(زمان التركية)ـــ تطرق الكاتب ذو الفقار دوغان في مقاله بصحيفة (أحوال تركيا) إلى مساعي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإحتواء “حزب السعادة” التركي، الذي يستلهم أفكاره من حركة “مللي غروش” التي خرج منها أردوغان ثم خلع عباءتها لاحقا، محاولا تقويض جهود الحزب وتنحيته عن المشهد السياسي، قبل الانتخابات التي ستشهدها البلاد العام القادم على ثلاث مستويات.
وسلط المقال الضوء على اللقاء المطول بين كل من مصطفى شن طوب، نائب العدالة والتنمية الحاكم، رئيس اللجنة الدستورية بالبرلمان، وتَمَل كرم أولا أغلو، زعيم حزب السعادة المعارض، وهو اللقاء الذي استمر أكثر من ثلاث ساعات.
وقال الكاتب ذو الفقار دوغان: من المعروف أن هدف هذه الزيارة هو دعوة حزب السعادة وإقناعه بالدخول في التحالف القائم بين العدالة والتنمية، والحركة القومية المعارض. الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، كان قد استقبل شن طوب في المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة، وكلفه بمهمة ضم حزب السعادة للتحالف المذكور.
وعقب انتهاء اللقاء الذي انعقد بين شن طوب، وتمل كرم أولا أوغلو، خرج الأول من مقر حزب السعادة دون أن يدلي بأية تصريحات، في المقابل تحدث أولا أوغلو لوسائل الإعلام، وقال إنهما بحثا كل ما هو مطروح على الأجندة العالمية من أحداث راهنة.
وفي رد منه على سؤال حول إذا ما كان قد تطرق مع مسؤول العدالة والتنمية خلال اللقاء إلى فكرة تحالف حزب السعادة مع الحزب الحاكم والحركة القومية المعارض، قال أولا أوغلو “نعم تحدثنا عن موضوع التحالف، لكن هذا الأمر غير مطروح على أجندتنا كحزب !”.
فرئيس حزب السعادة يرى أنه مادام هناك 20 شهرًا على موعد الاستحقاق الانتخابي القادم، سيكون الحديث عن أية تحالفات الآن أمرا في غير محله. لأن تركيا باتت في وضع مُشبع ومُتكدس بالكثير من المشكلات الأهم على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والقانونية.
وقال كرم أولا أوغلو “ما دامت هناك العديد من القضايا الأخرى ذات الأولوية، سيكون الحديث عن الانتخابات من الآن أمرا بلا معنى. لا سيما أن أجندتنا التي نُعطيها أولوية، مطروح عليها حاليًا مسألة عرض مصانع السكر التي هي ثروتنا، للخصخصة، وبيعها. فهدفنا الآن هو الحيلولة دون بيع هذه المصانع”.
حزب السعادة بات الآن حزبًا محوريًا أو بمعنى آخر حزبًا أساسيًا في السياسة التركية، وذلك رغم أن هناك الكثير من الوقت على الانتخابات.
ومن المفارقات أن حزب السعادة وحركة “مللي غروش” أو “الرأي الوطني” هما الآن من يتجلى من خلالهما القدر والمصير بالنسبة لرجب طيب أردوغان رئيس الجمهورية الذي أسس حزب العدالة والتنمية، وأعلن في العام 2001 خلع عباءة حركة “مللي غوروش”، مع عبد الله غل، وعبد اللطيف شنر، وبولنت راينج، ومحمد علي شاهين، وأسماء أخرى.
أردوغان والعدالة والتنمية تمكنوا من الاتفاق مع دولت باهجه لي على كافة الشروط المتعلقة بتحالفهما، من خلال لقاءين فقط استمر أحدهما 30 دقيقة، والآخر 40 قيقة، لكن الأمر كان مختلفًا مع حزب السعادة، إذ عجز الحزب ورئيسه عن الحصول على نتيجة من الوقت الذي استنفذوه خلال اللقاء الذي ذكرناه آنفًا من أجل إقناع الحزب المذكور بفكرة الانضمام للتحالف.
الصحفي “صلاح الدين أون كبار” الكاتب في صحيفة “آيدينلق”، زعم أن أردوغان اقتراح منح حزب السعادة وزارتين، و20 نائبًا في البرلمان، كإغراء لإقناعه بالانضمام للتحالف.
أمّا الصحفي “أحمد طاقان” كاتب صحيفة “يني جاغ”، فذكر أن الرئيس التركي يحاول الضغط على حزب السعادة في الميدان، ويحيّده من خلال ضمه لحزب العدالة والتنمية، تمامًا كما فعل مع حزب “صوت الشعب” الذي أسسه نعمان قورتولموش الذي يتولى حاليًا منصب وزير الثقافة والسياحة في الحكومة التركية.
ونلاحظ في خضم كل هذه التطورات أنه في الوقت الذي يستخدم فيه أردوغان كلمة “التحالف” أثناء الحديث عما حدث بين حزبه وحزب الحركة القومية، نجد على الجانب الآخر حزب السعادة يستخدم مفردة “التكامل”. وهذا يوضح لنا ما يرسمه أردوغان في مخيلته من أجل حزب السعادة.
لا جرم أن روح الراحل البروفيسور نجم الدين أربكان تحوم في أجواء السياسة التركية، ولما لا وهو المحرك الرئيس لحركة “مللي غروش” التي خرج منها أردوغان، وترعرع فيها، وفيما بعد أعلن خلع عباءتها، كما أنه أي أربكان أول ممثل داخل النظام البرلماني لـ”الإسلام السياسي المعتدل”، ولإيدولوجية النظام العادل. حتى إن وجود أربكان مجسدًا في شخوص آخرين داخل حزب السعادة، أمر بات مع مرور الوقت أشبه بالكابوس بالنسبة لأردوغان.
وبدأ نجم الدين أربكان عمله السياسي من ولاية قونيا وسط تركيا بعد نجاحه في دخول البرلمان التركي كنائب مستقل، واستمر في مسار السياسة، وقام في العشرين من شهر يناير 1970 بتأسيس “حزب النظام الوطني” الذي كان أول تنظيم سياسي ذو هوية إسلامية تعرفه الدولة التركية الحديثة منذ زوال الخلافة عام 1924. لكن أُغلق “حزب النظام الوطني” بسبب “الأنشطة الرجعية”، إذ أصدرت إحدى المحاكم أمراً بإلغائه، وهو الذي لم يستمر سوى (16) شهراً على إنشائه، مع مصادرة ممتلكاته. وعقب ذلك أسس أربكان في العام 1972 “حزب السلامة الوطني” وكان شعاره “المفتاح” في انتخابات 1973 التي حصل فيها الحزب المذكور على 12 في المائة من إجمالي الأصوات، وحصد 48 مقعدًا في البرلمان، و3 آخرين في مجلس الشيوخ الجمهوري الجناح الثاني للنظام البرلماني الذي كان معمولًا به آنذاك، ليكون بذلك إجمالي عدد مقاعده 51 مقعدا.
وقبل أن يمضي على تأسيسه عام واحد، بات “حزب السلامة الوطني” في العام 1974 شريكًا في الائتلاف الحاكم مع حزب الشعب الجمهوري اليساري بزعامة بولنت أجاويد، ذلك الائتلاف الذي تأسس على مبدأ “المصالحة التاريخية”، وحينها أصبح نجم الدين أربكان نائبًا لرئيس الوزراء.
في حقيقة الأمر كان “نظام حقوق الإنسان” لبولنت أجاويد، و”النظام الاقتصادي العادل” لنجم الدين أربكان، يتداخلان ويشتركان في العديد من النقاط. فـ”القطاع الشعبي” الذي كون أجاويد مضمونه بمقاربات يسارية ديمقراطية مثل “التعاون، والإدارة الذاتية، واستغلال الأرض، واستخدام المياه، والقرية والمدينة، وغيرها”، كان قريبًا من “الاشتراكية الخضراء” في تلك الفترة لأربكان، وما دعا إليه من تطوير الصناعات الوطنية والمحلية، وصناعة المحركات، والمدافع، والإلكترونيات بإمكانيات محلية، وتحقيق نظام عادل، وميزانية متكافئة، واقتصاد بدون ربا مناهض للاستعمار.
وبخلاف الرأسمالية والاشتراكية، فإن نجم الدين أربكان سلك طريقًا ثالثًا عرف باسم “النظام العادل”، إلى جانب ما يسمى بـ”مللي غروش” أو “الرأي الوطني” الذي يعني إصلاح النظامين السياسي والاجتماعي، وهما من حيث المضمون كانا يقدمان للناس الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعدالة، والتقسم العادل للرفاهية، والدفاع عن حقوق المطحونين، والإيدولوجية القائمة على أساس عقائدي في كثير من المجالات، كل ذلك تم تقديمه عبر استخدام خطابات إسلامية.
نجم الدين أربكان من خلال “الرأي الوطني الذي يعلي من شأن الحق” الذي دافع عنه باعتباره بديلًا لـ”من يعلون من شأن القوة”، كان يقترح ضمان حق العدالة، والعمل، والاعتقاد، والأسرة لكل الناس بشكل متساوٍ، والدفاع عنها بشكل عادل.
وعلى هذا فإن النظام الجديد في المجتمع التركي والعالم أجمع، لا يتطلب حربًا وإنما سلامًا، ولا يتطلب صدامات، وإنما حوارًا، ولا يتطلب معايير مزدوجة، وإنما عدالة، ولا يتطلب تكبرًا، وإنما مساواة، ولا يتطلب قمعًا وتحكمًا، وإنما الإعلاء من مبادئ حقوق الإنسان والدفاع عنها.
أما الكيانات التي تشكل عمود مشروع “الرأي الوطني” و”النظام العادل”، فهي بالنسبة لأربكان، السوق الإسلامية المشتركة، والاتحاد العسكري الإسلامي، والاتحاد الثقافي الإسلامي، والاتحاد الإسلامي.
والآن نجد أن رجب طيب أردوغان الذي قال من قبل إنه خلع عباءة “الرأي الوطني”، يستخدم خطابات ومقاربات من قبيل “العالم أكبر من خمسة (في إشارة للدول دائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي)”، والثقافة والشباب وصناعة السيارات القائمة على كل ما هو وطني وقومي، وكذلك الصناعات الدفاعية القائمة على المبدأ ذاته، وما هي في حقيقة الأمر إلا خطابات وأقوال تعتبر استنساخًا مستترًا لما قاله أربكان من قبل. فالعديد من المؤسسات الصناعية التي أنشئت في الفترة التي كان فيها أربكان شريكًا بالائتلاف الحاكم، وكذلك وجود الرجل بنفسه ضمن الفريق الذي أنتج أول سيارة محلية الصنع، كلها أمور كانت بمثابة أحجار الزوايا الأولى لصناعة السيارات، والآلات الصناعية المحلية والصناعات الكهروميكانيكية.
من الجدير بالذكر أن كمال قلجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري، شارك العام الماضي في الذكرى السنوية لرحيل أربكان، وقال في تصريحات أدلى بها بهذه المناسبة إن أربكان “رجل سياسة مؤيد للديمقراطية والنظام البرلماني، خاض ما خاضه من نضال، داخل نظام برلماني باستمرار”.
أما في الذكرى السنوية لهذا العام، فقد شارك أنغين أوزكوتش، نائب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الشعب الجمهوري، وقال في كلمته “نجم الدين أربكان لم يحيد قيد أنملة عن خط الرأي القومي، ومواقفه السياسية، ومعتقداته الشخصية، لم يغير عباءته، ولم يترك أصدقاء كفاحه الموجودين بجانبه وكأنه يغير قميصًا أو عباءة كما فعل البعض (في إشارة لأردوغان ورفاقه)”.
في ذات السياق تحدث فهمي جالموق، الذي شغل لسنوات طويلة رئاسة جمعيات الأئمة والخطباء، وكان صحفيًا مقربًا بشدة من أربكان، لموقع “أحوال تركية”، ونقل كل ما قيل من آراء وتعليقات في الوقت الذي انفصل فيه أردوغان ورفاقه عن حزب “الرفاه” في العام 2001، وأسسوا حزب العدالة والتنمية، إذ قال في هذا الصدد:
“الانقلاب العسكري في تركيا يوم 28 فبراير 1997، كان بمثابة عملية أخذ الحركة الإسلامية من نجم الدين أربكان، وتسليمها لفتح الله غولن. سمعت هذه الكلمة لأول مرة عام 2001، فقلت حسنًا”.
وفي ردّ منه على من انتقدوا تسليم السلطة للجيش وعدم التصدي له في 28 فبراير نقل فهمي جالموق ما سمعه من لسان أربكان بنفسه فقال “أربكان قال إنني لا أقوى على محاسبة الله لي على أي قطرة دماء تسيل. ونقلت نصيحته التي أعطاها لمنظمة الشباب داخل حركة (مللي غروش)، لرجال حمايته وكان نصها:
حذارِ أن تنطلي عليكم ألاعيب الاستعماريين، فترتكبوا خطأ بحق هذا الوطن الكبير. حذارِ أن تفعلوا ذلك فتلحقوا الضرر بحياة أي من مواطنينا بدعوى خدمة الدعوة، فلا تفعلوا ذلك كي لا تقفوا غدًا أمام الله تعالى باعتباركم قتلة..فلن تقووا على هذا الحساب”.
وكما قلنا فإن أردوغان، ورفاقه انسلخوا عن حركة “الرأي الوطني” في العام 2001، وعرّفوا أنفسهم على أنهم “ديمقراطيين محافظين”، وانطلقوا لنضالهم وهم يتبنون مقاربات لمواجهة “الفساد، والفقر، والقيود”، وأسسوا حزب العدالة والتنمية. لكن النقطة التي وصل إليها الحزب، وأردوغان اليوم، تؤكد أن تركيا تصعد لقمة الفساد بسرعة الصاروخ.
فالفساد في عهدهم جعل عدد من باتوا بحاجة ملحة للمساعدات الاجتماعية التي يأخذونها من الدولة، يقترب من 30 مليون شخص. أما القيود والمحظورات فحدث ولا حرج، بداية من القيود السياسية والفكرية، إلى الحظر الذي وصل لدرجة منع بعض الأغاني في القناة الرسمية للدولة، لاعتبارات سياسية.
أما حزب السعادة الذي قال أردوغان وحاشيته عنه في فترة من الفترات “جمعية محبي أربكان يوما ما ستنتهي وينقضي عهدها”، تحوّل في العام 2019 ليصبح أكبر كابوس لهؤلاء.