القاهرة (زمان التركية)ــ نشرت صحيفة الأهرام المصرية مقالا للكاتب الصحفي المتخصص في الشأن التركي “محمد عبيد الله” قبل ساعات من انتخابات تركيا المصيرية التي تعقد غدًا الأحد، يصف فيه انقلاب تركيا عام 2016 بأنه “مسرحية” تظهر وقائعها في فلتات لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بين حين وآخر.
وجاء في المقال: تدرك تركيا الشهر المقبل الذكرى السنوية الثانية لمسرحية 15 يوليو/ تموز، التى أصبحت ذريعة للرئيس رجب طيب أردوغان ليمارس ألاعيبه السياسية من خلال “حالة الطوارئ”، التى أعلنها بدعوى التصدى للمعارضين، وأسفرت عن إخضاع 100 ألف شخص للإجراءات القانونية، واعتقال 50 ألف شخص، بينهم 120 صحفيًا، وإغلاق 180 مؤسسة إعلامية، و1300 جمعية ومنظمة مجتمع مدني، بالإضافة إلى وفاة نحو 70 شخصا فى ظروف مشبوهة، أو تحت التعذيب أو بسبب المرض جراء ظروف السجون السيئة، وفرار عشرات الآلاف من المواطنين إلى خارج البلاد، وفق آخر تقرير نشرته منظمة العفو الدولية مطلع شهر مايو الجارى.
مضى نحو عامين على أحداث هذه المسرحية التى شهدتها تركيا فى 15 يوليو 2016، إلا أن كثيرا من جوانبها لا تزال مظلمة مجهولة، وتتكشف كل يوم حقائق جديدة تزيل الستار عن ملابسات هذه الأحداث الغاشمة، سواء أكان من خلال تصريحات المتهمين فى تلك الأحداث أثناء محاكماتهم أم تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان نفسه فى أثناء إلقائه خطابات حماسية على الشاشات التليفزيونية أم فى اللقاءات الجماهيرية مع أنصاره.
كان زعيم المعارضة ورئيس حزب الشعب الجمهورى اعتمد فى وصفه لأحداث 15 يوليو على «عجز» السلطة الحاكمة من منع وقوع هذه الأحداث على الرغم من علم جهاز استخباراتها بالاستعداد له فى الساعة 14:30 على أقل تقدير، وإخباره رئاسة هيئة الأركان العامة فى 16:16 من يوم الأحداث على أقل تقدير.
فى هذا المقال سأقدم لكم قصة المسرحية الفاشلة نقلاً مباشرًا عن لسان أردوغان ذاته، ذلك لأن مضمرات القلوب تنفلت عن اللسان وإن أبى أصحابها، ثم سنترك القرار لكم – أيها القراء الأعزاء – لتصِفوه بأى وصف شئتم، فى ضوء هذه المعلومات، استهدف أردوغان أم هو حركة خَطّط له بالفشل وحقّق أهدافه منه بفضل حالة الطوارئ التى أعلنها بحجة هذه المحاولة الشيطانية على حد تعبير “عثمان شيمشاك”، رئيس تحرير الموقع الإلكترونى الخاص بالأسحار كولن؟!
يا ليت تكلم أردوغان دائمًا!
دعونا لنبدأ من تصريحات أردوغان الأخيرة التى أدلى بها فى (4 مايو الماضى) ثم نعود إلى البداية. إذ أكد لقناة تليفزيونية موالية له قائلا: “إن العسكريين جاءوا إلى المطار فى مدينة موغلا (التى كان يقضى فيها عطلته) ليتفقدونا ويلقوا القبض علينا، لكن لأن طائرتنا تأخرت فلم يستطيعوا أن يرونا.. فطائرتنا هبطت بعد مغادرتهم”.
إلا أن أردوغان نفسه كان زعم فى عام 2017 قائلا: “لقد توجه المعارضون إلى طائرتنا وتفقدونا فيها، لكنهم لم يستطيعوا أن يروننا برغم أننا فى داخلها، مثلما لم يتمكن المشركون من رؤية النبى (ص) وصديقه أبى بكر الصديق فى الغار بفضل الشبكة العنكبوتية المنسوجة بشكل خارق للعادة أمام باب الغار!”.
ويواصل أردوغان فى التصريحات ذاتها ردا على مزاعم المعارضة حول اختفائه مع أفراد عائلته خوفًا من أحداث ليلة الأحداث بقوله: “أنا وعائلتى كنا بين أفراد شعبنا أثناء ليلة الأحداث.. بل إنى وزوجتى وأولادى وصهرى انتظرنا جميعًا فى الميادين مع شعبنا حتى صلاة الجمعة بعد يوم من الأحداث حيث انتهت الأحداث”.
وبما أن الأحداث وقع ليلة الجمعة – السبت فإن أردوغان يكون قد أدى صلاة الجمعة يوم السبت – على حد زعمه -!
أردوغان يحكى قصة علمه المسبق بالأحداث!
وإذا عدنا إلى البداية، فإننا نرى أن أردوغان زعم أولاً أنه علم بنبأ التحركات من صهره وزير الطاقة برات ألبايراق فى الساعة 16:30 من عصر يوم الأحداث، ثم ناقض نفسه فى تصريحات لاحقة، ادعى فيها أنه حصل على خبر التحركات المريبة فى صفوف الجيش فى الساعة 21:30 من ليلة الأحداث، وبحلول الساعة 22:00 حصل على معلومات مؤكدة من رئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان.
وإن افترضنا صحة هذه المعلومات، فإنه يحق لنا أن نتساءل «مادام أردوغان حصل على معلومات مؤكدة عن التحركات المريبة فى الجيش فى الساعة العاشرة من ليلة الأحداث، أى فى وقت لم يكن أغلق فيه جسر البسفور من قبل الجنود، ولم تبدأ الطائرات الحربية فى التحليق فى أجواء العاصمة أنقرة… فلماذا إذن انتظر حتى الساعة 00:24 ليظهر على الشاشة التليفزيونية ويعلن عن وجود محاولة للتحرك ضده؟» ذلك أن سكوته نحو ساعتين، وعدم تنبيهه قوات الأمن والشعب فتح الأبواب على مصراعيها أمام العسكريين ليخرجوا من ثكناتهم وينزلوا إلى الشوارع وتحدث مواجهات بينهم وبين المواطنين!
تكشف سجلات النيابة العامة، أن أول رسالة تنبيه واستعداد للوحدات العسكرية من أجل التحرك أُرسلت من مقر قيادة الأركان العامة فى الساعة 21:37 من ليلة الأحداث، وفى الساعة 22:00 أغلق الجنود جسرى البسفور والسلطان محمد الفاتح المعلقين، وبدأت الطائرات الحربية فى التحليق بسماء أنقرة فى الساعة 22:08. وفى الساعة 22:21 أرسلت من قيادة الأركان العامة لجميع الوزارات تعليمات بفرض «الأحكام العرفية».
كل التصريحات التى أدلى بها أردوغان حتى اليوم حول موعد علمه بالأحداث مختلفة بل متناقضة؛ إذ قال عقب عودته إلى مطار أتاتورك من فندقه بمدينة مرمريس ليلة الأحداث: «أصدقائى الأعزاء، كما تعرفون، كان هناك تحرك فى صفوف الجيش بعد الظهيرة»، الأمر الذى فسره الرأى العام بأن أردوغان علم بالأحداث بعد ظهر يوم 15 يوليو.
لكنه صرح فى 18 يوليو 2016 لقناة «CNN International» قائلا: «فى تلك الليلة وصل إليّ الخبر نحو الساعة 20:00 تقريبًا، وعلمت بوجود تحركات وتطورات فى بعض المناطق، وعندها قررنا نحن أيضًا التحرك والمبادرة».
وما إن مضى وقت حتى غيّر أردوغان هذا التوقيت أيضًا، إذ زعم بعد ثلاثة أيام فقط خلال حوار صحفى مع وكالة رويترز فى 21 يوليو 2016 أنه تلقى اتصالاً هاتفيًّا من صهره وزير الطاقة ألبايراق نحو الساعة 4 أو الرابعة والنصف، أخبره فيه بوجود تحركات عسكرية فى منطقة «بيلر بكي» وإغلاق مداخل الجسرين المعلقين فى إسطنبول.
ما كان ذلك رأى أردوغان الأخير حول توقيت علمه ببدء أحداث الانقلاب، حيث خرج فى 30 يوليو 2016 على قناة «A Haber» التابعة لأحد أفراد عائلته، وزعم أن الساعات والتوقيتات تشابهت عليه، وادعى هذه المرة أن صهره اتصل به نحو الساعة 21:30 من ليلة الانقلاب.
تلك التصريحات تظهر أن أردوغان حصل على معلومات أولية عن الأحداث فى الساعة 21:30 ليلة الأحداث من صهره، ثم حصل على معلومات مؤكدة عن التحركات من رئيس جهاز الاستخبارات بحلول الساعة 22:00.
غير أن أردوغان انتظر حتى الساعة 00:00 (والفارق ساعتان) ليعلن للرأى العام وجود محاولة للتحرك ضده، وأدلى بتصريحاته الأولى فى هذا الصدد فى الساعة 00:04 من منتصف الليلة لمراسلى وممثلى وكالة الأخبار بفندقه فى بلدة مرمريس السياحية التابعة لمدينة موغلا، غير أن هذه التصريحات لم تنشر على القنوات.
وأخيرًا، أى بعد ساعتين ونصف الساعة من علمه «المؤكد» بالتحرك العسكرى فى صفوف القوات المسلحة، قام أردوغان بإجراء مداخلته الشهيرة مع قناة سى إن إن ترك «CNN TÜRK» عبر تطبيق فيس تايام «FaceTime» فى الساعة 00:24، وأعلن للرأى العام وجود محاولة للاعتراض على الحكومة، ودعا الشعب للنزول إلى الشوارع.
أما الحقيقة فهى أن أردوغان تلقى جميع المعلومات والوثائق الخاصة بالاستعداد للأحداث فى قصر «توب كابى» بمدينة إسطنبول فى 11 حزيران 2016، أى قبل 31 يوما من الأحداث، بحسب الأقوال التى أدلى بها ضابط الصف «حسين جولر» فى إدارة مكافحة الإرهاب، التى تم إدراجها ضمن ملفات تحقيقات الأحداث.
هل هذا تحرك الجيش التركى المحترف؟!
كان معظم الجنود الذين خرجوا للشوارع ليلة الأحداث من طلاب الأكاديميات العسكرية الذين يستخدمون رصاصات مطاطية بدلاً من الحقيقية وفق الأعراف. أغلقوا أولاً الجسرين المعلقين فى إسطنبول على حركة المرور. ثم ظهرت فى الطرقات والشوارع عديد من الدبابات التى كانت محشوة بالقنابل المطاطية بدلاً من الحقيقية أيضًا، باعتراف صحيفة «ينى عقد» “الإسلامية” الخاضعة لأردوغان. وبعد ذلك توجه بعضهم إلى قصف مبنى البرلمان فى خطوة مثيرة للشبهة لم تحدث فى تاريخ الجيش التركى المعروف باحترافه، وسقط حطام المبنى من الزجاج والخشب والخرسانة على جهته الخارجية بدلاً من الجهة الداخلية، مع أن القنبلة تأتى من الجهة الخارجية الجانبية لمبنى البرلمان – بشكل مخالف لقوانين الفيزياء!-. ومن جانب آخر ظهر تسجيل مصور يقول فيه وزير العدل “بكر بوزداغ” وهو فى البرلمان “إن طائرة المعارضة التى قصفت مقر البرلمان تم إسقاطها فى اللحظة الراهنة”، بينما لم تكن هناك أى طائرة تم تحطيمها أثناء الانقلاب أو بعده، ما يكشف أن إسقاط الطائرة كان ضمن خطة المعارضين المدبرة، وكان الوزير يعلم ذلك، إلا أن المنفذين للخطة لم يستطيعوا تنفيذها بكل حذافيرها. ومن ثم راحت طائرات حربية لضرب وقصف قصر أردوغان، لكنها عجزت عن ذلك ولم تصب إلا حديقة القصر فقط، مع أن مساحته تبلغ 450 ألف متر مربع، وعلى الرغم من أن الطائرات متقدمة تقنيًّا وتحمل صواريخ ذات قنابل موجهة بالليزر.
هناك عجائب وغرائب عديدة حدثت ليلة 15 يوليو 2016 لا يمكن أن يحصرها حجم هذا التقرير، تقودنا إلى أن أردوغان كان مَنْ هندس وأدار التحركات بـ«ريموت كنترول»، واستخدم الجنود السذج الذين لم يكونوا يعلمون أنهم فى مهمة الانقلاب من جانب؛ والمواطنين المدنيين الذين شحنهم بالكراهية والعداء من جانب آخر، ونظم مواجهة بين الطرفين لتضخيم رد الفعل، أسفرت عن استشهاد 250 شخصًا، من أجل الحصول على الذريعة اللازمة لتنفيذ خطته فى إعادة تصميم كل أجهزة الدولة وفق أهدافه.
وفى ضوء المعلومات التى قدمنا أعلاه، وفى ظل كشف المخابرات الغربية، وبوجه أخص المخابرات البريطانية، عن تخطيط أردوغان لإلصاق هذه المحاولة الغاشمة بحركة الخدمة من أجل اختلاق ذريعة وإطلاق حملة تصفية موسعة ضد كل المعارضين وغير المرغوب فيهم تحت “تهمة الانتماء إلى منظمة فتح الله كولن…”، من الممكن أن نخلص إلى أن «أردوغان وأتباعه قاموا بهذه التمثيلية بغية إحكام قبضتهم على المؤسسة العسكرية ووضعها تحت وصايتهم، وحتى يتسنّى لهم إقصاء المعارضين لهم فى داخل السلك العسكري”، وفق تعبير الأستاذ كولن.
بينما يفصل الكاتب “كارلسون أنيانغو” هذا الأمر فى كتابه «الإطاحة الثورية بالأنظمة الدستورية فى إفريقيا» قائلاً: «فى مثل هذه الظروف التى يحاول فيها الزعيم الأعلى حبك مسرحية ضد شخصه، تحصل السلطة الحاكمة على صلاحيات فوق الدستور، تغيّر شكل النظام المطبق تمامًا، وتقود البلاد إلى نظام جديد مختلف كاملاً، وذلك بدعم سرى أو علني، وأعمال تحريضية يقدم عليها الجيش بذاته. لكن ما يحدث فى الأصل هو إطاحة السلطة الحاكمة بالنظام الدستورى القائم وإحلالها نظامًا دستوريًّا جديدًا.
ألستم ترون فى هذه السطور صورة قلمية لأردوغان ومسرحيته على ذاته لتوسيع سلطاته وفرض قبضته الحديدة على الدولة وكل أجهزتها والمجتمع المدنى فى آن واحد؟!
لب القول: فكما أن أردوغان أحدث «مسرحية مضادة» فى اليوم التالى من بدء تحقيقات الفساد والرشوة فى 2013، ومن ثم بادر إلى نسف جهازى الأمن والقضاء من ألفه إلى ياءه، بحجة تطهيرهما من أعضاء «الكيان الموازى»، ثم أنشأ بدلاً منهما جهازى أمنٍ وقضاءٍ «موازيين» تابعين له تماماً، وذلك من أجل التستّر على جريمة «الفساد والرشوة»، كذلك أقدم على «مسرحية مضادة» فى صبيحة ليلة 15 يوليو 2016 بمهارة عناصر الدولة العميقة التى تحالفت معها والمجموعات شبهة العسكرية التابعة له المدربة على الحرب غير النظامية، أطاح بكل القادة العسكريين وأعضاء القضاء الأعلى، سواء شاركوا فى الأحداث أم لم يشاركوا، بذريعة تنقية الجيش من عناصر «الكيان الموازي» أيضاً، ثم راح يعيّن مكانهم أتباعه المبايعين له وحلفاءه من القادة المدانين سابقاً فى قضايا مثل قضيتى شبكة وعصابة أرجنكون والمطرقة.
بعد كل ذلك هل بقى عندكم من شك فى سر وصف أردوغان لهذه المسرحية اللعينة بـ”الهدية الإلهية”؟!