استحوذ كولن بفضل هذه الأفكار النهضوية على اهتمام الجميع طوال فترة التسعينات، وأثيرت حول شخصيته ومشروعه في التعليم والتربية العديد من التساؤلات، إذ بينما كانت المناقشات والأفكار النهضوية تدور طوال القرنين الأخيرين حول إمكانية تحقيق النهضة عبر الاستيلاء على السلطة، إذ بكولن يتبنى مشروعًا نهضويًّا يقوم على أساس أن “النهضة لا تتحقق إلا بكادرٍ واسع متعلم ومثقف، يتولى القيام بهذه النهضة بروح فدائية وبخلق التضحية، وهذا يوضح لنا سبب توجُّهه إلى ميدان التعليم والتربية وتأكيده عليه، يقول الأستاذ كولن: ” كثيرًا ما ذكرت في دروسي أن لدينا ما يكفي من المساجد، ولكن ليس لدينا ما يكفي من المدارس، لذا حضضت الناس على فتح المدارس لسد هذه الثغرة”.
فالتعليم في رؤية كولن يمثل أساسًا للإصلاح، إذ به تتم صناعة الإنسان بكل أبعاده القلبية والعقلية والجسمانية والنفسية والحضارية، وبديهي أن إنسانًا كهذا يكون قادرًا على نهضة أمته، وإحياء التعايش السلمي مع من يختلفون معه في معتقده، يقول كولن: “إن سر مركزية التعليم في العمل الإصلاحي، هو دورانه على الإنسان مُعَلِّمًا ومُتعَلِّمًا؛ ذلك أن المعلم المنخرط في مهنته بروح المتعبد المخلص يستطيع أن يصنع من تلميذه إنسانًا جديدًا، ينظر إلى مستقبل الأمة بعيون يملؤها الأمل، وقلب ينبض بالمحبة والسلام، ومن ثمَّ فإن إصلاح الأجيال مرتهن بإصلاح التعليم، وإخراج فلسفته من ضيق المنطق الوظيفي الميت إلى سعة العمل الإنساني النبيل. إن التعليم بهذا المنطق النبوي الكريم، يستطيع أن يُجدد البُنَى الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية في البلاد، ويحدوها برفق وهدوء نحو التآلف والتكامل والنهوض. إن أول خطوة في مشروع الإصلاح هي إنتاج الإنسان، الإنسان الذي فَنِيَ عن نفسه في قضية أمَّته، وتعلَّق قلبه بأشواق الآخرة، ثم اتخذ مهمته التعليمية مسلكًا لمعرفة الله وعمارة الأرض”
فلسفة التعليم في مدارس الخدمة
يرى الأستاذ محمد فتح الله أن المشكلة في بلده وفي العالم الإسلامي، وربما في الحضارة الراهنة كلها، هي مشكلة الإنسان وتعليمه وتربيته وتدريبه. من أجل هذا قام الأستاذ بإحداث طفرة على النظام التعليمي الذى كان سائدًا آنذاك، واتهمه بالجمود، بسبب إهمال الفكر والإبداع في المؤسسات التعليمية، واستنادها إلى الحفظ والتكرار مما أسهم بدور كبير في تأخر أمتنا، وتخلفها عن ركب الحضارة؛ يقول كولن: “في تلك المرحلة هيمن الفكر السكولاستيكي(Scilastique) على التعليم التقليدي ولم يتنفس إلا هواءه، وعاشت المدرسة التقليدية مشلولة لغلق أبوابها في وجه العلم والفكر والحرمان من قوة الإبداع والإنشاء، وسَلَّت التكايا والزوايا نفسها بقراءة المناقب بدلاً عن العشق والشوق، واستحكمت في ممثلي القوة عقدة إثبات الذات والتذكير بالنفس بصورة متكررة لظنهم أنهم قد أهمِلوا”.
لهذا فقد عالج الأستاذ كولن هذا القصور ودعا لإدخال العديد من التغييرات على فلسفة التعليم، ويمكن تلخيص أهم هذه التغييرات على النحو التالي:
1 ــ مزج الأصالة بالمعاصرة
قام الأستاذ كولن بمزج نظام التعليم في المدارس الدينية -التي كان التعليم فيها يقتصر على العلوم الدينية – بنظام التعليم في المدارس غير الدينية التي يقتصر التعليم فيها على العلوم الطبيعية. ففي الوقت الذي كان البعض يرى أن العلم يتناقض مع الإيمان، وأن النظرة للمتدين هي عدم قدرته على مواكبة العلم والتكنولوجيا والحداثة، كانت حركة الخدمة تخوض التحدي الأكبر وهو كيف يربون تلاميذهم على قيمهم الذاتية وهويتهم وأصالتهم، وفي نفس الوقت يواكبون المعاصرة والحداثة، فقدمت ليس لتركيا فقط بل للعالم أجمع أنموذجًا يحتذى به في القدرة على إحداث توافق وتوازن بين العلم والدين والأصالة والمعاصرة، فأنشأت مدارس عصرية على مستوى المنشئات فقاعات المحاضرة على أحدث طراز، والمعامل العلمية متطورة، والوسائل التعليمية مبتكرة وعصرية، وملاعب كرة في مختلف الألعاب، وحمامات سباحة، وقاعات فنية للرسم والموسيقى، وتوجد في كل مدرسة مسرح كبير على أعلى مستوى فني.
2 ــ التزاوج بين الروح والجسد
انتقد الأستاذ كولن الفلسفة الداعية إلى أن يكون الهدف من العملية التعليمية هو الارتقاء بعقل الإنسان مع إهمال الروح، ولا أن يكون قائمًا كذلك على الارتقاء بعالم الإنسان الروحي وإهمال عالمه المادي يقول الأستاذ فتح الله كولن: ” الإنسان ليس عبارة عن قلب وعن وجدان فقط. وعندما يتوجه التعليم والتربية نحو الإنسان فيجب أن يتوجه أيضًا إلى عالمه المادي، وإلى دنياه بقدر توجهه إلى قلبه ووجدانه لكي يتم التكامل… للقلب أهمية ولكن على ألا يهمل الجسد، ولا يتم إهمال الدنيا أيضًا.
3 ــ إدخال مفهوم التضحية إلى نظام التعليم
كانت التضحية أهم عامل في نجاح مدارس فتح الله كولن، فبسبب خطب الأستاذ ومواعظه والتي قام فيها بشرح أهمية التعليم، وتناوله له تناولاً حركيًّا، هرع الآلاف إلى خدمة التعليم بكل شوق ورغبة، وأدوا هذه الخدمة ناذرين أنفسهم لخدمة الإنسانية، وراضين بالعيش بكل تقشف وزهد، فأوجد الأستاذ بذلك من جديد أنموذجًا للإنسان المضحى الذي ينذر نفسه لأمته ولوطنه وللإنسانية جمعاء بكل محبة وسلام. ولعل أبلغ دليل على ذلك أن المدارس التقليدية كانت تجد صعوبة بالغة في جذب المربين والمعلمين إلى المناطق الفقيرة على الرغم من وضع نظام مضاعفة الرواتب لهؤلاء العاملين، إلا أنه لم ينفع كثيرًا، وبقى ميل هؤلاء المعلمين ورغبتهم هي في البقاء في جو المدينة. وعلى العكس من ذلك لم تكن هذه الصعوبة موجودة في مدارس فتح الله كولن، بل لقد هاجر المربون والمعلمون إلى أرجاء الدنيا، بل إلى مناطق بدائية محرومة من العديد من الحاجات العصرية، ومناطق في أفريقيا ترتفع فيها درجات الحرارة إلى معدلات يصعب على أي أحد تحملها، وأخرى تنخفض فيها درجة الحرارة إلى حد التجمد، بل أرسلوا حتى إلى مناطق تحتدم فيها المعارك وإلى مناطق خطرة لا يتوفر فيها عنصر الأمان.
4 ــ إحياء العلاقة بين الطالب والمدرس والمدرسة والأسرة.
والتجديد الآخر المهم لهذه المدارس تمثَّل في إحياء العلاقة بين الطالب والمعلم، وبين المدرسة والأسرة والمحيط الاجتماعي؛ حيث أرست هذه المدرسة العلاقات الحميمة والدافئة والعاطفية التي كانت البشرية قد نسيتها منذ عصور عدة وهي تتلهف وتتشوق إليها الآن، حيث يؤكد التربويون على أن غرس المعلومة في أذهان التلاميذ وتربيتهم على القيم والأخلاق الفاضلة لن تنجح ما لم تكن هناك جسور صلة متينة للتعاون بين المدرسة وبين الأسرة. ولتحقيق هذه النظرية التربوية أقامت مدارس الخدمة برامج متنوعة من أجل ألا يقتصر دور المعلم على نقل المعلومة إلى الطلاب فقط، وأن تسهم الأسرة مساهمة فعالة في العمل التربوي والتعليمي، فأوجدت ما أطلقت عليه نظام “أمهات الفصول”، وفيه تختار إحدى أمهات الطلاب في كل فصل من الفصول، لتكون حلقة الوصل بين معلمة الفصل وأمهات التلاميذ الموجودين بالفصل، وأن تكون جسرًا للتواصل بين تلاميذ الفصل وأمهاتهم أو بين التلاميذ وبين المعلمة أو بين إدارة المدرسة وبين الأمهات في كل ما يؤدي إلى رفع مستوى الأداء التربوي، وأن تتعاون مع معلمة الفصل فيما تقوم به من أنشطة داخل الفصل أو خارجه، فهي بمثابة مستشارة للمعلمة، وساعدها الأيمن في العديد من الأنشطة التي تقوم بها. كما يتعاون الاثنان في الإعداد لمجموعة من الدورات التكوينية التي تساعد الأمهات وتثقفهن علميًا وتربويًّا من أجل مساعدتهن على تربية أبنائهن. من ناحية أخرى فإن المدرس الفصلي يزور منزل تلميذه في السنة على الأقل أربع أو ثلاث مرات، فيقف المدرس على حال الأسرة ووضعها الاجتماعي والأخلاقي؛ وتكون النتيجة النهائية أن أولياء الأمور يسلمون أولادهم لإدارة المدرسة وهم مقتنعون أن المدرسة ستشكل أبناؤهم علميًّا وخلقيًّا وثقافيًّا بطريقة تجعله مسار فخر لهم.
5 ــ مساهمة المدارس في إيجاد نوع من التقارب الثقافي العالمي
لقد أحدثت هذه المدارس حركة واسعة وتأثيرًا على النطاق الدولي في الساحة الثقافية والاجتماعية والدولية. ومع أن مؤسسات أخرى غير هذه المدارس تتولى موضوع الحوار بين الحضارات، إلا أن هذه المدارس خرجت أشخاصًا كثيرين تصدوا لهذا الموضوع وحملوا هذه المهمة.
كما قامت هذه المدارس بمدرسيها وأساتذتها وكوادرها الإدارية بصنع نسيج لين ورقيق من العلاقات الحميمة المشتركة بين أناس يختلفون في الدين والثقافة والحضارة، وستزداد ساحة هذا التأثير وتتعمق إلى درجة قد تفوق حتى توقعات القائمين بها، لأن تربية وتهيئة أشخاص مدنيين مستعدين للحوار مع الآخرين على الرغم من الفروق الدينية والثقافية والاجتماعية عنصر مهم جداَ. ويشكل في المستقبل أساسا وقاعدة للحوار بين الحضارات.
إن الزائر لأي مدرسة من مدارس الخدمة في أي قطر من أقطار العالم يجد لوحة فنية تتجسد فيها صور التعايش السلمي والأمن المجتمعي وبروز معاني الأخوة الإنسانية، وذلك حينما يرى تلاميذ المدرسة خليطًا من ألوان وأعراق وأجناس وأديان مختلفة يلتقون على المشترك الإنساني الذي يجمعهم، والخدمة بذلك تقدم في مدارسها المنتشرة في أكثر من 170 دولة نموذجًا يمكن الاحتذاء به في إمكانية مد الجسور والتواصل بين الأديان والحضارات المختلفة يقول الأستاذ أنس أركنه: “وما فعاليات الخدمة في التربية والتعليم على المستوى العالمي، وتأسيسها المدارس العديدة في مختلف الدول، إلا لكي تكون هذه المدارس جسورًا بين الأديان والحضارات المختلفة. ويرى كولن أن على المسلمين ألا يقيموا هويتهم الثقافية والاجتماعية على أسس من الصراع والنزاع، لأنها أسس هدامة ولا تتفق مع القيم الإنسانية العالمية للإسلام