(زمان التركية)ــ ألقى مقال بقلم الكاتب نورجان بايسال الضوء على تصاعد معاناة الأكراد، في تركيا بسبب الضغوط التي تمارس الحكومة على كل ما يرتبط بالهوية والثقافة الكردية.
وجاء في المقال الذي نشره موقع (أحوال تركيا): مع طلعة شمس كل يوم جديد يضاف المزيد والمزيد إلى المحظورات المتعلقة بهوية الأكراد ولغتهم الأم. فقبل أيام علمنا أن إحدى شركات البناء والمقاولات بمنطقة “بشاق شهر” في مدينة إسطنبول، حظرت على العمال الأكراد التحدث باللغة الكردية فيما بينهم. الحظر جاء بموجب تعميم أرسل من الشركة الأم إلى شركة توفير عمالة من الباطن، بشأن العمال الذين يعملون في موقع شركة البناء والمقاولات، وجاء في التعميم ما نصه “تحدث العمال في موقع البناء والتشييد بلغات أخرى، أمر يزعج كافة العاملين الآخرين، بما فيهم العمال المتعاقدين من الباطن”.
وهذا يعني أن الحديث بلغتي الأم بات أمرًا مزعجًا لـ”كل العاملين”، فيالسخرية القدر.
الأمر تناولته مع صديق لي من إسطنبول خلال اتصال هاتفي دار بيننا، فمكا كان منه إلا أن أبدى انزعاجه ودهشته بشدة حينما ذكرت له الواقعة، وأخذ يقول “ما هذه الخسة، وقلة التربية، وما هذه الجرأة والصفاقة، ومن أين جاءوا بهذه الجرأة؟”. وبعد ذلك صمتنا أنا وهو أثناء الحديث؛ وذلك لأنني على ما أعتقد نعلم جيدًا من أين جاءوا بهذه الجرأة.
فلا شك أن المجتمع التركي لم يشهد من قبل ما يشهده الآن من نثرٍ لبذور الحقد والعداوة في المجتمع، فضلًا عن تعاظم مظاهر العنصرية، والفاشية، والقومية. هذه البذور تروى يومًا بعد يوم أمام الجميع. وهذا الأمر يحدث بشكل متسارع بسبب السياسات الانفصالية الإقصائية التي تمارس في تركيا منذ قرن من الزمان.
تلك السياسات تبدأ بنعت المنتخبين من الناس بـ”الإرهابيين”، ثم توسع قائمة “الإرهابيين” والخونة” من وجهة نظر النظام. ففي غضون عام أو عامين بات كل من يرغب في السلام، إما “إرهابيًا” أو “خائنًا”.
جاءت هذه الجرأة من مواقفنا المخزية، وصمتنا غير المبرر الذي لزمناه حينما كانت آلة الهدم تعمل على قدم وساق في مدن سور، وجزرة، ونصيبين، وشرناق، ويوكسك أوفا. جاءت الجرأة حينما عجز أبناءٌ عن دفن جثة أمهم لمدة أسبوع في إحدى مدن شرقي تركيا بسبب الاشتباكات، والآن باتت الجثث تبقى لأشهر على الأرض دون دفن؛ حتى إن بعض الجثث يتم العثور عليها بعد أشهر، والبعض الآخر لا يعثر عليه مطلقًا.
فكما تعلمون، فإن السيئين يتمادون في توبيخهم وأعمالهم السيئة كلما وجدوا فينا تحملًا لهم. هذه هي حقيقة الأمر بالفعل. فترون مسؤولين هنا وهناك يهينون الشعب بكافة الأشكال، فهذا يركل عمال مناجم، وذاك غير عابئ بوقوع ضحايا بسبب قانون الطوارئ المفروض في البلاد.
ومن العنصرية بمكان نجد أنه حتى داخل أروقة البرلمان ذلك اليمين الذي يقسم عليه النواب بعد نجاحهم في الانتخابات، لا سيما النواب الأكراد الذين يجبرون على ترديد كلمات تسلبهم حقوقهم كفئة تعيش بالمجتمع من المفترض أن يكون لها لغة خاصة بهم، حتى إن بعض النواب أرادوا التحايل على هذا القسم بترديد كلمات كردية قبل نطق نص القسم، فكتبت هذه الكلمات في المضبطة بعلامة “إكس”. أي أن لغة الملايين من البشر في هذا البلد بات يرمز لها بالرمز “إكس”. بات يحظر على الناس التخاطب بها وأهلها لهم جغرافية واسعة ممتدة منذ آلاف السنين.
الشر يشتد بشكل كبير، وهم لا يتوانون عن تشويه الحقيقة. فعلى سبيل المثال، نرى أن أهالي عفرين بالأمس القريب يقولون “نحن أهالي عفرين كنا في راحة من العيش، لكن الآن هناك جماعات مسلحة لا رغبة لنا فيهم، فالجيش السوري الحر، ليس حرا كما تظنون، هم لصوص، وإرهابيون، ونهابون، قاموا بنهب أموالنا ومتاعنا. حتى إنهم بالأمس اختطفوا ثلاثة من الفتيات وقاموا باغتصابهم، أعمارهن 15 عامًا”، هؤلاء الذين اعتادوا تزييف الحقائق قاموا بتغيير كلمة الجيش السوري الحر الواردة بهذه الجمل، واستبدلوها بـ”وحدات حماية الشعب الكردية”.
ولا شك أن هذه الجرأة التي اعتادوا عليها، تجلب معها نوعًا من الخسة والتعاسة يشارك فيها مع الأسف فنانون، ومثقفون وصحفيون، وكتاب، ورياضيون، وغيرهم.
كما تعلمون هناك الآلاف يقبعون في السجون دون جرم أو محاكمة، فضلا عن مئات آلاف طردوا في لمح البصر من أعمالهم ووظائفهم، فليس لأي شخص من هؤلاء الحق في البقاء والعيش داخل هذا البلد كمواطن حر، ويدفعون ثمن هذا الظلم من حياتهم، فهذه أمور مؤسفة أراني وأنا أشاهدها أستدعي كلمة للقائد الشيوعي الثوري التركي ماهر تشايان التي يقول فيها “من على نفس الشاكلة يذهبون لنفس المكان، أما المختلفون فتراهم يذهبون لأماكن مختلفة”.
وهذا الشر الذي يتعاظم لا يتوانى عن أن يصبح جريمة جنائية يتم تجميلها وتهيئتها من خلال الدين. فعلى سبيل المثال نجد أن أولاش يورداكول، تعرض للضرب والقتل بسبب الهوية الكردية في السجن الذي دخل فيه بسبب جريمة جنائية. إذ نتج عن ضربه تمزق أعضائه الداخلية، وكسر قفصه الصدري. ووصل فجور قتلته لدرجة قيام واحد منهم بالافتخار بفعلته وهو يهاتف والدته، وقال لها “لقد أبينا بلاءً حسنًا”. الشر أحيانًا يبدو قبالتنا في شكل “صائد خنازير”.
بريهان آقين، سيدة كردية معدمة فقيرة، ذهبت من شانلي أورفه إلى ولاية سامسون من أجل العمل، لأنها عاملة موسمية. لكنها لاقت حتفها في سامسون نتيجة هجوم نفذته جماعة عنصرية، وذلك أثناء مكثها داخل خيمة ممزقة بالية. ويمكنني القول إن الجناة كانوا على درجة من الجرأة وهم ينفذون هذه الجريمة البشعة، وكأنهم كانوا في رحلة لصيد خنازير.
الشر لا يخجل، ولا يبدي أصغر ذرة من الاحترام لحق الحياة. فنراه في بعض الأحيان يضع يده على نعش أحدهم وينادي على البشر، وأحيانًا أخرى نراه يدخل في سباق محموم لقتل البشر والنيل منهم.
وخلاصة القول، وعلى نفس شاكلة ما حدث من عنصرية واضطهاد ضد أبطال الحكايات التي استشهدنا بها هنا، نرى الشر أيضًا هو العنصر الرئيس في قضية منع عمال أكراد من التحدث بلغتهم فيما بينهم، هذه جرأة جاءت من الشر الذي يحيط بنا ويلف المكان، جاءت مني، ومنك، وكما قلت من صمتنا القاتل حيال كل ما نشاهده من تجاوزات بحق بشر لهم الحق في الحياة. جرأة اعتاد عليها هؤلاء القتلة بسبب خوفنا وجبننا.
هذه الجرأة تأتي أيضًا من عجزنا عن الدفاع حتى عن حقوقنا، ومن وقوفنا موقف المتفرج حيال من زج بهم من قبل في السجن بسبب ترديدهم أغانٍ باللغة الكردية، ولعدم انتفاضتنا حينما رمز للغتنا الكردية بالرمز “إكس” في مضبطة البرلمان. جرأة تأتي من مدينة سور المدمرة، ومن مدينة نصيبين التي بها حظر تجوال، ومن القبور المرقمة بأقام مختلفة في مدفن الأطفال بمدينة جزرة.
ومن يدري ربما الدور سيأتي عليك غدًا، ويرمز للغتك بالرمز “إكس”، ويعين وصي على إرادتك، وستحظر مدينتك عليك، حتى وإن لم تكن لديك رغبة في ترك منزلك المدمر، وسيحرم ابنك من الحق في التعليم بدعوى أنك “شيوعي”، وسيكتب اسمك على القنابل كشهيد، وستنتهي حياتك على رصاصة تنال منك كأحد الخنازير. حتى أنهم قد يلتفون حول نعشك، ويبدأون في ترديد نعرات الحرب والقومية، حتى وإن لم تكن وفاتك بسبب أنك “إرهابي أو خائن”. كل هذه الأمور يتعين علينا أن نوقفها عند حدّها.