1- الشمول والتكامل
وهي خاصية منبثقة من كون الأخلاق الإسلامية ربانية المصدر، “فالإنسان لأنه محدود الكينونة في الزمان والمكان والعلم والتجربة، كما أنه محكوم بضعفه وميله وشهوته ورغبته وقصوره وجهله، لذلك كان من المستحيل أن تكون الأخلاق الوضعية للبشر شاملة وعالمية، فأما حين يتولى الله تعالى ذلك كله، فإن التصور العقائدي وكذلك المنهج الحياتي للإنسان، يجيئان بكل ما يحمي الصبغة البشرية من القصور والنقص، وهكذا كان الشمول خاصية من خصائص الأخلاق الإسلامية”(1).
2- الإقناع العقلي والوجداني
من المتفق عليه في الشرع الإسلامي أن الإسلام يتوافق مع الفطرة والعقل، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه” (رواه البخاري).
من هنا نقول إن “العقل السليم يقنع بما أتت به الشريعة من نظم أخلاقية بديعة ومتميزة ومستقلة عن غيرها من النظم الأخلاقية التي وضعها المفكرون والفلاسفة على حسب البيئة التي يعيشون فيها، أو على حسب أهوائهم. كذلك فإن الجانب الوجداني (العاطفي) والذي محله القلب، على قناعة تامة بأصول الأخلاق الإسلامية؛ فأخلاقنا الإسلامية يقتنع بها العقل السليم، ويرضى بها القلب المنير.. فالعقل السليم والقلب المنير عندما يعلم أن الأخلاق الإسلامية تنهى عن الكذب والغيبة والنميمة، وقول الزور والظلم والشح والعدوان والمنكر بكل أساليبه، يكون على قناعة بهذا الخلق الرباني المتميز والمستقل عن غيره”(2).
القانون الأخلاقي في الإسلام لا يقتصر على نفي كل ما هو مستحيل على الإطلاق من الأخلاق الإسلامية، وإنما ينفي عنها كذلك كل تكليف لا تقر العادة إمكان تحمله، كما ينفي كل مشقة يمكن أن تهلك صحة الإنسان حتى لو كانت في حدود طاقتها
3- إمكان العمل
يشترط في الإلزام الأخلاقي الإمكان المادي للعمل؛ فلا يطلب من الإنسان أن يمارس فوق طاقته، حيث قال تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)(البقرة:286)، وقوله عز وجل: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا)(الطلاق:7).
وإذا عدنا إلى الظروف التي نزل فيها هذا النص الأول، فلسوف نفهم هذه الاستحالة التي تبدو كأنها متفقة مع الإلزام، يقول الله عز وجل: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(البقرة:284)، وقد اعتقد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تنطبق على كل ما يدور في الضمير -أفكارًا أو عزائم أو رغبات أو هواجس أو تخيلات- تمسكًا منهم بحرفية هذا النص العام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، اشتد ذلك على الصحابة رضوان الله عليهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جثوا على الركب فقالوا: يا رسول الله، كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق؛ الصلاة، والصوم، الجهاد، والصدقة، وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير” (رواه مسلم). فجاء هذا النص المفسر ليقول لهم إن التكليف لا يتوجه إلى الإنسان إلا في حدود وسائله”(3).
4- اليسر في العمل
القانون الأخلاقي في الإسلام لا يقتصر على نفي كل ما هو مستحيل على الإطلاق من الأخلاق الإسلامية، وإنما ينفي عنها كذلك كل تكليف لا تقر العادة إمكان تحمله، كما ينفي كل مشقة يمكن أن تهلك صحة الإنسان حتى لو كانت في حدود طاقتها، ويقول الله: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(البقرة:185) يقول جل شأنه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء:107)، وقال سبحانه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(الحج:78)، وهذا “المسلك اليسير المتدرج، لا يقتصر وجوده على بضعة أمثلة فقط في الشريعة الإسلامية، بل ينطبق أيضًا وبطريقة جِدُّ واضحة على الأخلاق القرآنية في مجموعها.. ومن المعلوم أن القرآن الذي يقوم في هذا النظام بالدور الرئيسي لم يجئ إلى الناس كتابًا جملة واحدة على نحو ما نراه اليوم؛ فلقد ظهر بعكس ذلك نجومًا (متفرقًا) تتفاوت في كمها خلال نيف وعشرين عامًا”(4). والغرض من نزول القرآن منجمًا، هو التيسير على الناس في تلقينه وحفظه. “وإنه ليكفي أن نلاحظ هذه الأمور القرآنية المنفصل بعضها عن بعض، بمراحل متفاوتة طولاً وقصرًا، لكي نتفق على أن فيها منهجًا تربويًّا بلغ الذروة في قيمته، بغض النظر عن أسباب النزول التي تفسر وتسوغ إقرار كل واجب جديد”(5).
لو تأملنا المنطق العام للتشريع الإسلامي، لوجدناه يضع سلمًا في أعمال الخير من قبيل الواجب، النافلة، المستحب، التطوع، لأن الناس تتفاوت عزائمهم وطاقاتهم الخلقية
ولنا أن نتخيل ماذا سيحدث لو أن هذه الكثرة من الإلزامات الأخلاقية والشرعية قد فرضت دفعة واحدة وبصورة مجملة، ولكن كونها قد وزعت على هذه الشاكلة، فإن النفوس قد تقبلتها بارتياح كامل، وقد فطن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهذا المبدأ (التيسير في الإلزام) حيث قال: “إن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة”(6).
5- تحديد الواجبات و تدرجها
لا يكفي-ونحن في ميدان الخير الأخلاقي- أن نصف نشاطًا بكونه ممكنًا وعمليًّا، ليدخل في عداد الواجبات. فليس الخير والواجب فكرتان متطابقتان، لأنه يوجد فوق السلوك الملزم بشكل صارم درجات الخير، يتزايد استحقاقها للثواب والجزاء، ويصح تجاوزها دون ارتكاب سلوك غير أخلاقي.
لو تأملنا المنطق العام للتشريع الإسلامي، لوجدناه يضع سلمًا في أعمال الخير من قبيل الواجب، النافلة، المستحب، التطوع، لأن الناس تتفاوت عزائمهم وطاقاتهم الخلقية. “إن رجوعنا إلى الضمائر الفردية سوف يصطدم بأن كل الناس ليس لديهم نفس القدر من التشدد، ولا نفس الطاقة الأخلاقية، ويترتب على ذلك أن التنوع في الإجابات يرينا كثيرًا من الاتجاهات المتعارضة؛ فعلى حين أن الأنفس ذات العزيمة القوية، تجعل واجباتها في أعلى درجات الكمال الممكن”(7).
ولكي يتسنى ترويض الحاسة الخلقية على هذا المجموع كله، لا بد أن تمارس النفس الإنسانية جميع القيم قبل أن تتخصص في واحدة من بينها، ففي الحديث النبوي: “إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا”، وفي رواية: “ولزورك عليك حقًّا، فأعط لكل ذي حق حقه” (رواه البخاري).
“فعن هذه المنافسة في القيم، ينتج بالضرورة أن الواجب فرع من فروع الحياة، لا ينبغي له أن يشغل امتدادًا معينًا من الخير الممكن والميسور في هذا الفرع نفسه، تاركًا المجال للفروع الأخرى كي تشبع احتياجاتها، وتحرز نصيبها الشرعي من نشاطنا”(8). وهذا منطق القرآن الكريم -كذلك- فهو يدعو إلى مشاركة أكبر، ويحث كل إنسان أن يرتفع إلى درجات أكثر جدارة في مثل قوله تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)(البقرة:237)، وقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)(البقرة:219)، وقوله سبحانه: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)(الشورى:43)، وقوله: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ)(البقرة:280).
وهكذا يترقى المسلم بأخلاقه في سلم الخير محققًا بذلك أهدافًا نبيلة، ومعززًا برقيه منظومة الأخلاق الفاضلة على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة، ويكون بذلك مساهمًا في عملية إتمام البناء الأخلاقي الذي بدأه الرسول عليه الصلاة السلام، وتعاقب عليه المصلحون بعده.
بقلم / عيسى بن بها