اهتم أغلب الدارسين وخاصة منهم علماء الاجتماع، بشخصية الإنسان وفاعليته في المجتمع، واعتبروا هذه الشخصية -في بعدها الاجتماعي- صيغة منظِّمة نسبيًّا لنماذج السلوك، والاتجاهات، والمعتقدات، والقيم النمطية المميزة لشخص معين، كما عدّوها محصلة الخبرات الفردية في بيئة ثقافية معينة ومن خلال تفاعل اجتماعي متميز. ولهذا تُحدَّدُ بناء شخصية الفرد، عن طريق ملاحظة نموذج سلوكه العام، وطريقة تفكيره ومشاعره، وأفعاله بما في ذلك سلوك دوره ونسقه القيمي(1).
ولقد شكل الإنسان المرتبط ببيئته بؤرة التأثير والتأثر في مجتمعه، باعتباره المسؤول الأول عن بناء المجتمع وصناعة الحضارة. فبالإنسان وحده أنيطت وظيفة البناء والتغيير نحو الأفضل لما زُوِّد به من أدوات الإدراك والإبداع التي تجعله عنصرًا فعّالاً وإيجابيًّا في هذه الحياة. ومن ثم وجدنا أغلب النظريات الفلسفية والدينية تتحدث عن مركزية الإنسان في هذا الكون، وعن خضوع باقي الكائنات لإرادته من أجل إعانته على إثبات كيانه الحيوي والوجودي.
وفي ديننا الإسلامي الحنيف، نجد الخطاب القرآني خصص حيزًا كبيرًا وواسعًا من سياقه للحديث عن الإنسان، باعتباره مخلوقًا مكرمًا شرّفه الله جل جلاله على باقي الكائنات، ونفخ فيه من روحه، واستخلفه في هذه الأرض، وسخر له كل ما عليها، ووكل إليه أمر عمارتها وفق منهج عقدي وسلوكي متميز يضمن له حسن أداء هذه الوظيفة، كما قدم له منظومة معرفية عقدية وتشريعية شاملة ومتكاملة تجيب عن كل التساؤلات الوجودية الملحة، وتنظم له في الوقت ذاته حياته الخاصة والعامة. فقد قدم القرآن الكريم تفسيرًا شاملاً لحقيقة الوجود والكون والحياة والإنسان، وذلك في صورة كاملة تقابل كل عناصر الكينونة الإنسانية، وتلبي كل جوانبها، وتتعامل مع كل مقوماتها؛ تتعامل مع الحس والفكر والبديهة والبصيرة ومع سائر عناصر الإدراك البشري والكينونة البشرية بوجه عام كما تتعامل مع الواقع المادي للإنسان. فقد تحدث القرآن عن الإنسان حديثًا مستفيضًا يتناول مصدره ومنشأه ووظيفته وخصائصه في هذا الوجود، وغاية وجوده، وعبوديته لربه، ومقتضيات هذه العبودية(2).
يحث الأستاذ فتح الله كولن على ضرورة تحقيق الربط الجدلي بين العلم والعمل، وبين الفكر والممارسة، بل ذهب أيضًا إلى حد الحديث عن ضرورة إحداث تناغم وتساوق بين العقل والقلب والحركة، وإلا فلا قيمة لشخص يعيش هذا الانقسام الخطير بين مكونات شخصيته.
وإن من شأن استيعاب هذا التصور المتميز الذي قدمه القرآن عن الإنسان في علاقته بنفسه وواقعه وبربه وبالكون، من شأن ذلك أن يشكل له حافزًا ملحًّا يدفعه إلى تحقيق هذا التصور في واقعه، ما دام سيجد له صدى في أعماقه يهيب به إلى الحركة الفاعلة، ويدفعه نحو العمل وإفراغ الطاقات الإيمانية والحيوية كلها في العمل الإيجابي البناء، قصد عمارة الأرض وبناء الحضارة على النحو الأفضل الذي يتغياه المنهج القرآني ككل.
وعلى درب هذا التصور، ووفق مختلف توجهاته، بنى المسلمون مجتمعهم، وأنشؤوا حضارتهم، وظلوا قادة الأمم بما قدموه من مفهوم جديد تصوري وعملي للحياة والمجتمع، تصور قوامه التوحيد والعدل والمساواة. وظل هذا شأن الأمة الإسلامية طيلة قرون من الزمن، إلى أن دارت عليها الدائرة، وتخلت عن عقيدتها الصافية وأدارت ظهرها لقيمها، فارتدت على أعقابها أمة متخلفة مندحرة أفسدت دينها ودنياها، على نحو مكّن لأعدائها أن ينتزعوا منها المشعل الحضاري، ويهمشوها في مؤخرة الركب البشري.
وخير من يشخص هذا الوضع المأساوي من الانحدار والاندحار الذي آل إليه المسلمون اليوم، الأستاذ فتح الله كولن نفسه بقوله: «ومِن أشدّ ما يُؤلِم أن هذا العالم -وقد ابتعد عن المحركات التاريخية والقيم الإسلامية التي رفعت هامته قرونًا طويلة- وقع أسيرًا في قيود الجهل والانحلال الأخلاقي والخرافة والأهواء البدنية والجسمانية، فانحدر من هنا إلى مهاوي الظلام والخسران، وانحدر من هاوية إلى هاوية.. مبعثرًا -كحبات المسبحة إذا انفرط خيطُها، أو كصفحات كتاب انحلّ عقدُها- مهانًا تحت الأقدام.. مهزوزًا ومزعزعًا -كدحُه هباء وكفاحُه عقيم- مقصومَ الظهر بألف تفرق وتمزق.. حائرًا حتى البَله إذ يغنّي أناشيد الحرية وصدرُه يتشظّى أنينًا في أعظم أنواع الأسر عارًا.. أنانيًا بلا هوية.. أعلن العصيان على الله والرسول»(3).
وهكذا تضافرت على الأمة الإسلامية عوامل داخلية وخارجية، كادت تفني وجودها وتمحو كيانها من الحياة لولا أن قيض الله جل جلاله لها مَن يأخذ بيدها ويجدد لها أمر دينها، ويفتح لها كوّة الأمل لاستعادة دورها الريادي، خاصة عند نهاية القرن التاسع عشر، حيث تميزت هذه الفترة بمقاومة الاستعمار، وتحقيق الاستقلال، وإعادة بناء الصرح الحضاري والفكري.. وهذا ما تَجنّد له ثلة من المفكرين والمصلحين الغيورين على دينهم وأمتهم، فانطلقوا في مسيرات إصلاحية شاملة، تروم بلورة رؤى ومشاريع إصلاحية فكرية وحركية ساهمت -وما زالت- في إحداث صيحة تغييريه قوية في كيان الأمة.
فكان من ثمة تيارات وجماعات إصلاحية، مختلفة المشارب والوسائل ومتحدة الغاية والأهداف، وذلك ابتداء من مدرسة الإصلاح الأفغانية المصرية بريادة الأفغاني ومحمد عبده، ومرورًا بمدرسة حسن البنا وسيد قطب، وتيار كل من الشيخ السنوسي وابن باديس وغيرهم كثير.. وانتهاء بشتى الحركات الإصلاحية الإسلامية الحديثة التي ما زالت إلى يومنا هذا تعمل وتجدّ؛ لإعادة المجد المفقود، وإحلال الأمة الإسلامية مكانتها الريادية المستحقة، عبر طرح مجموعة من التصورات والبرامج الإصلاحية الطموحة.
وكان من بين هؤلاء الرواد المصلحين الأستاذ فتح الله كولن رائد فكرة وحركة «الخدمة» في تركيا، وتلميذ الشيخ المعلم الرائد بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله وإن لم يلتق به مباشرة.
فتح الله كولن وهاجس إعادة بناء الإنسان والمجتمع
شكلت حركة «الخدمة» للأستاذ فتح الله كولن إحدى أهم الحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي، والتي انطلقت من مرجعية إسلامية قصد التأسيس لمشروع حضاري إسلامي جديد، قوامه القيم الإسلامية، ودعامته الأساسية الإنسان المؤمن الموحِّد المغترف من ينابيع العقيدة الإسلامية.
وقد شكل أمر إعادة بناء شخصية الإنسان المسلم، الهاجس الأكبر لدى الأستاذ، والذي كانت له قناعة قوية مفادها أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تقوم لها قائمة، ولن تستطيع إثبات وجودها على خريطة المجتمعات الحديثة، دون الاهتمام بالإنسان الفرد، باعتباره النواة الأولى واللبنة الأساس لبناء الأمة والمجتمع.
وهذا الإنسان ذاته لا يقوم وحده كما زعم الزاعمون، بل لا بد له من أسس متينة يقوم عليها، ومن رؤيا شمولية متكاملة تمهد السبل لصياغة شخصيته، شخصية إنسانية فاعلة في المجتمع، وقادرة على الإسهام الإيجابي في عملية إخراج هذه الأمة من جديد إلى حيز الوجود، كيانًا قويًّا رائدًا ومؤثرًا في مسار البناء الحضاري.
فعملية بناء الأمة والمجتمع، وفق ما يستنبط من خطابات الأستاذ كولن، وكما سيتأكد لنا ذلك خلال الدرس التحليلي لبعض هذه الخطابات، ليس بالأمر الهين، بل هي عملية شاقة وعسيرة ترتبط -أساسًا- بمدى القدرة على إيجاد الشخصية الإيجابية المسؤولة عن هذا البناء، وهذه الشخصية لا توجد من فراغ، بل لا بد من بذل الجهد الجهيد لرسم معالمها وتحديد أسس بنائها بشكل علمي وعملي رصين.
فقيمة المجتمع من قيمة الإنسان -كما يقول الدارسون- والمجتمع الذي لا قيمة للإنسان فيه لا يعير من ثم أية قيمة للمجتمع نفسه.
ومن ثم كانت الأهمية القصوى والأهمية المستعجلة للتفكير -أولاً- في إعادة صياغة الإنسان الفرد، والخروج به -حسب كولن- من حالة الخمول والسلبية واللافاعلية، إلى حالة العمل الإيجابي والحيوية النشيطة والحركية البناءة. وهذا ما سيخصص الأستاذ كولن كل جهده لتحقيقه، انطلاقًا من رؤية إسلامية متميزة رَفَدها من ينابيع شتى، وطعّمها من مصادر دينية وفكرية وفلسفية مختلفة، أهّلته ليكون صاحب مشروع حضاري بامتياز.
رؤية مستندة إلى منظومة معرفية متكاملة ومتعددة المشارب
أطّر الأستاذ كولن لرؤيته التغييرية البنائية، من خلال منظومة معرفية شاملة ومتكاملة تغرف من ينابيع شتى، وعلى رأسها الينبوع القرآني، مرورًا بالينبوع الفكري الثقافي -في عمقه الإسلامي والغربي- وانتهاء بالينبوع الصوفي الروحاني -كما تجلى على الخصوص عند النورسي- الشيء الذي أسعفه في تقديم خطاب إصلاحي شمولي، يتقاطع فيه العقلاني بالوجداني وبالحركي ضمن وحدة متجانسة الأطراف ومتصلة الأوصال، غرضها الأساس تحقيق أقوى سلطة تأثير على كيان وعقل أتباع الخدمة ومحبيها لجعلهم عناصر فعالة ومؤثرة في المجتمع.
إن القرآن -كما يؤكد الأستاذ فتح الله كولن- هو أول محطة فكرية عقائدية يجب الوقوف عندها مليًّا لبناء عقيدة سليمة يستند إليها المؤمن في صقل شخصيته، والسمو بروحه وقلبه إلى آفاق التوحيد والإيمان الخالص.
وعلى الرغم من إدراك الأستاذ لمدى صعوبة هذه المهمة البانية العسيرة، ووقوفه على مدى ضخامة الجهود المضنية التي تنتظر من يتصدى لذلك، أجل، على الرغم من ذلك، فقد ظلت نبرة التفاؤل والأمل في التوفيق، تراوده دومًا؛ إذ نسمعه يقول فيما يمكن اعتباره بيانًا تنظيريًّا جوهريًّا، يوجه من خلاله دعوة إلى ضرورة إيجاد ووجود من أسماه بـ «الإنسان الجديد»، إذ يقول: «نحن اليوم على مشارف عهد جديد في مسيرة تاريخ الإنسانية، متفتح على تجليات العناية الربانية (..) ولكن جميع الأمارات والعلامات التي تلوح في الأفق، تبشر بأن القرن الواحد والعشرين، سيكون قرن الإيمان والمؤمنين، وعصر انبعاثنا ونهضتنا من جديد (..) ومن ضمن الجماهير الفاقدة لوعيها، الهائمة على وجهها، سيولد إنسان جديد كل الجدّة؛ إنسان يفكر ويحاسب، ويوازن ويدقق، ويعتمد على التجربة قدر اعتماده على العقل، ويثق ويؤمن بالإلهام والوجدان قدر اهتمامه بالعقل والتجربة، إنسان يحاول دومًا بروحه وبدنه الوصولَ إلى الأفضل (..) إنسان يسمو بالموازنة بين الدنيا والآخرة، ويوفَّق إلى الجمع بين عقله وقلبه، فيصبح نموذجًا جديدًا لا مثيل له. ولا شك أن ولادة هذا الإنسان الجديد ليس بالأمر السهل، فلا بد من آلام مخاض وتوجّع وأنين، ولكن حين يئين الأوان فسوف تتحقق هذه الولادة المباركة حتمًا، ويظهر هذا الجيل الذهبي بيننا فجأة»(4).
إنها إذن، الانطلاقة من الفرد في إطار عملية شاملة لبناء الإنسان، إذ إن كولن في رؤيته هذه ينطلق من الخاص للتأثير في العام، قصد التمكن من بناء شخصية مؤمنة فاعلة مستوفية لكل الشروط الذاتية والموضوعية المؤهَّلة لإعادة بناء المجتمع. فلا بد في البداية من إصلاح الذات وتهذيب النفس، إذ الإصلاح لديه يبدأ من تغيير ذاتي نفسي يشمل الإنسان/الفرد، خاصة إذا تمت صياغته انطلاقًا من أسس عقدية وأخلاقية متميزة. وقد ارتأينا تصنيف هذه الأسس على النحو التالي: الأساس العقدي والمعرفي، والأساس الروحي والأخلاقي، والأساس الفكري والتربوي، والأساس العملي والحركي.
الأسس البنائية
1- الأساس العقدي والمعرفي: يقول الأستاذ كولن: «إن الوصف الأول لوارث الأرض هو الإيمان الكامل. يحدد القرآن الكريم «الإيمان بالله» غاية لخلق الإنسان في أفق المعرفة وروح المحبة، وبُعد العشق والشوق وتلوّن الخطوط الروحانية. والإنسان مكلّف ببناء عالمه الإيماني والتفكري، حينًا بمد الدروب من ذاته إلى أعماق الوجود، وحينًا بالتقاط شرائح من الوجود وتقييمها في ذاته. ويعني هذا في الوقت عينه، ظهور الحقيقة الإنسانية الكامنة في روحه. والإنسان لا يستطيع أن يستشعر ذاته، والأعماق في ذاته، ومقاصد الوجود وغاياته، ويطلع على كنه الكائنات والحوادث وما وراء ستار الأشياء، إلاّ في ضياء الإيمان.. وبعد الاطلاع، يحيط فهمًا بالوجود في أبعاده الذاتية»(5).
فلا بد إذن خلال عملية البناء، من الانطلاق أولاً من قضية الإيمان بالله كما بينها وفصلها القرآن الكريم. فقد شكل القرآن الكريم بفضائه الروحاني والعقائدي الرحب، أول وأهم مدرسة استند إليها الأستاذ فتح الله كولن في بناء عقيدته، وأثرت في كيانه ووجدانه، ورسمت له -في الوقت نفسه- آفاق نظرتة للحياة والإنسان والكون.
وقد ظل هذا الكتاب المعجز العجيب، يمارس سلطته التأثيرية الشاملة على الأستاذ كولن، ويرسم له -بالخصوص- حدود الشخصية الإسلامية الموحدة، ومجالات التزامها وسلوكها ومعتقداتها؛ الشيء الذي وفَّق كولن، إلى حسن استيعابه، وتفهمه، والعمل على ترجمته تصوريًّا وسلوكيًّا وشعائريًّا، فأحال شخصيته التواقة إلى معرفة الحق وسلوك طريق الحقيقة، شخصية متقدة تغلي بكل مشاعر وأشواق المحبة والإيمان والعشق الإلهي، والإذعان الكامل والتسليم المطلق لفاطر السموات والأرض.
وهذه الحقائق نفسها، هي التي حاول الأستاذ فتح الله كولن أن يجاوز بها القناعة الذاتية الخاصة به، لينشرها ويبثها في قلوب وأفئدة مريديها وكل المسلمين، خلال خطاباته الإصلاحية المختلفة، المبثوثة عبر أغلب كتاباته؛ وخاصة منها ما وقع بين أيدينا حاليًّا، من أعمال مترجمة إلى العربية، على نحو كتاب و «نحن نقيم صرح الروح»، وكتاب و «نحن نبني حضارتنا».
في هذا الكتاب الأخير، يهمس في آذاننا همسات لطيفة، مشحونة بمنتهى العشق الروحي، متحدثًا عن القرآن الكريم وما ضمه بين دفتيه من حقائق عقدية ملهمة، ومحققة لذلك التوازن الذاتي والغذاء الروحي اللذين يحتاج إليهما كل مسلم في مجتمعه، حيث يقول: «هذا الكتاب ينير أفق عرفاننا، بحيث لا يتعرض الإنسان -حينما يسير على هداه نحو «عرشِ كمالِ» قلبه- لوحشة الطريق، ولا احتقانِ الفكر، ولا انقباض الروح.. يسير دومًا في هذا الطريق الذي يحس إبّان السير فيه بتداخل العلم وتمازجه مع الإثارة والنشوة، والإيمانِ مع المشاهدة، وثقلِ الحِمل مع الاطمئنان، والالتزام بالنظام مع الإحساس بالأمن (..) ولا أظن أن من يعرف هذا الكتابَ يحتاج إلى مصدرٍ غيرِه في المواضيع الأساسية المتعلقة بالإنسان والكون والله، إلا في تفصيلِ مجمَلاته وتدقيقها (..) هذا الكتاب، بنزوله على أعظم البشر بركةً وأسعدِهم طرًا، في نقطةِ تحولٍ مهمةٍ لسير التاريخ، استهدف تنظيمَ حياةِ مجتمعٍ محظوظٍ، فرديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وإداريًّا واقتصاديًّا وروحيًّا»(6).
فالقرآن -كما يؤكد ذلك الأستاذ كولن- يعدّ المصدر الأول والأهم في تشكيل وعي المسلم على كل المستويات وفي كل المجالات، وخاصة المجال العقائدي المتعلق بمعرفة الله وتوحيده؛ فهو أول محطة فكرية عقائدية يجب الوقوف عندها مليًّا، لبناء عقيدة سليمة يستند إليها المؤمن في صقل شخصيته، والسمو بروحه وقلبه إلى آفاق التوحيد والإيمان الخالص.
والقرآن كان -وما يزال- المرجعية الأولى لفهم الدين ومعرفة حقيقة الالتزام بالإسلام وقيمه المختلفة.
ومن ثم نجد الأستاذ كولن، يوسع من مفهوم الإسلام والإيمان والتوحيد، ليشمل كل مجالات الحياة ويطال كل الأبعاد النفسية والفكرية والسلوكية للشخص المؤمن، على نحو يجعل منه شخصًا موحِّدًا ومؤمنًا بالغيب ومهتمًّا أيضًا بعالم الشهادة، حاملاً همّ البناء والإصلاح والتغيير نحو الأفضل.
فالإسلام كما يؤكد ذلك الأستاذ كولن في نفس السياق: «إن الكلمة المفتاحية لفتح القلوب، هي «لا إله إلى الله محمد رسول الله»، بحيث إن كل الخصائص الإيمانية -حسب الإسلام- تتأسس على هاتين الجملتين الوجيزتين اللتين هما تعبير عن حقيقة لها وجهان: أحدهما غاية، والآخر وسيلة. فالإيمان الذي هو
كـ «شجرة طوبى»؛ تنشأ من هذه البذرة، فتغطي -بما تؤتي من ثمار المعرفة- سماءَ أحاسيس الإنسان وشعوره وإدراكه، ثم تتحول العلوم والمعارف كلها إلى العشق والاشتياق والحرصِ، بحملةٍ وهمّة داخلية، وشعورٍ وحسٍّ داخلي؛ ليحاصر ذاك الإنسانَ من كل جهة، فيحوّله إلى إنسان جديد قائمٍ على محور الوجدان. فتنعكس هذه الحالُ على كل سلوكيات هذا الإنسان العاشق المشتاق، وتَحمل عبادتُه وطاعتُه سماتٍ ترتسم بخيوط هذه العلاقة الرابطة، وذلك العشقِ والاشتياق (..) وتتمحور حركاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية كلها، حول قوة الجذب المركزي هذه»(7).
إنه بمعنى آخر، ذلك الدين الفطري المتغلغل في كل كيانات الإنسان ونقاط مداركه، يتفاعل معه المؤمن وينفعل به، وينقله من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، لينقلب لديه أكبر محفز على العمل والفاعلية الإيجابية. فلا مجال إذن للحديث عن المفهوم التواكلي السلبي للتدين والإيمان الفاتر الذي لا يحرك في قلب وكيان صاحبه كل مشاعر وأشواق الحب للآخرين، والرغبة في إسعادهم وإرفادهم من رصيد الإيمان.
«ومن الحق أن حقيقة الإيمان -كما يؤكد ذلك الأستاذ فتح الله كولن- المتأصلةَ في عالمنا الداخلي، إنما تُديم وجودَها بقدْر تناميها وتوسعها في الحياة المعيشة؛ فإذا بُذرت بذور الإيمان وترعرعت واخضرت في القلوب، ثم تحولت إلى استقامة ووثوق في التصرفات، وانقلبت إلى وقار وخشوع في الصلاة، ورَفدت وازعَ الحقّانية والعدل في علاقاتنا الاجتماعية، فذلك يعني أن الأفق منبسط أمامنا إلى اللانهاية للتطور والتوسع. وكما يكون إيمانٌ كهذا الإيمان في الإنسان مصدرًا لا ينفد للقدرة والحيوية، كذلك يكون قاعدةً ومنصةَ انطلاق للارتقاء باسم «خلافة الله في الأرض» إلى حق «التدخل في الأشياء» وتشكيلِ صور البيئة المحيطة حسب مشاعره وأفكاره الإيمانية، والانفتاح على اللانهاية في محور التوحيد والتجريد بالتصورات الجمالية والروح الفنية في طبيعيتهما الذاتية»(8).
إن التحصيل العلمي الحقيقي -كما يرى كولن- يجب أن يقود إلى اكتساب قدرات فكرية متميزة، تعين على إعمال العقل وتوظيف ملكاته الإيجابية والتخطيطية، بحيث تؤدي في النهاية إلى الوعي التام بالذات، ومن ثم الوعي بالمحيط الموضوعي، واستثمار كل ذلك لخدمة الواقع ومساعدة الآخرين في إطار حضور الثوابث الشرعية.
إنه إذن، المفهوم الشمولي للإيمان المستوعب لكل آفاق ومجالات الحياة العامة للإنسان، يعالجه «كولن» في هذا السياق ليؤكد من خلاله أن المعطى العقائدي الإيماني في الإسلام، ليس مجالاً جامدًا ومنغلقًا يشلّ حركية الفعل وإيجابية السلوك لدى المؤمن الموحِّد، بل على العكس من ذلك، إن الإيمان والعقيدة التوحيدية متى تمكنا حق التمكن من عقل وقلب ووجدان المؤمن، يمكنهما أن يشكلا لنا نموذج الشخصية المؤمنة البناءة التي تأبى أن تقف بإيمانها وعقيدتها عند حدود التصور الجامد الثابت الجاف، بل تسعى دومًا إلى تجاوز ذلك نحو الترجمة العملية الفاعلة في عالم الشهادة.
2- الأساس الروحي والأخلاقي: إذا كانت العقيدة التوحيدية الخالية من كل الشوائب، هي نقطة الانطلاق لبناء الشخصية الفاعلة في المجتمع، بما تقدمه لصاحبها من زاد عقدي غني بالحقائق الإيمانية الصافية التي تسمو بصاحبها إلى أعلى درجات التوحيد، والتعلق بالإله الواحد الأوحد الجدير بكل عبادة، فإن من شأن من تشرب هذه العقيدة، أن يرقى بالمؤمن إلى عوالم من التعبد والتقرب للذات الإلهية، وصقل الروح وتزيينها بكل أحوال المحبة والعشق الإلهي، وهذا ما عمل على ترجمته الأستاذ فتح الله كولن في كتاباته والتي أولى فيها موضوع التربية الروحية والتزكية السلوكية والأخلاقية كل اهتماماته، إيمانًا منه بأنه لا فلاح لمؤمن موحد لا يهتم ببناء روحه وتخليتها من كل شوائبها، ثم تحليتها -بعد ذلك- بكل ما يزكيها ويصقلها ويسمو بها إلى مدارج الشوق الإلهي والعرفان الرباني.
ولقد كانت نشأة فتح الله كولن في بيئة صوفية، وتتلمذه على بعض أقطاب المدرسة الصوفية التركية، وخاصة الأستاذ بديع الزمن النورسي من خلال كتبه المعروفة بـ «رسائل النور».. كان لكل ذلك أكبر الأثر في توجيه وتشكيل وعيه ومساره الديني، إذ أيقن الأستاذ كولن من خلال الإبحار في النصوص القرآنية والنبوية والكتابات الصوفية، أن الإنسان المؤمن الموحد المركب من جسد وروح، لا بد له من تغذية روحه، والاهتمام بتزكيتها والسمو بها اهتمامَه بتغذية جسده والعناية به.
إذ لا يتم استكمال بناء شخصية المسلم الفاعل، إلا بالالتفات إلى جانبه الروحي والأخلاقي، والعمل على تحقيق لون من التربية الروحية، وتنقية القلب من كل شوائبه، على اعتبار أن القلب -كما يرى الأستاذ كولن- هو نقطة الارتكاز الأساس في تصفية الروح وتقويم الخلُق. نسمع الأستاذ يؤكد هذه الحقيقة في كتاب «ونحن نقيم صرح الروح» بقوله: «ومن مقترب آخر، أن يكون الإنسان «إنسانًا» وفق المعنى الذي يجعله إنسانًا حقًّا، مرتبط بخضوعه لأوامر قلبه واستماعه إلى روحه، رغمًا عن بدنه وجسمانيته وعقل معاشه الدنيوي. فعلى الإنسان أن ينظر إلى كل شيء وكل أحد بعين القلب، ويقيّمهم بموازين القلب المتأهلة للاعتبار والتقدير، لكي يتعرف جيدًا على نفسه وما حوله. ولا ينبغي أن ننسى أن الذي لا يحفظ طراوة قلبه وصفوة روحه في كل أوان، ولا يقي نقاءه وطهره كنقاء وطهر الأطفال برفقة ثرائه الذهني والفكري والحسي في كل وقت، لن يوحي بالثقة إلى من حوله، ولن يحوز على التصديق والإقناع قطعًا، مهما توسع في رحاب العلم والأدب والخبرة»(9).
بل إننا نجد الأستاذ فتح الله كولن في سياق آخر، يعتبر التصوف وما اهتم به من تربية روحية وتزكية نفسية -كما تجلت لدى أقطاب الفكر الصوفي عبر التاريخ- من المصادر الأساسية لميراثنا الثقافي بعد الكتاب والسنة والإبداع والقياس والاستحسان والاستصحاب؛ إذ يرى أن التصوف هو مصدر مهم للمعرفة والثقافة في مساحة واسعة من الحياة الروحية إلى الأخلاق وآداب المعاشرة.
ثم يسترسل مبينًا أبعاد هذه الحقيقة بقوله: «يمكن القول: إن التصوف هو الحفاظ الدائم على طهارة القلب حيال دوافع الشيطان والنفس، وردعُ النفس عن ميولها الخاصة وتضييقُ مجالها بقدر المستطاع.. ومواصلةُ السير في طرق الارتقاء نحو «الإنسانية» الحقيقية بالكد الدائم للبقاء في مستوى «الحياة القلبية والروحية»، وتكريسُ الحياة على تحقيق السعادة المادية والمعنوية للآخرين، ومع منتهى الجدية في المناسبات مع الحق تعالى.. واتباعُ نهج النبوة في عدم انتظار الأجر حتى في أصدق الجهود وأخلصها وفي أعظم الأعمال وأشدها.. والعزمُ على المسير أبدًا في ظلال المشكاة المحمدية في مساعي العبودية للحق تعالى.. وإشهارُ عبودية صافية خالصة لا غرض فيها ولا عوض، بالتقيد الشديد في المناسبات مع الله تعالى بإدراك نوعية المناسبة بين الخالق والمخلوق، والعابد والمعبود، والطالب والمطلوب، والقاصد والمقصود.. والقيامُ بمنتهى التحمل والصبر الدؤوب حيال المعاصي.. وأداءُ العبادات والطاعات في لذة ونشوة، كأنها الغاية والهدف من الحياة.. واستقبالُ البلايا والمصائب بالابتسام مع انشراح الصدر لقهره ولطفه تعالى في نفس المستوى.. وربطُ كل أنواع السعي والهمة باستحسان الحق تعالى وليس بتقويمات البشر.. والصبر على تباطؤ الزمن صبر الدجاجة الحضون»(10).
لا يتم استكمال بناء شخصية المسلم الفاعل، إلا بالالتفات إلى جانبه الروحي والأخلاقي، والعمل على تحقيق لون من التربية الروحية، وتنقية القلب من كل شوائبه، على اعتبار أن القلب -كما يرى الأستاذ كولن- هو نقطة الارتكاز الأساس في تصفية الروح وتقويم الخلُق.
وبهذا يكون كولن، قد طعّم منظومته الإصلاحية بهذا المنحى الروحي الأخلاقي الصوفي كأهم دعائم خطابه الإصلاحي الرامي إلى إعداد ما أسماه بـ“رجل القلب“، وهي إحدى أهم الصفات المحورية في بناء الشخصية الفاعلة في المجتمع. فلا فاعلية دون عقيدة توحيدية سليمة، ولا عقيدة كاملة دون نزوع روحاني متوازن يمتاح من منبع التصوف.. وهذا ما أكسب -في رأينا- كتابات الأستاذ فتح الله كولن بُعدًا روحيًّا يهدف إلى عقد نوع من التجانس والتوافق بين الشريعة والحقيقة، أو بين أهل الظاهر وأهل الباطن، مما وسع من آفاق ومجال مشروعه الإصلاحي، وجعله يشمل تطلعات الإنسان والمجتمع الروحية والأخلاقية شمولها لتطلعاتهما المادية والواقعية.
3- الأساس الفكري والتربوي: في إطار تفعيله لشمولية رؤيته الإصلاحية المتكاملة، أولى الأستاذ فتح الله كولن عناية خاصة للمجال الفكري والتربوي، باعتبارهما من أهم الأسس التكوينية المساهمة في تقوية بناء الشخصية المسلمة الفاعلة في مجتمعها. فإذا كانت العقيدة نقطة انطلاق أساسية في مسار بناء الشخصية، ثم تلتها مرحلة التربية الروحية والتزكية القلبية كمرحلة بنائية تالية وضرورية من أجل إنضاج عملية التكوين وصقل كيان الشخصية المؤمنة والانتقال بها من مجال الإيمان والاعتقاد إلى مجال التعبد والقربى لله جل جلاله، فإن هاتين المرحلتين معًا لا تستكملان دورهما ولن تفصحا عن كل مكنوناتهما ما لم يُدعَما بمرحلة أخرى أساسية وهامة، إنها مرحلة الإعداد الفكري والتكوين العلمي والتربوي.
وأظن أن هذا المجال، يمكن أن يعدّ من أهم الحقول التكوينية التي صال وجال فيه الأستاذ كولن، موظفًا فيه كل خبراته وتجاربه الذاتية والعلمية من أجل إعداد ما أسماه بـ «الجيل الوارث»؛ الجيل الحامل لهمّ الأمة، والعامل على إثبات وجودها وتجديد كيانها في الواقع الحديث. ولا غرابة في ذلك ما دام الأستاذ نفسه خضع وأخضع نفسه لمسيرة فكرية وعلمية وتربوية طويلة ومضنية، كلفته الكثير من الوقت والجهد والجد والاجتهاد على الرغم من كون أغلب مراحل تكوينه العلمي كانت خارج المؤسسات الرسمية، حيث يمكن اعتباره شخصًا عصاميًّا تتلمذ على بعض الشيوخ والأساتذة الذين كان يحضر مجالسهم العلمية، واستمع إليهم وأفاد منهم، أو من الذين أخذ عنهم عن طريق الاطلاع على كتبهم ومصادر علمهم.
كل ذلك ساعده على اكتناز رصيد ضخم من المعارف المتعددة المشارب، سيعمل -مع مرور الزمن- على تكثيفها وإغنائها بمزيد من التحصيل والاستيعاب والانفتاح على كل العلوم الدينية منها والدنيوية.
الإنسان الجديد بطل يتمتع بشخصية قوية استطاعت أن تسمو على المؤثرات الخارجية بشتى أنواعها، وعزمت على الصمود والاكتفاء الذاتي. فكما أن الشرق والغرب لن يستطيعا أسره ووضع السلاسل في قدميه، فكذلك لن تستطيع الأفكار والفلسفات التي تتناقض مع هويته المعنوية وجذوره أن تغير وجهته.
وعلى العموم، فقد ظل هاجس تحصيل العلم ودراسة الفكر واكتناز مختلف المعارف، أهم هاجس لازمه من صباه إلى كبره، وهذا ما سيوفر له خلفية ثقافية ضخمة، ومرجعية فكرية هائلة سيغرف منها للكتابة والتأليف والخطابة، وإعداد الخطط والبرامج خاصة لتلاميذه ومحبيه الذين عمل جاهدًا على إقناعهم بما اقتنع به؛ من ضرورة تحصيل العلم النافع، وبناء رصيد معرفي وفكري هام تكتمل بهما معالم الشخصية الفاعلة. ولعل هذا ما يفسر لنا إقبال الأستاذ كولن ضمن «فكرة الخدمة»، على فتح عشرات المدارس والجامعات والأكاديميات ومراكز البحث والتكوين والإعلام، لتشكل منارات استقطاب وتكوين العلماء والخبراء في شتى المجالات. فلا فاعلية -إذن- ولا تأثير في الواقع ولا إصلاح، بدون علم وفكر وتربية، وهذا ما يعمل الأستاذ كولن على تفصيله في مجموعة من كتبه ومقالاته، كمعالم أساسية لاستكمال بناء الشخصية. لكن الأستاذ كولن يشترط لعملية التحصيل العلمي شروطًا وضوابط هامة. إذ لا بد أولاً من توجيه نتائج العلم توجيهًا نفعيًّا إيجابيًّا مستظلاًّ بظلال الشرع الإسلامي.
كما دعا أيضًا، إلى ضرورة الالتفات إلى ما يزخر به تراثنا الإسلامي من كنوز علمية، وحب العمل على الاستفادة منها بعد غربلتها من شوائبها. ودعا الأستاذ كولن إلى العمل أيضًا، على إخضاع نتاج العلم الحديث لمنطق الفكر الإسلامي، إذ يقول في هذا: «الوصف الثالث للوارث، هو التوجه إلى العلم بميزان العقل والمنطق والشعور. هذا التوجه الذي يشكل جوابًا عن تمايل البشر وحَيْدِه في انسياق البشرية بفرضيات سوداء في مرحلة زمنية معينة، سيكون خطوة مهمة باسم الخلاص الإنساني»(11).
ويشير إضافة إلى كل هذا، أن الفكر والتفكر معًا أمران ضروريان لحياة المؤمن، وأن الذي يحيا دون أن يفكر ويتعلم؛ يعيش سطحيًّا إلى درجة كأنه الطفل، حيث يقول: «ما ينبغي هو أن يعيش الإنسان وهو يفكر، وأن يبتكر أنماطًا فكرية جديدة إذ يعيش، فيتفتح على آفاق مُركّبات فكرية مختلفة.. والذين يعيشون بغير فكرٍ هُم دُمى تُمثّل فلسفة حياة للآخرين»(12). وتحدث الأستاذ فتح الله كولن في هذا السياق، عن ضرورة إعمال الفكر -أيضًا- في ملكوت الله، وخلقه، وآثار وجوده، من خلال آياته المبثوثة في الكون أو المسطورة في القرآن(13).
كما دعا أيضًا، أن يكون المفكر حرًّا في تفكيره، طليقًا من أي ضغط خارجي، ليتسنى كسب المعرفة بكل أبعادها. فالمسلم مجدّ في طلب العلم وتحصيل المعرفة أنّى كان مصدرها، شريطة إخضاعها لتصوره الإيماني، وضبطها بضوابط الشرع -كما قلنا- دون أن يخشى الوقوع في أي استلاب ذهني أو يسقط صريع غزو فكري غربي، ما دام يظل دائمًا متمسكًا بجذوره، وفيًّا لأفكار أجداده.
ويؤكد الأستاذ كولن هذا بكل جلاء في مقاله حول «الإنسان الجديد» بقوله: «الإنسان الجديد بطل يتمتع بشخصية قوية استطاعت أن تسمو على المؤثرات الخارجية بشتى أنواعها، وعزمت على الصمود والاكتفاء الذاتي. فكما أن الشرق والغرب لن يستطيعا أسره ووضع السلاسل في قدميه، فكذلك لن تستطيع الأفكار والفلسفات التي تتناقض مع هويته المعنوية وجذوره أن تغير وجهته وتضله في ظلامها عن طريقه، بل ولن تستطيع أن تزحزحه عن مكانه قيد أنملة أو أقل من ذلك. أجل، الإنسان الجديد رجل حر في تفكيره، حر في تصوره، حر في إرادته، وحريته هذه مرتبطة بقدر عبوديته لله سبحانه وتعالى. ثم إن الإنسان الجديد لا يتشبه بالآخرين ولا يتمثل بهم، بل يحاول جاهدا أن يتزيّا بهويته الذاتية ويتزيّن بمقوماته التاريخية.
الإنسان الجديد ممتلئ بالفكر، ملتهب بعشق البحث، مفعم بالإيمان، قابل للوجدانيات، متشبع بنشوة الروحانية ومعانيها»(14).
بل إن هذا الإنسان الجديد -حسب كولن- يجب أن يكون مشاركًا وحاضرًا بقوة في مسيرة الحركة العلمية الحديثة، ينهل من كل المعارف والعلوم، مستغلاًّ لكل وسائلها، وموظفًا لها من أجل إيصال كلمته، فهو يقول: «الإنسان الجديد يستخدم جميع وسائل الاتصالات الحديثة؛ كتباً وجرائد ومجلات، وإذاعة وتلفازاً ومنشورات للولوج إلى القلوب والنفوذ إلى العقول والدخول إلى الأرواح، ويثبت جدارته من خلالها مرة أخرى، بل ويسترد مكانته المسلوبة في التوازن العالمي من جديد.
الإنسان الجديد، هو إنسان عميق من حيث جذوره الروحية، متعدد من حيث ما يملكه من كفاءات صالحة للحياة التي يعيش في أحضانها. إنه صاحب القول الفصل في كل الميادين بدءا من العلم إلى الفن ومن التكنولوجيا إلى الميتافيزيقيا، وصاحب خبرة ومراس في كل ما يخص الإنسان والحياة. أجل، إنه عاشق لا ينطفئ ظمؤه إلى العلوم مهما نهل، مولع بالمعرفة ولعاً لا يفتأ يتجدد كل حين، عميق بأبعاده اللدنية التي تعجز العقول عن تصورها»(15).
لقد حملنا على عاتقنا مسئولية بث روح جديدة في دنيانا، مشبعة بالإيمان وحب الإنسان والحرية، وتجهيز البيئة وإعدادها لترسيخ الجذور المعنوية لشجرة مباركة تنمو أفنانها وتزدهر أغصانها بهذه المعطيات، وتزهو حقولا جديدة بامتداد تلك الجذور.
وعلى العموم، فإن التحصيل العلمي الحقيقي -كما يرى كولن- يجب أن يقود إلى اكتساب قدرات فكرية متميزة، تعين على إعمال العقل وتوظيف ملكاته الإيجابية والتخطيطية، بحيث تؤدي في النهاية إلى الوعي التام بالذات، ومن ثم الوعي بالمحيط الموضوعي، واستثمار كل ذلك لخدمة الواقع ومساعدة الآخرين في إطار حضور الثوابت الشرعية.
لكن الهاجس الأكبر الذي ظل يلح على الأستاذ كولن، وهو بصدد الدعوة إلى ضرورة تحصيل العلم والاجتهاد في الاغتراف من شتى ينابيع الفكر قصد استكمال أهم صفات الإنسان الفاعل.. كان هذا الهاجس هو ضرورة ربط الفكر بالعلم، والعلم بالسلوك. فأبغض ما كان الأستاذ يبغضه، هو ذلك الفصام النكد الذي يمكن أن يحصل بين الفكر والعمل، وبين العلم والسلوك والممارسة، شأن ما يحصل في عصرنا الحديث لدى أغلب الأوساط العلمية في شرق الأرض ومغربها، مما يحيد بالعلم والفكر عن مسارهما الصحيح، وينقلب بهما إلى مجرد أدوات تسلية أو ترفيه وأحيانًا تخريب ودمار.
لهذا نجد الأستاذ كولن، يحث على ضرورة تحقيق هذا الربط الجدلي بين العلم والعمل، وبين الفكر والممارسة، بل ذهب أيضًا إلى حد الحديث عن ضرورة إحداث تناغم وتساوق بين العقل والقلب والحركة، وإلا فلا قيمة لشخص يعيش هذا الانقسام الخطير بين مكونات شخصيته.
وهذا ما حرص الأستاذ كولن على تطبيقه بين أفراد وأتباع حركة الخدمة التي أنشأها في تركيا، وهو ما سنحاول إبراز أهم آفاقه وأبعاده ضمن الحديث عن الأساس الرابع من أسس بناء الشخصية الفاعلة في المجتمع، وهو الأساس العملي والحركي.
4- الأساس العملي والحركي: يؤمن الأستاذ فتح الله كولن -كما أشرنا- إيمانًا جازمًا أن لا فائدة من علم مجرد عن العمل والانتشارِ في الأرض ابتغاء الإصلاح والتغيير نحو الأفضل، ولا فكر -أيضًا- بدون حركة؛ حركة التغلغل في كيان المجتمع، والتسلل إلى كل مساربه ودروبه، قصد فهم آفاته ومثالبه، والإسهام في إصلاحه وتقدمه عن طريق تقديم الخدمة للبشر قاطبة، والأخذ بأيديهم نحو حياة الكرامة والعز والأمان والإيمان. وفي هذا الصدد، يقول الأستاذ كولن موجهًا الخطاب خصوصًا لمحبّيه من أبناء حركة الخدمة: «يمكن تلخيص خط كفاحنا كورثة الأرض بكلمتي الحركية والفكر. وإن وجودنا بوجهه الحقيقي يمر عبر الحركية والفكر؛ حركية وفكر يغيران الذات والآخرين. ومن جهة أخرى يبدو كل وجود وكأنه حاصل حركة ومجموعة أنظمة، وبقاؤه مرتبط بالحركة وبتلك الأنظمة. وإن أهم شيء وأشدّه ضرورة في حياتنا هو الحركية»(16).
وكثيرًا ما نوه الأستاذ كولن -في نفس السياق- إلى أن كل عناصر الكينونة البشرية، يجب أن تتضافر وتتجانس فيما بينها قصد استكمال كل عناصر الحياة الحقة؛ فالفكر في خدمة القلب، والعقل في خدمة الروح والوجدان، والفكر والعقل والقلب جميعًا في خدمة الحركة.
فالحركة والحركية، تحتاج دومًا إلى هذا التصاهر والتناغم بين كل المكونات حتى يتحقق ذلك التوازن الذاتي المنشود، والعدل الاجتماعي المفقود، يقول الأستاذ كولن بهذا الصدد: «إن حركية حياتنا الدعوية والفكرية هي حياتنا الروحية، في حالٍ لا يمكن به فصل حياتنا الروحية عن فكرنا الديني. فقد تحقق كل صراع من أجل الوجود والحضور -خاصة شعبنا- باللجوء إلى المعنى والروح الإسلامية»(17).
ولعل أهم خاصية وجب الإشادة بها في هذا السياق ضمن حديثنا عن جدلية التلاقي بين الفكر والحركة، والتجانس بين العلم والعمل -كما تصورهما الأستاذ كولن- هو أن الأستاذ لكي يكون منطقيًّا مع نفسه، ووفيًّا لمبادئه ودعواته؛ فإنه حرص كل الحرص على ربط العلم بالعمل، والفكر بالحركة في مسار دعوته وحركته وبيئته، عن طريق تربية جيل يؤمن بهذه الثنائيات المترابطة فيما بينها، ويقتنع بجدواها، ثم دفع هذا الجيل المشحون بمثل هذه القناعات، إلى النزول إلى ساحات الواقع والعمل على ترجمة ما لُقِّنوه نظريًّا في فضاءات المجتمع المختلفة، دعوة وبيانًا وخدمة وإرشادًا ودعمًا لكل فعاليات الخير والإصلاح.
وهو ما نتج عنه في الأخير، ظهور جيل من الشباب المتحمس ذوي الشخصيات الفاعلة في المجتمع، والمتفاعلة مع قضاياه، والمنفعلة بأناته ومعاناته.. إنه جيل الخدمة كما أطّر ونظّر له الأستاذ كولن في جلّ كتاباته، وكما جسّدها في الواقع، نماذج حية، ومؤسسات حية فاعلة تعمل كخلايا النحل وسط المجتمع، بتقديم أغلى ما لديها من عطاءات وتضحيات ومجهودات تروم -أساسًا- إعادة بناء المجتمع على أحسن صورة.. مجتمع تسوده قيم الإسلام المتميزة، انطلاقًا من التوحيد والإيمان والعبادة الصادقة والسمو الروحي، ومرورًا بتقديم شتى الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، وانتهاء بفتح أبواب المدارس لتسهيل العلم النافع ورُدحات المستشفيات لتأمين العلاج لكل من يحتاجه، ومدرجات الجامعات والكليات لتأطير وتكوين الأطر العليا المؤهلة لقيادة المجتمع نحو الرقي والتقدم.
وفي هذا السياق يقول الأستاذ كولن: «ونحن حملنا على عاتقنا مسؤولية بث روح جديدة في دنيانا، مشبعة بالإيمان وحب الإنسان والحرية، وتجهيز البيئة لترسيخ الجذور المعنوية لشجرة مباركة تنمو وتزدهر أفنانها بهذه المعطيات، وتزهو حقولاً جديدة بامتداد تلك الجذور.
ولا شك أن إنجاز ما تمليه هذه المسؤولية، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بأبطال يصونون مصير الوطن، ويحمون تاريخ إنساننا ودينه وأعرافه وتقاليده ومقدساته كلها.. أبطال طافحين بحب العلم، منشدين إلى الإعمار والإنشاء، متدينين أخلص من الخُلَّص، محبين للشعب، مرابطين أبدًا على أداء واجباتهم بشعور المسؤولية.. فبهؤلاء وجهودهم ستهيمن أفكارنا، ومحصلة هذه المفاهيم والأفكار على حياة شعبنا، ويعلو في كل إنسان حسُّ نذر النفس لخدمة المجتمع، وينتعش من جديد مفهوم تقاسم الواجبات والتعاون المتبادل»(18).
ولهذا، فلا غرابة أن وجدنا آثار هذه الفكرة العملية (فكرة الخدمة) الناتجة أساسًا عن ضرورة ربط العلم بالعمل والفكر بالحركة، قد آتت ثمارها اليانعة في تركيا وخارجها عبر بقاع شتى من العالم، خاصة منها البلدان الإسلامية؛ حيث انتشار المدارس المهنية المؤهلة حرفيًّا وتقنيًّا، وسعيها الحثيث لنشر العلم وتوعية الناس عن طريق أرقى المناهج التعليمية الحديثة، وعلى يد مجموعة من المدرسين الخبراء المقتدرين..
كما انتشر أيضًا -في تركيا خاصة- مؤسسات اجتماعية، ومعاهد علمية وإعلامية، وجامعات وأكاديميات علمية.. فضلاً عن بيوتات الطلبة التي تؤوي هؤلاء، وتوفر لهم كل فرص الجد والتحصيل والتكوين والتربية.. والمجال هنا لا يتسع للتفصيل في كل هذه القضايا، وإلا فما كتب ونشر عن هذه المؤسسات، كفيل بتقريب معنى فكرة الخدمة ومدى وفائها لكل القيم والأفكار التي سطرها الأستاذ كولن، وجعلها مرجعية هامة لثلة من الأتباع الغيورين على دينهم ووطنهم. وقد وقفنا بدورنا -خلال زيارتنا لتركيا- على نماذج من هذه المؤسسات، وصاحبنا روادها والمشرفين عليها، وعاينّا جهارًا مقدار الجهد والتفاني والإخلاص لدى أبناء فكرة الخدمة لإنجاح هذه الفكرة عبر العالم الإسلامي.
الأستاذ فتح الله كولن، يوسع من مفهوم الإسلام والإيمان والتوحيد، ليشمل كل مجالات الحياة، ويطال كل الأبعاد النفسية والفكرية والسلوكية للشخص المؤمن على نحو يجعل منه شخصًا موحدًا ومؤمنًا بالغيب ومهتمًّا أيضًا بعالم الشهادة، حاملاً هم البناء والإصلاح والتغيير نحو الأفضل.
خاتمة
انطلاقًا من كل هذه المعطيات -على ما يميزها من عرض اختزالي مركز- يمكن القول في الختام؛ إننا نجد أنفسنا حقًّا أمام مشروع بنَّاء طموح، يحدد الأسس الجوهرية التي تستند إليها عملية بناء الشخصية الفاعلة في المجتمع كما خطط لها الأستاد فتح الله كولن.
وقد حاولنا استجماع معالم هذه الأسس كما ظهرت في بعض كتاباته ومقالاته، على نحو من الاستقصاء الأفقي الذي يتتبع مسار الفكرة منذ انطلاقها، إشارات جزئية إلى انتظامها ضمن سلسلة من الإثباتات الحجاجية المتطورة والمتنامية، لتستوي إلى ما يشبه مشروعًا بنائيًّا ضخمًا، شكَّل في نظرنا أهم المحاور الأساسية ضمن المشروع الحضاري الشامل الذي نظر له الأستاذ كولن في جلّ كتاباته وخطاباته.
فالأمر -كما رأينا- يتعلق بعملية بناء ضخمة للشخصية الفاعلة، وبما يتطلبه من جهد جهيد يطال شتى المجالات العقدية والفكرية والسلوكية والعملية، على نحو من التداخل والتناغم يضمن صياغة شخصية متكاملة لا نقص فيه، ولا غلو ولا إفراط ولا تفريط.
هكذا نظر الأستاذ فتح الله كولن لبناء الإنسان، وهكذا عمل على تحديد الآفاق وتخطيط السبل العلمية والعملية الكفيلة بذلك، وذلك ضمن رؤية شمولية متكاملة؛ رؤية تتشكل من فلسفة فكرية واجتماعية تجمع بين الأصيل والحديث، بين العقلاني والروحي، بين النظري والعملي، على نحو من الاتساق والتناسق، بحيث يبشر بميلاد إنسان جديد، جدير بتحمّل الأمانة وأداء الوظيفة على النحو الذي يريده منه دينه الحنيف.
فنحن إذن -كما يؤكد البعض- أمام تجربة إصلاحية ناجحة، ولعل أحد أهم أسرار نجاحها، يكمن في أنها تجاوزت الاستقطاب المزمن بين طرفي النقيضين: العلمانية السلبية، والسلفية السلبية، وذلك من خلال الدفع بتجربة وسطية فكرًا وحركة، لم تؤد فيها البراغماتية إلى التخلي عن الثوابت، بل أدت إلى الأخذ بأساليب مبتكرة، لتحقيق أهداف غير خلافية وجامعة. كما تميزت تجربة كولن بقدرتها على ترجمة الأفكار إلى واقع، انطلاقًا من قراءة واعية للواقع من أجل تغييره جذريًّا ودون تصادم معًا.. انطلاقًا من الاهتمام ببناء الفرد في إطار عملية شاملة لبناء الإنسان، وبالأحرى الانطلاق من الخاص للتأثير في العام.. وكان منهجها في كل ذلك إصلاح الإنسان وتربيته، ليكون الأداة المؤهلة لبناء المجتمع، ومن ثم لإنشاء أمة الحضارة.