تقرير محمد عبيد الله
أنقرة (زمان التركية) – أصدرت محكمة تركية في العاصمة أنقرة حكمًا على مجموعة من الإعلاميين بالحبس المؤبد المشدد، وذلك بتهمة “نصب مؤامرة ضد تنظيم” تحت اسم “تحشية” كانت حكومة حزب العدالة والتنمية نفذت عملية ضد أعضائه بتهمة انتمائهم إلى تنظيم إرهابي مرتبط بتنظيم القاعدة.
وحكمت المحكمة على كل من رئيس مجموعة (سامانيولو) الإعلامية القريبة من حركة الخدمة هدايت كاراجا، بالإضافة إلى كل من إلهان إيشبيلان، وكاظم أفجي، وعلاء الدين كايا، بالسجن المؤبد المشدد. كما حكمت بالسجن 10 سنوات و6 أشهر في حق علي تشاليك وديلافير عظيم، وعبد القادر أكصوي في إطار القضية نفسها.
وقال هدايت كاراجا لزميله علاء الدين كايا: “يا أخي علاء الدين لا تحزن أبدا، فالظلم يأتي ويمر. كل شيء يمر. ما يحزنني هو أنني لن أراكم بعد اليوم”.
يذكر أن الرئيس رجب طيب أردوغان استغل في وقت سابق هذه القضية واستولى على كل المؤسسات الإعلامية التابعة لحركة الخدمة، بينها قنوات سامانيولو ومجموعة فضاء المندرجة تحتها صحيفة زمان، التي كانت الأكثر مبيعا في تركيا، وذلك قبل محاولة الانقلاب الفاشلة وليس بعدها، الأمر الذي يدل على أنه كمّم أفواه وسائل إعلام حركة الخدمة، إلى جانب مؤسسات إعلامية أخرى، قبيل الانقلاب الفاشل، حتى يتمكن من تسويق روايته الرسمية الخاصة بهذا الانقلاب الغاشم للشعب التركي وإقناعه بها في ظل غياب شبه كامل للإعلام المعارض.
بهذه المناسبة نقدم لكم قصة أول قضية ضد الخدمة
نقدم لكم قصة التهمة القضائية الأولى الخاصة بالكيان الموازي التي شكّلت أقوى أساس اعتمد عليه أردوغان لتجسيد مزاعمه الخاصة بتدبير حركة الخدمة مؤامرات لاعتقال أبرياء في قضايا عصابة “أرجنكون” و”اتحاد المجتمعات الكردستاني”، الهيئة الإدارية العاليا لحزب العمال الكردستاني، وتنيظم “السلام والتوحيد” التابع للحرس الثوري الإيراني وأمثالها بتهم ملفقة حتى يتبين لكم مدى هشاشة هذا السند لتقيسوا عليه غيره.
لقد أمر مدير الأمن العام “أوغوز كاغان كوكسال” في 22 يناير/كانون الثاني 2010 بتنفيذ عمليات أمنية ضد تنظيم يدعى “تحشية”[1] بتهمة ارتباطه بتنظيم القاعدة، في مدن إسطنبول وبورصا ومالاطيا وأكصراي، بعد أن تلقى تقريرًا في هذا الصدد من رئيس شعبة الاستخبارات الأمنية “حسين نامال”، وذلك بإشراف المدعي العام “إسماعيل أوتشار”.
مدير الأمن كوكسال هذا أصبح فيما بعد نائبًا برلمانياً عن حزب أردوغان، في حين أن المدعي العام أوتشار هو من قضى في 2014 بإغلاق التحقيق في ملفات الفساد التي انطلقت في 25 ديسمبر/كانون الأول 2013 وطالت نجل أردوغان أيضًا.
وأسفرت هذه العمليات عن اعتقال 122 شخصًا، في مقدمتهم رئيس التنظيم “محمد دوغان”، إلى جانب العثور على عدد من القنابل، و7 مسدسات، ومواد متفجرة وألعاب نارية، وخرائط ورسومات خاصة ببعض المواقع الخطيرة في تركيا، ومن ثم وافقت المحكمة بإسطنبول في 26 يناير/كانون الثاني 2010 على اعتقال المتهمين في إطار القضية.
وكان حاكم مدينة إسطنبول آنذاك “معمر جولر” أعلن هذه العمليات لوسائل الإعلام قائلاً: “في 22 يناير/كانون الثاني 2010 تم تنفيذ عملية ضد تنظيم يَظهر بمظهر الدين، أي ضد تنظيم القاعدة الإرهابي”.
وصار الحاكم جولر في وقت لاحق نائبًا برلمانيًّا عن حزب أردوغان أيضًا، وتسلم حقيبة وزارة الداخلية (يناير/ كانون الثاني 2013 – ديسمبر/كانون الأول 2013)، وكان أحد الوزراء الأربعة الذين أقالهم أردوغان بعد أن وجهت لهم ولأبناءهم تهم الفساد والرشوة في 2013. في حين أن إعلام أردوغان قدم هذه العملية وقتها باعتبارها دليلاً على مكافحة حكومته ضد تنظيم القاعدة لتلميع صورته قبيل زيارته المرتقبة إلى الولايات المتحدة. بينما علّق كبير مستشاري أردوغان “يكيت بولوت” على العملية في برنامج على قناة (خبر تورك) بقوله: “يجب علينا إنقاذ الإسلام من عناصر تنظيم القاعدة هؤلاء!”.
وكان وزير الداخلية الأسبق إدريس نعيم شاهين، الذي يعد من أحد الأقربين إلى أردوغان منذ أيام رئاسته لبلدية إسطنبول، وشغل منصب وزارة الداخلية من يوليو/ تموز 2011 إلى يناير 2013، أكد أن القنابل التي عَثرت القوات الأمنية عليها ضمن حملة “تحشية” من نفس نوع القنابل المعثور عليها في إطار عمليات تنظيم “أرجنكون” مؤكدًا أن هذا يشير إلى وجود علاقة بين التنظيمين الإرهابيين.
بالإضافة إلى أن الوثائق الرسمية كشفت أن جهاز المخابرات تابع عن كثب تنظيم “تحشية” منذ عام 2004، بل هو من أطلق عليها اسم “تحشية”، وأعد تقريرًا عنها أكد فيه قربه من تنظيم القاعدة، وأن زعميها محمد دوغان يعلن حبه لأسامة بن لادن، ويُسميه “شعيب بن صالح”، ويدعي أنه “المهدي” و”القائد”. ثم أرسل هذا التقرير في 17 فبراير/ شباط 2009 إلى رئاسة الأمن العام والأركان العامة والسلطات الرسمية الأخرى، كما اعترف بذلك الرئيس السابق للمخابرات بالأركان العامة الجنرال المتقاعد “إسماعيل حقي بكين”، والذي سبق أن اعتُقل في إطار قضية أرجنكون، ويعمل حاليًّا ضمن “حزب الوطن” بقيادة الزعيم اليساري العلماني المتطرف دوغو برينتشاك المرتبط بأرجنكون أيضًا.
من جهة أخرى، كان فتح الله كولن، باعتباره عالماً يعمل في المجال المدني، نبّه في درس نشر على الإنترنت في 6 أبريل/ نيسان 2009 إلى خطورة تنظيم تحشية وحذّر محبيه قائلاً: “من أجل جرّكم إلى الجرائم الإرهابية وتقديمكم كتنظيمٍ إرهابي، يبادرون إلى تأسيس تنظيمٍ تحت اسم “تحشية”. ومن ثم حاولت حركة الخدمة عبر وسائل إعلامها فضح أمر هذا التنظيم، والإعلان في وجه العالم أنه ليس هناك أي علاقة تربطها بهذا التنظيم، وكانت إحدى حلقات المسلسل المعروضة على شاشة “سامانيولو” تعرضت لتنظيم تحشية بعدة جمل فقط.
وكما تبين مما سلف، فإن كل الأسماء التي أشرفت على عملية تنظيم تحشية إما هي شخصيات تولت فيما بعد مناصب مهمة في حكومة أردوغان أو شخصيات قريبة من أرجنكون ومعادية لحركة الخدمة، وأن التقارير التي أعدها جهاز المخابرات وأرسلها إلى جميع السلطات الأمنية والعسكرية هي التي أزاحت الستار عن هذا التنظيم، قبل حديث كولن عنه والمسلسل المعروض على قناة سامانيولو.
على الرغم من كل هذه الحقائق الظاهرة ظهور الشمس في كبد السماء، إلا أن أردوغان أمر النيابة العامة في إسطنبول يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 2014، حيث الذكرى السنوية الأولى لقضية الفساد والرشوة، بحبس 32 شخصًا ما بين 19 إلى 34 سنة، على رأسهم فتح الله كولن بتهمة إصدار تعليمات لأنصاره في جهاز الأمن بتنفيذ هذه العملية، ورئيس مجموعة “سامانيولو” الإعلامية “هدايت كاراجا”، ورئيس مجموعة “فضاء” الإعلامية المندرج تحتها صحيفة “زمان” أيضًا “أكرم دومانلي”، بالإضافة إلى مجموعة من مدراء الأمن، وذلك بتهمة “تأسيس وإدارة تنظيم إرهابي مسلح”، و”التزوير في الأوراق الرسمية”، و”الافتراء” في إطار عمليات “تحشية” المذكورة، والتسبّب في اعتقال المتهمين “الأبرياء” وتعرُّضهم لمظالم كثيرة. وادعت النيابة العامة أن حركة الخدمة نصبت مؤامرة لأعضاء هذا التنظيم ولفّقت جرائم وأدلة بحقهم، وذلك ليتمكن أردوغان من إثبات نظريته القائلة بأن هذه الحركة نصبت مؤامرة ضد وزراء “الفساد” وأبناءهم لتجريمهم وحبسهم وتوظيف ذلك للإطاحة بحكومته، مثلما فعلت الشيء نفسه مع كل من المتهمين في قضايا أرجنكون واتحاد المجتمعات الكردستاني وتنظيم السلام والتوحيد.
إنه ليس بمزاح! فأردوغان اتهم حركة الخدمة بنصب مؤامرة لاعتقال شخصيات أجرت حكومته عملية أمنية ضدهم بتهمة انتمائهم إلى تنظيم إرهابي كتنظيم القاعدة!
ومما سردنا أعلاه يتبين جليا أن أول وأكبر قضية رفعت ضد حركة الخدمة كانت هشة إلى هذه الدرجة، فضلاً عن أن المحكمة التي رفعت هذه القضية هي محكمة الصلح الجنائية التي أسسها أردوغان بعد أن أصبحت حكومته متهمة بالفساد والرشوة، والتي قضت بعدم ملاحقة المتهمين بالفساد أولاً، ثم شرعت في تنفيذ عمليات ضد أعضاء الأمن والقضاء الذين أشرفوا على قضية الفساد والرشوة، الأمر الذي يخالف مبدأ “القاضي الطبيعي” وينطبق على أردوغان في هذا السياق المثلُ العربي “فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ!”.
أردوغان لم يتمكن من تصفية أعضاء الأمن والقضاء المشرفين على تحقيقات الفساد والرشوة بحجة “الكيان الموازي” فقط، وإنما تخلص في الوقت ذاته بفضل هذه الحجة من كل الذين يمكن أن يصبحوا مشكلة له في وقت لاحق، وأعاد تصميم جهازي الأمن والقضاء من ألفه إلى يائه وطمأن نفسه من جانبهما بتعيين الموالين له أو المتحالفين معه من عصابة أرجنكون والإسلاميين الموالين لإيران.