الاستخلاف في المال، هو أحد الأصول الكبرى التي تنبني عليها النظرية الاقتصادية الإسلامية، والمراد به أنه ما دام الإنسان نائبًا ووكيلاً عن الله فيما بين يديه من أموال وثروات، فيجب عليه تنفيذ مراده وإجراء أحكامه فيها. وعليه، فالمال في ظل هذا المبدأ مال الله، والإنسان مستخلف فيه.
لقد حدد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة سبل معالجة هذه الأزمات والحد من خطورتها، ومن هذه السبل تفعيل مبدأ الاستخلاف في المال الذي ينظم علاقة الإنسان بالثروة، ويهذب غريزة التملك لديه، ويجعل المال في يده وسيلة لقضاء المصالح والحاجات لا غاية في حد ذاته.
مفهوم الاستخلاف في المال
يرتبط مفهوم الاستخلاف في المال بمعنى أعمّ وأشمل وهو استخلاف الإنسان في الأرض، والاستخلاف في الأرض يعني أن الله تعالى مكَّن لعباده فيها، وأتاح لهم العيش فوقها من أجل الاشتغال بإعمارها وإصلاحها والانتفاع بخيراتها، وذلك في إطار ما هو مأذون به شرعًا، وضمن هذا المعنى ورد قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)(البقرة:30).
أما الاستخلاف في المال، فهو أحد الأصول الكبرى التي تنبني عليها النظرية الاقتصادية الإسلامية، والمراد به أنه ما دام الإنسان نائبًا ووكيلاً عن الله فيما بين يديه من أموال وثروات، فيجب عليه -إذن- تنفيذ مراده وإجراء أحكامه فيها. وعليه، فالمال في ظل هذا المبدأ مال الله، والإنسان مستخلف فيه، قال تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ)(الحديد:7)، يقول الإمام الزمخشري في “الكشاف”: “يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما ولاَّكم إياها، وخوَّلكم الاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنـزلة الوكلاء والنواب”.
مفاهيم يصححها مبدأ الاستخلاف في المال
1- مفهوم المِلكية: إن هذا المبدأ يستند على حقيقة أن المال مال الله، فالله هو المالك الحقيقي والأصلي لما في أيدي الإنسان، وهذا الأخير لا يعدو أن يكون وكيلاً ونائبًا وخليفة عنه، يؤكد هذا نسبة الله تعالى المال إليه في مواطن عدة من كتابه، منها قوله تعالى: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ)(النور:33).
2- مفهوم التصرف: إن تصرف الإنسان في ظل هذا المبدأ محكوم بتوجيهات رب المال (وهو الله)، سواء في الكسب والتحصيل أو الإنفاق والصرف أو الاستثمار، وهو مسؤول عن ذلك بين يدي الله تعالى، قال رسول الله : “لا تزول قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه” (رواه الترمذي)، وقوله “وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه” دليل على أن الإنسان يُسأل عن ماله يوم القيامة، ويحاسب على تصرفه فيه، بالإحسان إن أحسن، وبالإساءة إن أساء.
3- الملكية الخاصة أو الملكية الفردية: ويقصد بها حق الأفراد أو المؤسسات في تملك الأموال أو وسائل الإنتاج دون حجر أو تضييق، غير أن مبدأ الاستخلاف في المال في التصور الإسلامي، لا يقر هذا الحق بإطلاق كما هو الحال في النظام الرأسمالي، بل إنه قيد ذلك بعدم الإضرار بمصالح الجماعة، وعليه فالملكية الفردية في ظل هذا التصور، لها وظيفة اجتماعية.
4- المال بين كونه زينةَ الحياة وقوامَها، وكونه فتنة وشهوة: قال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(الكهف:46)، وقوله أيضًا: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا)(النساء:5)، وفي المقابل يقول جل وعلا: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ)(التغابن:15). ووجه التوفيق بينها يمكن تلمسه في ظل هذا المبدأ، فالذي يُحصِّل المال ويستثمرُه وينفقه مستحضرًا توجيهات مالكه الأصلي (وهو الله)، يكون هذا المال زينة حياته وقوامها، والذي يُهمِل ذلك ويقصر فيه، فهو فتنة لصاحبه في الدنيا وسبب لشقائه في الآخرة.
بين الثروة ورأس المال
إن مبدأ الاستخلاف في المال، يُحتِم علينا أن ندبر مقدراتنا المالية في إطار رأس المال المتحرك المنتِج، الذي يولد نشاطًا اقتصاديًّا من خلال الاستثمار، وخلق المشاريع المنتجة التي تمتص العطالة، وتوفر فرص الشغل للشباب من خلال اندماجهم في محيطهم الاقتصادي المفعم بالإنتاج والحركية.
وفي ضوء هذا المعنى ينبغي فهم قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)(التوبة:34)، وإذا كان المفسرون القدامى قد فسروا الكنز بالمال الذي لم تؤدَّ زكاته، فإننا نجد من المعاصرين من توسع في ذلك ليشمل المال الجامد الذي لم يدفع به أصحابه إلى سوق العمل من أجل تنميته واستثماره حتى يستفيد منه المجتمع كله، يقول مجدي عبد الفتاح سليمان: “والاكتناز في الفكر الإسلامي يشمل منع الزكاة وحبس المال، فإذا خرج منه الواجب لم يبق كنزًا، والواجب من وجهة نظرنا يشمل الزكاة والإنفاق والاستثمار، فلا يخرج المال من دائرة الاكتناز إلا إذا تم إخراج الواجب أي الزكاة، العفو، النفقات، الصدقات، مداومة الاستثمار. والإسلام لم يقف في محاربة الكنز عند حد التحريم والوعيد الشديد، بل خطا خطوة عملية لها قيمتها وأثرها في تحريك النقود المكنوزة، وإخراجها من مكانها لتقوم بدورها في إنعاش الاقتصاد”(1).
ولقد أثبت الواقع في الفترة الراهنة، بأن مشكلة الأمة ليست متعلقة بالمال من حيث نقصه أو عدمه، ولكن جوهر المشكلة هو عجزنا أو عدم رغبتنا في جعل ما نملك في خانة “رأس مال”، والاكتفاء بجعل علاقتنا به منحصرة في خانة “الثروة”، ومعنى هذا أن الاستفادة من أموال الأمة تبقى مقتصرة على أصحاب الثروات الجامدة، وأن الحل كما يقول الأستاذ مالك بن نبي: “ليس في تكديس الثروة، ولكن في تحريك المال وتنشيطه، بتوجيه أموال الأمة “البسيطة”(2)، وذلك بتحويل معناها الاجتماعي من أموال كاسدة، إلى رأس مال متحرك ينشط الفكر والعمل والحياة في البلاد”(3). والعمل بهذا المنهج سيجعلنا نحقق مراد الله تعالى في قوله: (كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)(الحشر:7).
إن استثمار الأموال وفق هذا النهج، سيتيح لأفراد الأمة جميعًا المشاركة في تحمل مسؤوليات البناء والتنمية والابتعاد عن روح الخمول والكسل، ولعل هذا من أهم المقاصد التي يسعى مبدأ الاستخلاف في المال إلى تحقيقها.
السبيل لتحقيق التكافل الاجتماعي
إن تفعيل مبدأ الاستخلاف في المال بالمفهوم الذي ذكرنا سالفًا، لا بد وأن يؤدي إلى تحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة، وذلك من خلال إشراك أفراد المجتمع في الانتفاع بالثروة بشكل عادل حتى لا تتركز في يد فئة قليلة. ومن أجل ذلك رغب الإسلام في الصدقة التطوعية وحث عليها، ووعد المتصدقين بالأجر العظيم، قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(البقرة:261).
والصدقة التطوعية تأتي من أجل سد الفراغ الذي قد تتركه الزكاة في حال عدم قيامها بحاجات المحتاجين، والزكاة هي الوسيلة الشرعية التي تضمن إشراك الفقراء والمساكين في أموال الأمة، بالإضافة إلى تلبية حاجيات أخرى كتشغيل العاطلين، وقضاء الديون، وإقامة المؤسسات والمشاريع المختلفة، ومحاربة اكتناز الثروة والتشجيع على استثمارها.
إن التصور الإسلامي في مجال الأموال، يسمو بالإنسان من الفردانية والمقيتة القائمة على الاحتكار والاستغلال وتقديس الثروة. إلى المشاركة في سد ثغرات المجتمع، من خلال إشاعة روح التعاون والتضامن المفضيان إلى تحقيق الكفاية والتوزيع العادل للثروات.
كما أن الدولة الإسلامية في نطاق قيامها بواجبها تجاه الرعية، مطالبة بمراعاة أحوالهم والسهر عليها بما يضمن الكفاية للجميع ولو أدى الأمر إلى أن يتساوى الجميع في حد الكفاف. وفي هذا المعنى قال الرسول : “إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم في المدينة، حملوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموا بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم” (رواه مسلم).
ويقول الخليفة عمر بن الخطاب : “إني حريص على ألا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجزنا تأسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف”(4).
إن التصور الإسلامي في مجال الأموال، يسمو بالإنسان من الفردانية المقيتة القائمة على الاحتكار والاستغلال وتقديس الثروة، إلى المشاركة في سد ثغرات المجتمع، من خلال إشاعة روح التعاون والتضامن المفضيان إلى تحقيق الكفاية والتوزيع العادل للثروات.
التاريخ يتحدث
لقد مرت الأمة الإسلامية بمحطات مشرقة عكست مدى نجاعة الحل الإسلامي القائم على تطبيق مبدأ الاستخلاف في المال، ليس فقط على مستوى التوزيع العادل لمقدرات الأمة، بل على مستوى تنمية الإنتاج أصلاً.
فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى واليه عبـد الحميد -وهــو بالعـراق- أن: “أخـرج للناس أعطياتهم”، فكتب إليه عبد الحميد: “إني قد أخرجت للناس أعطياتهم، وقد بقى في بيت المال مال!” فكتب إليه أن: “انظر كل من ادّان في غير سفه ولا سرف فاقض عنه”، فكتب إليه واليه: “إني قد قضيت عنهم، وبقى في بيت مال المسلمين مال!” فكتب إليه أن: “انظر كل بكر ليس له مال، فشاء أن تزوجه وأصدق عنه”، فكتب إليه: “إني قد زوجت كل من وجدت، وقد بقى في بيت المال مال!” فكتب إليه عمـر أن: “انظر من كانت عليه جزية، فضعف عن أرضـه، فأسلفـه ما يقـوى بـه على عمـل أرضـه، فإنا لا نريدهـم لعـام ولا عامين”(5).
إن وفرة المال بهذه الصورة في بيت مال المسلمين، واستعمالَه في سد حاجات الناس الضرورية وحتى الكمالية، بل وتخصيص جزء منه لإقراض من ضعف عن إصلاح أرضه وحرثها.. إن هذا كله لا يمكن أن نفهمه أو نطمح إلى تحقيقه مرة أخرى، إلا في ظل تنفيذ الإنسان لمراد الله تعالى في المال كسبًا وإنفاقًا واستثمارًا.
بقلم/ محمد الدرداري