية الانتخابات التركية التي يريد أردوغان كسبها ليحول بلاده إلى دولة يتمتع فيها الرئيس بصلاحيات واسعة على حساب رئيس الوزراء الذي يمثل الأغلبية البرلمانية. ويدل على ذلك تدهور سعر الليرة التركية وهروب رؤوس الأموال وتراجع القوة الشرائية للمواطنين بفعل التضخم الذي زاد على 11 بالمائة سنويا منذ ثلاث سنوات تقريبا. وتفيد دراسة لمؤسسة ” الرخاء العالمي الجديدة” في جنوب أفريقيا أن نحو 6000 مليونير تركي، أي 12 بالمائة من مليونيرات تركيا غادروا بلدهم خلال العام الماضي إلى الخارج. كما ارتفعت نسبة البطالة إلى أكثر من 12 بالمائة بشكل عام وإلى نحو 20 بالمائة في صفوف الشباب. صحيح أن عوامل عدة مثل تدفق ملايين اللاجئين إلى تركيا من جهة والتطرف وتراجع السياحة والعلاقات المتقلبة مع روسيا والغرب من جهة أخرى ألقت بظلالها السيئة على الاقتصاد التركي، غير أن سياسات أردوغان الانفرادية كان لها نصيب أكبر فيما وصل إليه الاقتصاد التركي، ولكن لماذا؟
أدى تورط أردوغان وحكومته في دعم القوى الإسلاموية المتطرفة في سوريا والعراق ودول أخرى لوصول خطرها إلى داخل تركيا نفسها من خلال هجمات إرهابية أبعدت السياح عن المنتجعات التركية ودفعت الكثير من المستثمرين ورؤوس الأموال للبحث عن ملاذات أكثر أمنا. وزاد الطين بلة التضييق المستمر على الحريات والاعتقالات والتوتر المتزايد في العلاقات التركية الغربية. ولكي يتم تعويض الثغرة الناجمة عن هروب الأموال وتسريح العمال أقدمت الدولة، لاسيما خلال السنوات الخمس الماضية على ضخ عشرات المليارات في تمويل مشاريع ضخمة كالطرق والمطارات والأنفاق والطاقة والأبراج العقارية وغيرها. كما سهلت للشركات القروض الداخلية والخارجية بفوائد متدنية. وقد ساعدها على ذلك انخفاض الفوائد في منطقة اليورو والولايات المتحدة إلى مستويات قياسية. وبما أن هذه المشاريع من جهة لا تعطي عوائد سريعة وأن الصادرات التركية إلى روسيا وأسواق أخرى تعثرت من جهة أخرى، فإن تراكم الديون وأقساطها، لاسيما من دول الاتحاد الأوروبي وصل إلى مستوى تعجز فيه الشركات عن الوفاء بالتزاماتها في الوقت المناسب. وزاد الطين بلة تراجع سعر الليرة التركية إلى النصف أمام الدولار الأمريكي في غضون أقل من ثلاث سنوات.
جبل الديون المتراكم
تذهب تقديرات منظمة الأمن والتعاون في أوروبا/ OECD ألى أن ديون الشركات التركية وصلت إلى 500 مليار دولار، أي إلى نحو 55 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. وتكمن المشكلة في أن القسم الأكبر من هذه الديون ليس بالليرة التركية، بل باليورو ثم الدولار. وإذا ما أضفنا إلى ذلك الديون الحكومية، فإن مجمل الديون يتجاوز 600 مليار دولار في وقت تقدر فيه الاحتياطات التركية بأقل من 100 مليار دولار. ويحذر صندوق النقد الدولي من خطورة جبل الديون هذا على دولة صاعدة لا تتمتع باحتياطات كبيرة ومصادر طاقة ومواد أولية لازمة لمدخلاتها الصناعية. وهنا يطرح نفسه السؤال: كيف يمكن للشركات التركية والدولة الوفاء بأقساط الدين والفوائد السنوية المترتبة عليها، لاسيما في ظل العزوف عن شراء السندات الحكومية بسبب عدم استقرار الليرة التركية وعوامل أخرى؟ ويأتي ذلك وقت تدير فيه رؤوس الأموال الأجنبية والتركية ظهرها لتركيا ليس بسبب الخوف من تبعات سياسات أردوغان المنافية للتعددية والليبرالية فحسب، بل وأيضا بسبب رفع الفوائد في الولايات المتحدة وقرب توقف سياسة البنك المركزي الأوروبي عن توفير المال بفوائد متدنية. وهذا ما يجعل السوق الأمريكية والأوروبية أكثر جاذبية للاستثمار من قبل.
هل تأتي النجدة؟
عشية انتخابات مفصلية في تاريخ بلاده، يحاول أردوغان توجيه سفينة الاقتصاد المثقلة بالديون نحو بر من الأمان من خلال التدخل في سياسات البنك المركزي التركي لمنعه من رفع سعر الفائدة والاستمرار في ضخ المزيد من القروض في السوق المتقلبة. غير أن ذلك لن يكبح جماح التضخم ولن يساعد على تحسن سعر الليرة. كما أنه لن يساعد على عودة ثقة المستثمرين الباحثين عن أسواق بديلة. ومما يعنيه ذلك تراجع معدلات الاستثمار والنمو وتراكم جبل الديون الذي وصل إلى مستويات مخيفة مقارنة مع البلدان الأخرى الصاعدة. ومن هنا فإن سياسات أردوغان تقود إلى أزمة جديدة على غرار الأزمة المالية اليونانية أو البرتغالية إذا لم يسارع صندوق النقد الدولي والأصدقاء إلى النجدة. ولن يغير من خطورة هذه الأزمة نجاح أردوغان في الانتخابات بأكثر الأصوات أو فوزه بالأغلبية.