كان قصر طوب قابي مهمًّا لسببين، الأول أنه كان مركز الحكم والإدارة في الدولة العثمانية التي كانت أقوى دولة في العالم آنذاك. والسبب الثاني أنه كان مقر الأمانات المقدسة(1) التي لم تكن تحوزها أيّ دولة إسلامية أخرى.
والجدير بالذكر أن المراسيم والمناسبات الدينية التي كانت تقام في القصور السلطانية، عريقة الأصول راسخة الجذور. وما استقبال شهر رمضان المبارك بالمراسيم، إلا استمداد لهذه التقاليد النبيلة والقيم الفاضلة.
لقد كانت احتفالات هذا الشهر المبارك تنطلق في اليوم الثاني عشر من شهر رجب، وذلك بإرسال كسوة الكعبة المشرفة -وكانت تُنسج في فناء مسجد السلطان أحمد بإسطنبول- مع النقود والهدايا إلى أهل الحرمين الشريفين في موكب كان يدعى “موكب الصرة السلطانية”. تبدأ هذه المراسيم بحضور الخليفة السلطان في قصر “طوب قابي”، فيتم خلالها تسليم الكسوة، والنقود، والهدايا إلى “أمين الصرة” بالأدعية والتسبيحات، ثم يُوَدَّع الموكب بالتهليل والتكبرات إلى الحرمين الشريفين.
كان السلطان يحضر الدروس التي تقام في شهر رمضان، والمذاكرات الدينية التي تعقب هذه الدروس. وفي اليوم الرابع عشر من شهر رمضان، يُدْعا رجال الدولة البارزون، وقوّاد الجيش الإنكشاري، والدفتردار، وغيرهم، إلى حضور مراسيم “الخرقة الشريفة”(2). وأما العلماء فيدعوهم شيخ الإسلام. بعد ذلك يقوم السلطان الخليفة أولاً بزيارة “الخرقة الشريفة” والأمانات المقدسة.
مراسيم الخرقة الشريفة
وفي الليلة الخامسة عشرة من شهر رمضان، كانت تقام مراسيم التنظيف التي تجرى في الجناح الذي يحتوي على الأمانات المقدسة، وكان السلطان يحضر هذه المراسيم بنفسه. حيث كان يتم تنظيف مبنى “خرقة السعادة” بأقداح مملوءة بماء الورد، وبقطع إسفنج نظيفة.
كان الخليفة يقوم بغمس قطعة الإسفنج في ماء الورد وينظف مشبك “خرقة السعادة”. ثم يقوم رجال الدولة البارزون بتنظيف جدران المبنى وأبوابه وشبابيكه. وإظهارًا للتوقير الشديد تجاه الأمانات المقدسة، فلم تُرمَ قطع الإسفنج وقطع الأقمشة التي يتم التنظيف بها، في المزبلة، بل كانت تحفظ في مكان مخصص.
وبعد إتمام عملية التنظيف، يبدأ اليوم الثاني بصلاة الفجر جماعةً في مبنى “خرقة السعادة”. وقبل صلاة الظهر بساعتين، يقوم موظفو القصر بإخراج بردة الرسول صلى الله عليه وسلم من صندوقها الفضي، ويضعونها فوق وسائد مطرزة باللآلئ، ثم يعرضونها لأنظار الزوار.
كانت زيارة “الخرقة الشريفة” (أيْ بردة الرسول صلى الله عليه وسلم) تتم بعد صلاة الظهر التي كانت تؤدى عادة في جامع آيا صوفيا. وبعد الصلاة ينتقلون إلى مبنى “الخرقة الشريفة”. هنا يبدأ رئيس الأئمة بتلاوة القرآن الكريم، وبعده الإمام الثاني، ثم إمام غرفة الخرقة الشريفة، ثم المؤذن، ثم بعض قواد العسكر بالتناوب وهم وقوف احترامًا وتوقيرًا. كما كان الصدر الأعظم، وشيخ الإسلام، يشتركان أيضًا في مراسيم هذه الزيارة.
كان السلطان يقف في أثناء هذه الزيارة بجانب صندوق الخرقة الشريفة، والصدر الأعظم على يمينه، ورئيس تشريفات القصر السلطاني على يساره. وبعد حضور جميع الزوار، يبدأ الإمام بتلاوة القرآن الكريم، ثم يقوم السلطان بفتح قفل الصندوق بمفتاح ذهبي، بعد ذلك يقوم بفتح الصندوق الملفوف بسبع قطع من القطيفة الموشاة باللآلئ وبالخيوط المذهبة. كما يوجد في الصندوق درج ذهبي بمصراعين، فيحتفظ السلطان بالمفتاح الذهبي لهذا الدرج.
ثم يؤخذ الزر الموجود في ياقة البردة الشريفة ويوضع في قدح فيه كمية من الماء، فيسخن قليلاً، ثم يضاف إليه بعض العنبر، ثم يوضع على الموقد. ثم يضاف بعض الماء إلى الماء القليل المتبقي في القدح ويقدَّم هدية باسم “ماء الخرقة الشريفة”(3).
ويقوم السلطان بمسح وجهه وعينيه بالخرقة الشريفة إظهارًا لحبه للرسول صلى الله عليه وسلم. ويروى أن معظم السلاطين كانوا لا يملكون أنفسهم من الاجهاش بالبكاء أثناء هذا المسح. ثم يسمح السلطان للآخرين بالزيارة.
كانت الزيارة تتم والكل وقوف، وذلك إظهارًا للتوقير والاحترام للرسول صلى الله عليه وسلم. كان كل زائر يمسح وجهه بالبردة الشريفة، يردد الأدعية ويرجو شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وبعد انتهاء الزيارة، يخرج الحاضرون؛ يخرج أولاً الأدنى مرتبة، ثم الأعلى منه مرتبة، وهكذا. وفي الأخير يخرج شيخ الإسلام، ثم الصدر الأعظم، ثم السلطان.
بعد زيارة المسؤولين الكبار وأركان الدولة، يبدأ أفراد الشعب بالزيارة. ثم يقوم أحد كبار موظفي القصر بغسل الجناح الذي مُسحت به الوجوه من البردة بماء الورد من طاسة ذهبية، ثم يجفف بعطر العنبر، ثم توضع البردة الشريفة وتلف في سبع قطع من قطيفة جديدة مطرزة باللآلئ، ثم توضع في محلها في الخزينة الذهبية. كانت هذه المراسيم تقام في خشوع كبير وتوقير عظيم؛ لأن الجميع كانوا يشعرون بسعادة روحية عارمة. ثم يقوم السلطان بقفل الخزينة والصندوق بنفسه.
كانت هذه المراسيم تجرى في كل عام، ينتشر خبرها في أنحاء العالم الإسلامي ويتردد صداها الواسع. ومع أن هذه المراسيم كانت تجرى سنويًّا، إلا أن الصحف كانت تفرد حيزًا كبيرًا في صفحاتها لنشر خبر هذه المراسيم بشكل تفصيلي.
الجدير بالذكر أن المراسيم والمناسبات الدينية التي كانت تقام في القصور السلطانية، عريقة الأصول راسخة الجذور.
ماذا بقي من هذه المراسيم؟
بقي هناك تقليدان؛ أولهما دوام قراءة القرآن في الغرفة التي توجد فيها البردة الشريفة دون انقطاع ليلاً ونهارًا، والثاني فتحها في كل شهر رمضان لتنظيفها ثم غلقها حتى قدوم شهر رمضان في السنة التالية.
بعد انتهاء هذه المراسيم كان من التقاليد المرعية سابقًا إرسال “البقلاوة”(4) وتوزيعها على الجنود. يرجع هذا التقليد إلى عهد السلطان سليمان القانوني؛ حيث كان يتم توزيع الأرز واللحم المقلي مع البصل مع بعض الحلوى، على الجنود في أوقات الخروج إلى الفتوحات لتقوية عزيمتهم. ثم تُرك هذا التقليد وتم الاكتفاء بتقديم الحساء والأرز والحلوى عند توزيع الرواتب والعطايا على الجنود.
اهتمام السلاطين بالعبادة
هناك مصادر ووثائق تاريخية عديدة سجل فيها مدى اهتمام سلاطين آل عثمان بالصلاة والصوم والتزامهم بأدائهما. ولكي يتمكّن السلاطين من سماع صوت مدفع الإفطار، ويروا القناديل في الجوامع ويبدأوا بالإفطار؛ فقد تم إنشاء بناية صغيرة مشرفة على خليج القرن الذهبي حيث كان السلاطين يفطرون فيها.
كان السلاطين يؤدون عبادتهم -عادة- في جامع القصر. فبعد سماع الأذان من جامع آيا صوفيا(5) كان مؤذن القصر يرفع الأذان كذلك، فيأتي السلطان للجامع مع جميع موظفي القصر ويؤدون الصلاة. وقد كان موظفو القصر الكبار، يستقبلون السلطان في مدخل الجامع، حيث يدخل السلطان إلى الجامع ويتوجه إلى المقصورة الخاصة بالسلاطين، ثم تؤدى الصلاة جماعة. بعد انتقال الخلافة إلى آل عثمان، بدأ السلاطين بأداء هذه الصلوات في الجوامع الكبيرة التي شيدها أجدادهم، لذا بدأت عادة ترتيب مواكب الصلاة.
هذا وقد كان سلاطين آل عثمان يهتمون بعباداتهم في شهر رمضان المبارك اهتمامًا خاصًا، مثلهم في ذلك مثل جميع المسلمين الآخرين. وعادة ما كانوا يؤدون صلاة التراويح في جامع السليمانية، أو في جامع السلطان أحمد، أو في جامع آيا صوفيا، أو في جامع السلطان فاتح، أو في جامع السلطان بايزيد. وهناك روايات تقول بأن بعضهم كان يتنكر ثم يتجول في العديد من الجوامع والمساجد.