لا تنازل عن الجودة
فقال المدير: “يتراوح عدد المستفيدين من هذه الفصول ما بين ٢٥٠ إلى ٣٠٠ طالب. هذا الرقم معقول يتناسب مع معايير الجودة التي وضعناها لهذه المراكز، إذا تجاوز العدد هذا الحد يصعب علينا تحقيق الغرض من إطلاق المؤسسة، ونضطر عندئذ إلى التنازل عن الجودة، وهذا لا نريده”.
الحرص على الجودة رغم الإكراهات يستحق كل تقدير بالتأكيد. “وماذا لو أراد آخرون الاستفادة من هذه المراكز بعد أن تتجاوز حد الاستيعاب؟” تدخّل السيد كريم، رجل الأعمال المتطوع للإنفاق على مثل هذه المؤسسات: “القضية بسيطة، نفكر في تدشين مركز آخر، دون التضحية بجودة النشاط هنا”.
التلاميذ يترددون إلى هذه المراكز مجموعات مجموعات ليحصلوا على دورات معينة
قال المدير: “ينبغي أن أذكركم يا سيدي أن التلاميذ يترددون إلى هذه المراكز مجموعات مجموعات ليحصلوا على دورات معينة، دورة في الرياضيات، وأخرى في العلوم، وأخرى في المهارات اللغوية، وأخرى في العلوم الاجتماعية وهكذا، ومن ثم يستفيد من هذا المركز حوالي ١٢ مجموعة طوال الأسبوع في أوقات محددة بحيث لا تتعارض مجموعة مع مجموعة أخرى”.
تجهيز مذهل
عندما دخلنا أحد الفصول الفارغة أصبتُ بشيء من الذهول إزاء ما رأيت. كنت أتوقع أن أرى فصلا متواضعا يتناسب مع تواضع هؤلاء التلاميذ الفقراء، لكنني اندهشت عندما رأيت طاولات الأطفال بلونها الأبيض الأنيق، وسبورة ذكية، وجهاز عرض إلكتروني، ودواليب خاصة للتلاميذ ومكتبة صغيرة مع بعض الصور الجميلة تزين الجدران مع توزيع للألوان وترتيب للأشياء غاية في الروعة. أقسم أنك لا يمكن أن ترى فصلا دراسيا بهذا المستوى من التجهيز والأناقة والترتيب إلا في المدارس الخاصة التي تخاطب أهل الثروة والحظوة من أبناء عِلية القوم.
أخذنا نتجول في أرجاء الفصل، جلس بعضنا على الطاولات، وبعضنا أخذ يدقق في السبورة الذكية وآخرون يفحصون دواليب التلاميذ. وعندما أحصيت عدد الطاولات وجدتها ١٢ طاولة. فقال المدير: “نعم، ١٢ طاولة، يعني ٢٤ طالبا، هذا هو العدد المثالي عندنا، لا نتجاوزه أبدا، قد ننقص منه أحيانا، لكننا لا نتجاوزه فهو خطنا الأحمر”.
لا يمكن أن ترى فصلا دراسيا بهذا المستوى من التجهيز والأناقة والترتيب إلا في المدارس الخاصة
تبادر إلى ذهني الفصول الدراسية التي مررت منها عبر دراستي في المدرسة الحكومية بدءا من الابتدائية إلى الإعدادية إلى الثانوية. كان يتراوح عدد التلاميذ في الفصل الواحد ما بين ٦٠ إلى ٧٥ طالبا. شتان بين تلك المدارس وهذه المراكز. شعرت بسعادة غامرة في قلبي باسم هؤلاء التلاميذ الذين يستفيدون من هذه المراكز ودعوت لهم من صميم قلبي بالنجاح، وشكرت من صميم وجداني القائمين على هذه الأعمال البطولية بحق.
قلت للمدير: “هل من بأس إذا دخلنا فصلا دراسيا فيه طلبة، نريد أن نرى التلاميذ أنفسهم، ونشهد الحركة داخل الفصل، ونتحدث إلى بعض التلاميذ لو أمكن”، فقال: “لا حرج، لكن اسمحوا لي بدقيقة واحدة أستأذن معلم أحد الفصول حتى لا نفاجئهم وسط درسهم”.
مع الأولاد
بعد دقيقة عاد المدير قائلا “تفضلوا”. نقر باب أحد الفصول ودخلنا، وما أن رآنا التلاميذ حتى نهضوا واقفين، ألقينا عليهم السلام فردوا علينا بصوت واحد ورحبوا بنا جميعا، كما رحب بنا معلم الفصل الشاب ذو الشعر الأصفر. كانت المادة رياضيات. الطاولات ممتلئة بالتلاميذ، وأربعة وعشرون تلميذا ينظرون إلينا بفضول، البعض يبتسم ويلفظ بعض الكلمات العربية “أهلا وسهلا، السلام عليكم”، من الواضح أن زيارتنا أفرحتهم.
شعرت بسعادة غامرة في قلبي باسم هؤلاء التلاميذ الذين يستفيدون من هذه المراكز
أربعة وعشرون طالبا وطالبة، تتراوح أعمارهم ما بين ١٢ إلى ١٤ عشر، وهنا أضيفت إلى معلوماتي معلومة جديدة، وهي أن مراكز الدعم الدراسي تخاطب المرحلة الإعدادية في الغالب، تدعمهم في دروسهم المدرسية وتهيئهم للاختبارات الوطنية التي ترتبها الدولة من أجل الالتحاق بالثانويات الراقية. حسن، وماذا عن طلاب الثانوية من أبناء الفقراء؟ علمت أن طلاب الثانويات من الفقراء قصة أخرى، لم يهملها أبناء “الخدمة”، ووعدنا دليلنا أن يذهب بنا إلى مؤسسة من المؤسسات التي تخاطب طلاب الثانوية.
طلبت من المعلم والمدير أن يسمحوا لي بمحاورة التلاميذ دون تدخل منهما فوافقا، وطلبت من دليلنا أن يكون المترجمَ بيني وبين الطلبة. قلت لهم “عندي بعض الأسئلة وأريد متطوعين يجيبون عليها، فمن يتطوع؟” فارتفعت الأصابع بسرعة فأسعدني التجاوب. سألت عن وظائف آبائهم. قال أحدهم “عامل في مصنع” وقال ثان “بائع في الشوارع” وقال ثالث “يعمل كل شيء” وقال آخر “طريح الفراش” وقال آخر “من دون عمل” وهكذا. تذكرت ما قاله السيد المدير في البداية “آباء الأولاد هنا لا يتجاوز دخلهم الشهري الحدّ الأدنى من الراتب الذي تحدده الدولة سنويا وهو في حدود ٣٠٠ دولار، ومن كان دخله يتجاوز هذا الرقم لا نقبله في هذه المراكز”.
حوار وأحلام
سألت الأولاد عن أحلامهم وماذا يريدون أن يكونوا عندما يكبرون، فكانت الأحلام براقة متفاوتة، فأحدهم يريد أن يدرس طبا، وآخر يريد هندسة، وآخر تعليما، وأخرى ممرضة، ومدير أعمال إلخ.. سعدت عندما رأيت أنهم ما زلوا يحلمون رغم الإمكانات الضئيلة التي يمتلكها آباؤهم. أدركت أن هذا المركز أبقى على جذوة الأحلام متقدة، الحلم حي في قلوبهم، يبعث فيهم الحياة ويحثهم على المواصلة في السير.
شقيقي الكبير يبكي عندما يراني أتردد إلى المركز، يبكي فرحا، يقول لي لا تضيع هذه الفرصة الذهبية
سألتهم: “ماذا يعني هذا المركز بالنسبة لكم؟” ارتفعت الأصابع إلى الأعلى لتجيب، الجميع يريد أن يعبر عن فرحته بهذا المركز، الكل يريد أن يقول كلمة شكر، الكل يريد أن يدخل الفرحة إلى قلب المدير والمعلم والمنفق كما أدخلوا هم الفرحة إلى قلوبهم الصغيرة وقلوب آبائهم وأمهاتهم. قالت إحدى البنات: “أمي تبكي كل يوم وتدعو للمعلمين، إنها تقول أن المركز أنقذني من الضياع”، قال آخر: “كنت راسبا في المدرسة، أما الآن فبفضل هذا المركز فأنا ضمن الأوائل في مدرستي”، قال آخر: “المعلمون هنا يحبوننا، يكرموننا، يعتنون بنا، هذا لا نجده في المدرسة الحكومية التي ندرس فيها، المدرسة مملة، هناك أعد الدقائق واحدة واحدة فلا تكاد تنتهي، المعلمون لا يبتسمون إلينا هناك ولا يعطوننا شكولاته أو هدايا، أما هنا فلا أريد للدقائق أن تنتهي، أشتاق إلى الأساتذة عندما أغادر المركز، أشتاق إلى العودة”، قال آخر: “لولا المركز لكنت مثل شقيقي صباغ أحذية في الشوارع” قال آخر: “شقيقي الكبير يبكي عندما يراني أتردد إلى المركز، يبكي فرحا، يقول لي لا تضيع هذه الفرصة الذهبية، أنا لم أجد من يأخذ بيدي فأصبحت بائعا في الشوارع، أما أنت فوجدت معلمين يحبونك ويساعدونك، فكن لهم وفيا”.
تناثرت العبارات على أفواه هؤلاء الأبرياء.. ما زالت ترن في أذني، وتهز أوتار قلبي كلما تذكرتها، وتدمع عيني.. ويمتلئ قلبي شكرا لرجالات الخدمة الذي رأوا هذا الفراغ فبادروا إلى ملئه.
كم من دموع حزنٍ حوّلتها هذه المراكز إلى دموع فرح، وكم من آمال ضائعة بعثت فيها الروح من جديد، وكم من مواهب كادت تنزلق إلى متاهات الجريمة والفساد فأخذت بأيديها وقادتها في الاتجاه الصحيح.
وا أسفاه على آلاف من هذه المراكز كيف دمرتها قيادة أردوغان بدم بارد!.. من للمجتمع بعد ذهاب هذه المدارس!؟..
لا تلمس جرحي يا صاحبي، فما زال ينزف، وآلامه تؤرقني ولا تترك للراحة إلى قلبي سبيلا.. آه متى تخرج أمتنا من طفوليتها؟ متى تكبر فتعرف قيمة ما بنى أبناؤها؟ متى تدرك أن التنمية الحقيقية ليس في المباني والطرق والجسور، وإنما التنمية الحقيقية هي تنمية الإنسان؟!
بقلم / نوزاد صواش