بقلم : ياوز أجار
برلين (زمان التركية) – نواصل في مقالنا الجديد عرض أهمّ الأحداث التي شهدتها تركيا في ظل حكم الرئيس رجب طيب أردوغان لكي نطلع على أصول الأحداث الراهنة ونربط بين أسبابها ونتائجها.
لغز الأحداث الاستثنائية في تركيا
إن قلنا إن ما شهدته تركيا بين عامي 2006 و2007 من أحداث ترك أثرًا عميقًا في حياة أردوغان الشخصية والسياسية على حد سواء فلن نكون مبالغين فيه. ذلك لأن أحداث هذه الفترة تحوي في طياتها المفتاح الذي يحلّ لغز الأحداث الاستثنائية التي تعيشها تركيا منذ 5 سنوات، بما فيها ما سمي بالانقلاب الفاشل في عام 2016، حتى اللحظة الراهنة، ولعلنا سنرى انعكاساتها الداخلية والخارجية في السنوات المقبلة أيضًا.
يعتبر انتهاء مدة مهمة رئيس الأركان العامة “حلمي أوزكوك” المعروف بمواقفه الديمقراطية – إن استثنينا موقفًا أو موقفين -، وإسناد هذه المهمة إلى خلفه قائد القوات البرية الجنرال “ياشار بويوك آنيط”، من أهمّ أحداث عام 2006. إذ تم تعيينه رئيسًا للأركان في 30 آب / أغسطس 2006 قبل انعقاد مجلس الشورى العسكري بصورة مخالفة للأعراف العسكرية المعتادة، فيما تسلم منصب قائد القوات البرية الجنرال “إيلكار باشبوغ” خلفًا له بعد أن كان يشغل منصب قائد الجيش الأول.
وكان الجنرال بويوك آنيط أثار جدلاً كبيرًا في تركيا بسبب تدخله في محاكمة العسكريين من وحدة القوات الخاصة المتورطين في حادثة “شمدينلي” الاستفزازية للغاية الرامية إلى الإيقاع بين الأكراد والأتراك في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2005، حيث كان برّأهم قائلاً: “إنني أعرفهم، فهم شباب طيبون نزيهون!”. وهذه التبرئة تسببت في الإفراج عن الجنود، وصدورِ قرار من المحكمة بتبرئة ساحتهم في نهاية المطاف، على الرغم من إلقاء القبض عليهم وهم متلبسون بالجريمة، فضلاً عن منع المدعي العام “فرهاد ساري كايا” من مزاولة مهنته بعد أن أدرج اسم الجنرال في مذكرة الاتهام.
إحراج حكومة أردوغان
استمرت عمليات تنيظم أرجنكون الرامية إلى إحداث الفوضى والبلبلة في هذه الفترة أيضًا، حيث اهتزت تركيا في 19 يناير/ كانون الثاني 2007 بعملية اغتيال استهدفت “هرانت دينك”، الكاتب الصحفي أرمني الأصل، رئيس تحرير صحيفة “أغوس” الصادرة باللغتين الأرمنية والتركية، وذلك أمام مقر الصحيفة بمدينة إسطنبول على يد “شاب قومي تركي” يدعى “أوغون ساماست” لم يتجاوز عمره 17 عامًا. وتمكنت السلطات الأمنية من إلقاء القبض على ساماست في مدينة “سامسون” الواقعة على البحر الأسود إذ كان يركب حافلةً تتجه إلى طرابزون، وذلك بعد حوالي 32 ساعة من العملية.
اعتبر رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان عملية اغتيال دينك ضمن “المساعي الخائنة الرامية إلى إثارة الفتنة والعنف والإضرار بالحياة الديموقراطية في تركيا”، متعهدًا بأن حكومته ستبذل كل ما بوسعها للكشف عن ملابسات الجريمة في أقرب وقت وإزاحة الستار عن الحقيقة كاملة. بينما اتهم رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض “دنيز بايكال” الحكومة بالتغاضي عن التهديدات التي وجهها القوميون الأتراك إلى دينك، وعدم اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع مقتله، على الرغم من وصول بلاغ إلى الأجهزة الأمنية يفيد بوجود مخطط لاغتيال دينك. في حين رأت الأحزاب الكردية في اغتيال دينك فرصة جيدة لإعادة طرح قضية أو ملفّ “جنايات مجهولة الفاعل” التي ارتكبتها تنظيمات مسلحة ذات صلة بما يسمى “الدولة العميقة” في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية بحجة مكافحة حزب العمال الكردستاني، لذا طالبت بتوسيع التحقيقات لتشمل كل الاغتيالات السابقة في البلاد. أما رئيس حزب الحركة القومية “دولت بهتشالي” فزعم أن هدف العملية تقديم ذريعة للقوى الكبرى لمنع تركيا من التدخل العسكري في الشمال العراقي وتنفيذها عمليات خارجية ضد الانفصاليين الأكراد الراغبين في تأسيس دولة كردية في المنطقة. وهذا التصريح الأخير اعتبره الرأي العام سعيًا منه للتستر على الدور الذي لعبه بعض القوميين الأتراك في التحريض ضد الكاتب دينك.
لقد حضر مراسم تشييع جنازة دينك أكثر من 50 ألف شخص، (يرفع بعض المصادر هذا الرقم إلى 100 ألف)، بينهم عدد كبير من الأتراك، الأمر الذي حمل “إيزابيل كورتيان”، التي تعد واحدة من الشخصيات البارزة للشتات الأرمني للقول: “مشاركة الأتراك في جنازة هرانت دينك بهذه الكثرة الكاثرة واحتضانهم له إلى هذه الدرجة أحدثت في أنفسنا تأثير هزة صادمة”.
أكد القاتل ساماست أثناء استجوابه أنه ليس نادمًا على اغتياله لدينك، بل تطاول في الأمر وأعلن أنه مستعد لتنفيذ عمليات مماثلة أخرى في سبيل “الدفاع عن الوطن”. ونفى وجود أي صلة له مع أشخاص آخرين، زاعمًا أنه نفذ العملية من تلقاء نفسه بدون توجيه من أحد بعد أن شاهد في الصحف والمواقع الإلكترونية أخبارًا تتهم دينك بإهانة “الهوية التركية” التي تعتبرها المادة 301 من قانون العقوبات التركي جريمة.
على الرغم من نفي ساماست صلته بأي تنظيم أو جهة، إلا أن عديدًا من المواقع الإلكترونية نشرت لاحقا صورًا له برفقة رجال شرطة وهم يبتسمون أمام العلم التركي. فضلاً عن ذلك فإنه انتشرت على المواقع أيضًا صور التقطت في مركز الشرطة تجمع القاتل ساماست وعددًا من عناصر الأمن “الفرحين”، وتضمّ لافتةً تحمل قول أتاتورك “مصلحة الوطن أغلى من أن تترك للأقدار لتحدد مسارها”، على حد قوله. كل هذه الفضائح دفعت السلطات إلى فتح تحقيقات بحق الموظفين المعنيين وإبعادهم عن مناصبهم.
قاتل مأجور
في حين لفت محامي هرانت دينك إلى أنّ “القاتل ساماست ليس إلا الإصبع الذي ضغط على الزناد”، مشيرًا إلى وجود أيادٍ مظلمة ذات أغراض مشئومة وراء عملية الاغتيال. ويرى رئيس تحرير صحيفة “بوجون” سابقًا الكاتب الصحفي المخضرم “آدم يافوز أرسلان” الذي ألف كتابًا مستقلاً حول هذه الحادثة، أن اغتيال المثقف الأرمني هرانت دينك كان من أحد العمليات الصادمة التي ارتكبها الدولة العميقة أو تنظيم أرجنكون، الذي سبق أن قلنا إن نهجه قائم على توجيه دفة الحكومة والسياسة من خلال الفوضى والبلبلة، وتشكيل إدراك الرأي العام عبر عمليات غسيل الأدمغة واختراق العقول بصورة محترفة. فالمخططون للعملية أرادوا جني عديد من الثمرات، أهمها تحطيم الجسور بين الشعبين الأرمني والتركي، وإحراج حكومة أردوغان في الساحة الدولية، والدفع بتركيا إلى الانغلاق على ذاتها مرة أخرى، ومنعها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وكان دينك تعرّض في الشهور السابقة لاغتياله لمضايقات كثيرة وتهديدات بالقتل من القوميين عبر البريد العادي والإلكتروني ورسائل قصيرة على هاتفه الخلوي وسط نقاشات دارت حينها حول المادة 301 المتعلقة بحماية الهوية التركية. ولا شك أن مبادرة السلطات القضائية إلى إدانة دينك بإهانة “الهوية التركية” ومعاقبته بالحبس ستة أشهر في 2006، مع وقف التنفيذ، ساعدت أرجنكون في أن يجعل دينك هدفًا مفتوحًا للشباب القوميين المتحمسين. حتى إن الجنرال ولي كوتشوك الذي حكم عليه فيما بعد في إطار قضية أرجنكون حضر المحكمة أثناء إحدى جلسات محاكمة دينك بتهمة الإساء إلى الهوية التركية ووجه له تهديدات.
التخطيط لعملية الاغتيال
وأفاد القاتل ساماست أثناء استجوابه أنه خطط لعميلة الاغتيال بتعليمات من المدعو “ياسين خيال” المنتمي إلى التيار القومي أيضًا. وكان خيال قد تورط عام 2004 في حادثة إلقاء قنبلة على مطعم بمدينة طرابزون أسفر عن جرح ستة أشخاص. وكشفت التقارير أنه تواصل مع ساماست في 19 يناير / كانون الثاني 2007، وزرع في دماغه فكرة اغتيال دينك، وزوده بالسلاح والرصاص، وقدم له دعمًا ماليًّا. واعترف خيال بعد الاسجواب معه بأنه خطط للعملية بالتعاون مع “أرهان تونجيل” المعروف باسمه الحركي “محمد كورت”، والذي تبين أنه عمل “مخبرًا” لمديرية أمن إسطنبول فترة من الزمان.
بدأت قضية اغتيال دينك بمحاكمة 18 متهمًا في الوهلة الأولى، بينهم 12 شخصًا منهم خلف القضبان، وارتفع هذا الرقم إلى 20 شخصًا بعد إعداد مذكرات اتهام إضافية بين أعوام 2008 و2009.
بعد مرور حوالي 5 سنوات على بدء المحاكمة، أبدى “حكمت أوسطا”؛ المدعي العام المشرف على قضية اغتيال دينك رأيه في سبتمبر/ أيلول 2011 استنادًا إلى الأدلة المتوفرة لديه قائلاً: “لقد توصلنا إلى أن عملية اغتيال دينك ليست من عمل بضعة شباب قوميين متحمسين، بل يقف وراءها إحدى خلايا تنظيم أرجنكون الإرهابي في مدينة طرابزون بقيادة كل من أرهان تونجيل وياسين خيال الذين لفتا الانتباه بعملهما في سرية تامة ومراعاتهما لقواعد الخصوصية والتسلسل الهرمي التنظيمي”.
وعاقبت المحكمة في تموز / يوليو 2011 القاتل ساماست (17 عامًا) بالحبس لمدة 22 عامًا و10 أشهر فقط لعدم وصوله إلى السن القانوني للأهلية، بتهمة “القتل العمد” و”حيازة سلاح غير مرخص”، بينما لم ترَ المحكمة عملية الاغتيال “جريمة منظمة”، وقامت بتبرئة ساحة جميع المتهمين في إطار القضية من تهمة “عضوية تنظيم إرهابي”! وكذلك أنزلت المحكمة عقوبة الحبس المؤبد على ياسين خيال بتهمة “التحريض على القتل العمد”، في حين قضت بحبس أرهان تونجيل 10 سنوات و6 أشهر والإفراج عنه في الوقت ذاته آخذًا بنظر الاعتبار السنوات التي قضاها في السجن.
وعلى الرغم من أن أردوغان وعد بالتوسع في التحقيقات وكشف الستار عن المجرمين الحقيقيين في أقصر وقت ممكن، إلا أن قرار تبرئة المتهمين من تهمة عضوية تنظيم إرهابي أصاب الرأي العام وعائلة دينك بالصدمة، وأثار المخاوف من إغلاق القضية وطمس الأدلة والخيوط التي تؤدى إلى تنظيم أرجنكون. لذا نجد أن محامية عائلة دينك “فتحية تشاتين” قالت للصحفيين عقب هذا القرار: “لقد مر على عملية الاغتيال 5 سنوات، لو كان دينك حيًّا لقال: إنهم يستهزؤون بنا؟ يبدو أنهم أعدوا لنا المفاجئة الكبرى في نهاية القضية؛ إذ يزعمون أن هذه العملية ليست جريمة منظمة ولا يقف وراءها تنظيم بل ارتكبها بضعة من الشباب المتحمسين. فعلاً لم نكن نتوقع أن يوصلوا الأمر إلى هذا الحد”.
وكانت راكيل دينك؛ زوجة دينك قالت في خطاب ألقته في مراسم الجنازة: “القاتل يبلغ من العمر 17 عامًا.. مهما كان عمره أو هويته فإننا نعلم أنه كان طفلاً في وقت من الأوقات، لذا ينبغي علينا أن نحاسب هذا الظلام الذي يخرج من الأطفال قتلة”.
تحقيقات وأدلة جديدة!
طعنت أسرة دينك في القرار لدى المحكمة العليا، ووافقت عليه الدائرة التاسعة للمحكمة في مايو / أيار 2013، وألغت حكم البراءة عن المتهمين من تهمة عضوية تنظيم إرهابي، وطالبت بإعادة محاكمتهم مجددا بتهمة عضوية تنظيم “إجرامي” بدلا من تنظيم “إرهابي”، بالإضافة إلى توسيع دائرة التحقيقات. وتبين بعد التحقيقات الجديدة أن المخبر أرهان تونجيل أبلغ مديرية أمن طرابزون باستعداد وتخطيط ياسين خيال لاغتيال دينك، وأن أمن طرابزون زود بهذه المعلومة كلا من مديرية الأمن العام ومديرية أمن إسطنبول. وعلى خلفية هذه التطورات وشكوى عائلة دينك أطلقت وزارة الداخلية تحقيقًا مباشرًا حول المسؤولين المقصرين في واجباتهم ليشمل التحقيقات 86 شخصًا، 30 منهم خلف القضبان، بما فيهم قائد قوات الدرك في طرابزون العقيد “علي أوز” والشرطيين الذين التقطوا صورًا مع القاتل ساماست أمام العلم التركي عندما ألقي القبض عليه في مدينة سامسون، إلا أن السلطات فشلت لفترة طويلة في استصدار تصريح بالتحقيق مع بعض كبار المسئولين. وتضمنت قائمة الأسماء المطلوبة معاقبتها في لائحة الاتهام أسماء كبار مسئولي الأمن في تلك الفترة بينهم: مدير أمن إسطنبول “جلال الدين جراح”، ومدير شعبة الاستخبارات “أنحين دينتش” ومدير أمن طرابزون “رشاد آلتاي” ونائب مدير شعبة الاستخبارات “حسن دورموش أوغلو” وغيرهم. لكن المحكمة طالبت بإخلاء سبيل مجموعة من الموظفين الأمنيين المقصرين في واجباتهم عام 2017 لينخفض بعده عدد المتهمين في إطار القضية إلى 16 شخصًا فقط.
دينك: همزة وصل بين الأرمن والأتراك
يعتبر هرانت دينك من أهم المثقفين الأرمن الذين دافعوا عن ضرورة نقاش الخلافات التاريخية بين الأرمن والأتراك بعيدًا عن الأغراض السياسية، والالتئام حول قواسم إنسانية مشتركة عليا، والتعايش السلمي جنبًا إلى جنب. وهو انطلاقًا من هذه الرؤية بدأ يصدر صحيفة “آغوس” باللغتين الأرمنية والتركية اعتبارًا من 5 أبريل/نيسان عام 1996، وأراد لها أن تكون “همزة وصل” بين الشعبين الذين عاشا في أمن وسلام طيلة قرون طويلة في ظل الدولة العثمانية بحيث وصف الأرمن بـ”الملة الصادقة”، أي الأمة الصادقة للدولة العثمانية. وقد كتب دينك لصحيفة “زمان” القريبة من حركة الخدمة المستلهمة من فكر الداعية الإسلامي فتح الله كولن أيضًا. ومن اللافت أن صدور صحيفة “آغوس” تزامن مع دعوة كولن للحوار بين أصحاب الثقافات والأديان المختلفة، ولقاءه مع بطريرك القسطنطينية المسكوني للأرثوذكس “برثلماوس الأول”. وكان دينك يهدف إلى تحطيم الأحكام المسبقة بين الشعبين بحق بعضهما البعض، ويشكو من انطواء المجتمع الأرمني على ذاته وانغلاقه على الأتراك.
ومع أن دينك كان يدعو تركيا إلى الاعتراف بالأعمال الإجرامية المرتكبة في فترة الانتقال من العهد العثماني إلى العهد الجمهوري، إلا أنه كان يعارض استغلال هذه القضية في تحقيق مصالح سياسية. ففي مقاله الذي نشره بـ”آغوس” في سبتمر/ أيلول 2006 رفض دينك مشروع القانون الفرنسي الذي كان يقضي بفرض عقوبات على منكري المجازر في حق الأرمن، انطلاقًا من أن ذلك يتناقض مع مبدإ حرية التعبير عن الآراء من جانب، ومن جانب آخر يختزل قضية قومية كبيرة في ورقة ضغط سياسية تلوح بها الدول الغربية في وجه تركيا عند الحاجة لتبرير موقفها الرافض للانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
هرانت كان عائقا أمام تحقق أهداف أرجنكون
نظرة سريعة على تصريحات دينك حول هذه القضية تكفينا لفهم السبب الذي جعله هدفًا للقوى الظلامية، حيث يقول في مقطع فيديو نشرته القنوات التركية والمواقع الإلكترونية قبل وفاته: “نحن الأرمن والأتراك شعبان مريضان في علاقاتهما الثنائية. فالأرمن يعيشون حالة صدمة نفسية كبيرة، في حين أن الأتراك يعيشون حالة جنون الارتياب / البارانويا. وكلا الأمرين حالة مرضية لا بد من معالجتها. لكن من الذي سيعالج مرض هذين الشعبين؟ فهل قرار مجلس الشيوخ الفرنسي أم الأمريكي سيعالج مرضنا؟ ما هي الوصفة الطبية الناجعة لمرضنا؟ ومن هو الطبيب الذي سيعالجنا يا ترى؟ بحسب رأيي، الأرمن هم طبيب الأتراك؛ والأتراك هم طبيب الأرمن! فليس هناك أي طبيب آخر أو وصفة طبية أخرى لمرضنا! فالحوار بين الأتراك والأرمن هو العلاج الوحيد لهذا المرض. وأخاطب الشتات الأرمني وأقول لهم: لا تتوقفوا عند الإبادة التركية للأرمن في 1915، لا تربطوا أنفسكم بهذا التاريخ، ولا تطوقوا أنفسكم باعتراف العالم بهذه الإبادة أو رفضها. نعم إن هذه الظاهرة تراجيدية تاريخية عاشها أجدادنا. هناك مقولة جميلة في الأناضول -ونحن أبناء الأناضول- وهي: تحمّل الألم بشرف! من دون إثارة صخب وضجة. وأنا أقول للعالم: إن اعترافك بالإبادة التي تعرض لها الأرمن أو رفضك لها ليس له أي قيمة في نظري. ألم يقتل الأرمن الأتراك أيضًا؟ بلى قد قتلوهم في عام 1918. إني أكره وألعن مفهوم الانتقام! لذا أطلب من الأتراك أن يتعاطفوا مع الأرمن قائلين: ’لماذا يا ترى يصر الأرمن على تعرضهم لإبادة جماعية‘؛ كما أطلب من الأرمن أن يتعاطفوا مع الأتراك ويلتمسوا عذرا لرفضهم الإبادة؛ لأنهم يقولون: ’أجدادي لا يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا مثل هذه الجريمة البشعة، لأننا لا يمكننا أن نرتكب مثل هذه الجريمة”.
مثقفو تركيا من أمثال دينك كانوا يشكلون أكبر عائق أمام تحقق أهداف تنظيم أرجنكون الذي يستمد حياته من المشاكل. سِمة أرجنكون هذه تجعله يتخذ كل إنسان أو حركة تدعو إلى السلم والحوار والانفتاح عدوًا لنفسه يجب شيطنته والقضاء عليه بأي وسيلة كانت. وكان دينك يأتي في مقدمة الشخصيات المثقفة التي تنادي بتحكيم العقل والمنطق ولغة السلم والحوار بين الأتراك والأرمن، ما جعله هدفًا لهذا التنظيم. لذا نرى أن وسائل الإعلام المرتبطة بأرجنكون بدأت تثير الموجة القومية التركية / الطورانية – تمامًا كما يفعل في هذه الأيام – وتحرض القوميين الأتراك ضده ليجعله لقمة سائغة للشباب القوميين المثارة مشاعرهم الوطنية. الحقيقة أن أرجنكون شرع في إثارة هذه الموجة القومية منذ عام 2004-2005 ضد الأقليات الموجودة في تركيا، بالإضافة إلى إحداثه موجة “إسلامية” معادية للأقليات اليهودية والنصرانية، حتى إن وسائل الإعلام التابعة لأرجنكون والموجهة من قبله كانت تنشر أخبارًا “مفبركة” تزعم زيادة عدد الكنائس في البلاد وانتشار النصرانية بين المسلمين. كل ذلك من أجل تحريض القوميين والإسلاميين على الأقليات الأجنبية وارتكابهم جرائم تلطخ سمعة حكومة أردوغان وتشوه صورة تركيا على الصعيد الدولي. ونتيجة هذه العملية النفسية التي طبقها على الأتراك القوميين والإسلاميين المتطرفين المتحمسين شهدت تركيا مقتل عديد من الشخصيات الأجنبية المنتمية إلى أديان أخرى، بينها رجال الدين اليهوديون والمسيحيون جراء عشرات الهجمات المسلحة. فمثلاً كانت مجموعة في مدينة مالاطيا شرق تركيا التي تحتضن مواطنين أرمن أيضًا هاجمت إحدى دور النشر المختصة في بيع كتب تتعلق بالنصرانية في 18 نيسان 2007 وقتلت ثلاثة من العاملين لديها عن طريق قطع رقابهم بحجة الدفاع عن الإسلام ومنع انتشار المسيحية في البلاد!
مشاكل تركيا مصالح أرجنكون!
يتمثل الهدف الرئيس لأرجنكون في الحيلولة دون انتقال تركيا إلى حقبة ديمقراطية حقيقية ومنعها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وهذا لأن أرجنكون لم يكن ليحتفظ بامتيازاته غير القانونية في ظل تركيا الديمقراطية المحترمة لدولة القانون والتي يتمتع فيها كل مواطن من أي عرق أو قومية أو فكر أو دين كان بحقوق وواجبات متساوية. لن يكون وجود لأرجنكون في تركيا التي خفضت مشاكلها إلى مستويات دنيا، ونجحت في الجمع بين الإسلاميين والعلمانيين، والأتراك والأكراد، والقوميين المتطرفين والأقليات الأخرى، على المبادئ الديمقراطية العالمية المعروفة. بمعنى أن مشاكل تركيا بمثابة مصالح أرجنكون والعكس صحيح أيضًا.
ومن هذا المنطلق كانت قضية دينك فرصة ذهبية لمحاكمة عناصر الدولة العميقة أو أرجنكون وممارساتها غير القانونية منذ أواخر العهد العثماني. وعلى الرغم من أن أردوغان تعهد على نفسه التوسع في التحقيقات وكشف القناع عن بصمات البؤر العميقة التي تقف وراء مثل هذه العمليات المحرجة لتركيا في الداخل والخارج، إلا أن هذه القضية كسابقاتها من القضايا المتعلقة بأرجنكون تم تمويهها وتضليلها وتوجيهها إلى نقاط لا صلة لها بجوهر الموضوع. يشير الكاتب الصحفي آدم ياوز أرسلان، وهو الذي ألف أشمل كتاب في اغتيال دينك وكشف عن الملابسات السابقة واللاحقة للعملية، إلى نقطة مهمة، حيث قال في حوار تلفزيوني إن أيادي خفية سعت إلى حصر المجرمين في القاتل وصلاته المحدودة، ووجهت الرأي العام للتركيز على قصور بعض المسئولين الأمنيين في اتخاذ تدابير كفيلة بحماية دينك رغم البلاغ الذي وصلهم، وذلك للتكتم عن المجرمين الحقيقيين وإحفاء بصمات تنظيم أرجنكون.
أردوغان يستغل قضية اغتيال دينك ضد حركة الخدمة
أما مزاعم أردوغان الحالية حول وقوف حركة الخدمة وراء اغتيال دينك، فليست جديرة بالنقاش، وهي ليست إلا من قبيل تعليق كل جرائم أرجنكون على علاقة هذه الحركة بعد أن ظهر الخلاف بين الطرفين في نهاية عام 2013. لذا نكتفي بتذكير ما كتبته صحيفة آغوست التي كان دينك رئيس تحريرها في 11 ديسمبر / كانون الأول 2014: “السلطة الحاكمة في تركيا بقيادة أردوغان ترى قضية اغتيال دينك سلاحًا يمكن استخدامه ضد حركة الخدمة. هذه الخطوة ليست إلا خطة خبيثة تجعل إحدى أكبر قضايا العدل في هذه البلاد أداة لتحقيق مصالح سياسية”.