(زمان التركية)ــ نشر موقع (أحوال تركيا) مقالاً للكاتبة نورجان بايسال سلطت فيه الضوء على المعاناة التي يعيشها الأكراد في تركيا في ظل حالة الطوارئ المفروضة في البلاد منذ انقلاب صيف 2016، حيث عددت نماذج لانتهاكات وقعت حديثاً مدلولاتها أن كل كردي في تركيا صارت هويته وحياته مهددتين.
وجاء في المقال: كنت أشاهد مقطع فيديو جرى تسجيله العام الماضي خلال احتفالات عيد النيروز (عيد الربيع الكردي) في جامعة دجلة في ديار بكر، وهالني ما رأيت. فقد شاهدت كيف اقتحم مجموعة من رجال الشرطة حرم الجامعة الكردية بمجرد بدء بعض الطلاب في الصفير بلحن أغنية كردية، وبدأت بضربهم وسحلهم على الأرض.
وفي الأسبوع الماضي فقط، علمنا مصير هؤلاء الطلاب الجامعيين بعد إلقاء القبض عليهم وقتها، إذ وجه مكتب المدعي العام في ديار بكر اتهامات إلى 12 طالبًا جامعيًا بـ “نشر دعاية لمنظمة إرهابية” و”ارتكاب جرائم باسم منظمة ارهابية”. وطالب المدعي العام بإنزال عقوبة السجن بهم لمدة سبع سنوات لمجرد الصفير بلحن أغنية كردية.
وفي واقعة منفصلة، ألقت السلطات الأسبوع الماضي القبض على اثنين من الموسيقيين بسبب تقديمهما أغاني كردية في حفل زفاف في اسطنبول، ويواجه الآن الفنانان وأفراد العائلة التي أقامت حفل الزواج اتهامات بالترويج لمنظمة إرهابية، فيما لا يزال الموسيقيان يقبعان حتى هذه اللحظة وراء القضبان.
وللأسف، أعادت هذه الوقائع إلى ذاكرتي ما كان يقصه علينا أجدادنا وكبارنا من قصص عن اضطهاد السلطات المركزية لأي كردي يفكر في إظهار أي ملمح عن خلفيته الثقافية والشعبية. فقبل 75 عامًا، تم اقتياد الكاتب والصحفي والمفكر الكردي البارز موسى عنتر المعروف أيضا باسم “آبي موسى” (العم موسى بالكردية) إلى مركز الشرطة حيث اُعتدي عليه بالضرب بسبب صفيره لحنا كرديا. وفي عام 1992، تم اغتيال عنتر بالرصاص في عمر 77 عامًا ليوجه الادعاء بعدها بعقود اتهامات لمسلحين بتنفيذ عملية الاغتيال بناء على أوامر من الجناح الاستخباراتي لشرطة الدرك، وما زالت القضية قائمة حتى الآن على الرغم من مرور سنوات عدة منذ فتحها عام 1999.
وفي إحدى مقابلاته، قال عنتر:
“في عام 1943، كنت مدير سكن الطلاب في جامعة دجلة في اسطنبول، وفي أحد الأيام، جاء ضابطان من الشرطة واقتاداني إلى المركز، وفي الداخل، تناوب ما بين اثنين وخمسة من ضباط الشرطة على الاعتداء علي وضربي، فسألتهم عن السبب، فقال رقيب الشرطة: “يا ابن الخونة، هل تعرف ما هي جريمتك؟” فأجبت “لا”. فسألني “هل لديك جهاز راديو؟” فرددت بالإيجاب، وعاد ليسأل “هل لديك جهاز تسجيل؟” فأجبت “نعم لدي واحد أيضا”، فقال “إذا يا ابن الكلب، لماذا تصفر لحنًا كرديًا في حين أن هناك الكثير من الأغاني التركية الجميلة؟”
طارق ضياء إيكنجي، وهو مفكر كردي بارز آخر، يتذكر أيضًا كيف كان يتم تغريمه خمسة قروش في كل مرة يتحدث فيها باللغة الكردية (كان متوسط الراتب الشهري للعائلة وقتها 20 قرشًا). وخلال الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، كانت هناك عدة حملات تدعو إلى التحدث باللغة التركية فقط تحت عنوان “أيها المواطن، تحدث بالتركية!” وفي نهاية السبعينيات، كان هناك تسامح نسبي إزاء استخدام اللغة الكردية، ولكن بعد الانقلاب العسكري في سبتمبر 1980، تم حظر التحدث أو الكتابة باللغة الكردية مرة أخرى.
يقول إيكنجي “أتذكر في سنوات طفولتي كيف كانت المستشفيات تعلق على جدرانها لافتات تحمل عبارة “إذا كانت لا تتحدث التركية، فلا خدمة لك”، وقامت السلطات أيضاً بحظر بيع أشرطة الأغاني والخطب الكردية، وألقي القبض على العديد من الناس وتعرض البعض للتعذيب بل وللقتل أيضًا لمجرد حيازة أو بيع أشرطة موسيقية أو كتب أو صحف باللغة الكردية. وفي عام 1993، قُتل جاري عدنان أمام أطفاله الثمانية بسبب بيعه للصحف الكردية في متجره الصغير في منطقتنا في ديار بكر.”
ولم يتحسن الأمر قليلا إلا بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002، حيث شهد نفس العام السماح بدورات خاصة للغة الكردية. وفي عام 2009، أطلقت الدولة قناة تلفزيونية كردية في حفل كبير، وتبع ذلك افتتاح أقسام للغة الكردية في بعض الجامعات وتوفير ساعتين من الدروس الكردية الاختيارية في بعض المدارس الابتدائية. كما باتت المجلات والكتب الكردية شائعة وتُنشر علناً.
لكن بوصول عملية السلام بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني إلى طريق مسدود في عام 2015، تغير كل شيء. فأمرت السلطات بإغلاق أقسام اللغة الكردية في الجامعات وإلغاء دورات اللغة الكردية والدروس الكردية الاختيارية.
ومع إعلان حالة الطوارئ في يوليو 2016، تم حظر كل ما يتعلق بالثقافة الكردية مرة أخرى. فأُغلقت المنظمات غير الحكومية والمؤسسات المعنية باللغة والثقافة الكردية، وأزيلت الأسماء الكردية من الحدائق العامة والشوارع وكل ركن من أركان المدن الكردية.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث شنت السلطات حرباً شعواء على الرموز الثقافية واللغوية الكردية وأزالت ودمرت النصب التذكارية التي أقيمت لإحياء ذكرى السياسيين والكتاب والمثقفين والأطفال الأكراد الذين قتلتهم قوات الأمن. وتمت إزالة الأسماء الكردية لمدننا، مثل أميد (الاسم الكردي لديار بكر)، من لوحات الإعلانات العامة في إطار حملة من الدولة للقضاء على التراث الكردي لهذه المناطق.
اليوم، ليس فقط من المحظور عزف الأغاني والموسيقى الكردية بل وأيضًا صفير أي لحن كردي. وأنا لا أعرف حقا الفرق بين الصفير باللغة الكردية أو التركية.
لذلك ها أنا ذا…أضم شفتاي لإطلاق صافرة على أمل أن تصل أغنيتي لك.