(زمان التركية)ــ قال د. سليمان عشراتي في الانبعاث الحضاري في فكر الأستاذ فتح الله كولن، إن الأيديولوجية توجّه النظر والوجدان نحو أهداف السلالة والحزب والعُصبة، وتربط الحشود بمنحى فكري أصم، وتُفعِّل ضميرهم نحو إكبار الذات الجمعية، بعد أن تضفي على تلك الذات صفات الامتياز والمخصوصية، بينما العقيدة الحق توجّه الروح والقلب والضمير نحو تعظيم الله خالق الخلق والأكوان، وتغرس في الأتباع مبدأ تلازم واجب تعظيم الخالق مع وجوب تعظيم خلقه وإيلاء الرحمة والرأفة لمخلوقاته كافة. وقد تأخذ الأيديولوجية صبغة استغلالية شمولية، فتدين بمنطق القوّة والهيمنة والانتهازية، وهو ما تجترحه العولمة في ثوبها الغربي الأصولي (الكتابي المحافظ).
قراءة الأستاذ كولن
ولقد استفاض الأستاذ كولن في استقصاء الفوارق التي تميز الدين الإسلامي وتفرده عن الأيديولوجيات الدنيوية، وسجّل مواطن الاختلاف بينهما في كثير من مكتوباته.
إن مقاصد الأيديولوجية -في التحليل الأخير- هي مقاصد دنيوية نفعية، تمايزية. إنها ترجّح العاجلة على الآجلة، والحصريّ على الشمولي؛ فيما مقاصد القرآن كما يؤكد كولن أخروية، احتسابيّة، شمولية. فالعمل الصالح في الحياة يكفل سعادتي الدنيا والآخرة، ولا أهمّية لمكاسب الحياة إلا على قدر ما تُجَسِّدُ من مصْداقية الإيمان بالله والعمل الصالح الذي يستهدف المخلوقات جميعًا، ولا يميّز بين العباد.
ذلك لأن رؤية المسلم للحياة رؤية موصولة بالآخرة وبالغيب والمابعد، من هنا كانت واقعة الوجود بالنسبة للمسلم مسترسلة، أبَدية، تبدأ بالحياة الدنيا، دار العمل، وتنتهي بالدار الآخرة، دار الحصاد.
الحد الفاصل
البعد الأخروي بُعد فاصل وفارق بين المدوّنتَين الأيديولوجية والقرآنية، وإذا كان لفظ “الآخرة” قد تكرر في النص القرآني بصورة إضافية، فهو شبه غائب في أسفار العهد القديم. الأيديولوجية تحتسب المكاسب الدنيوية، فهي تقيس نجاحاتها بما يتحقق لها في مضمار الرأسمال والنفوذ والهيمنة في الأرض (السلطان الأرضي).
العقيدة القرآنية كما يشير كولن تحتسب نجاحاتها بمقدار ما ترصده للآخرة من ثواب، دون أن تتهاون أو تفرط في مكاسب الدنيا من الحظوظ الحلال (وإخلالها بهذا الشرط سبَّب لها الحطة والضعف والتقهقر الذي نعيش نتائجه اليوم)؛ إذ إن الاستثمار للآخرة يتحقّق بالكدح الدنيويّ، ولا غرابة أن يقرن القرآن الإيمان بالعمل الصالح في لازمة مركزية من لوازم النص القرآني: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.
وإن الإيمان الذي يعْنيه القرآن هو الإيمان بالربّ خالق الأكوان (الربّ الذي لا حاجب دونه، ولا حاجر، ولا وصيّ). وكذلك يعني بـ”العمل الصالح” كلّ جهد تتحقق به مأمورية الاستخلاف في الأرض، أي مسؤولية الإنسان حيال أخيه الإنسان وحيال الموجودات، إذ حتى البيئة وما يعمرها من عوالم حيّة، يجب أن تشملها مسؤولية الإنسان، متى ما سما إلى مطمح تَبَوُّء مكانة الاستخلاف في الأرض.