بقلم: محمد عبيد الله
برلين (زمان التركية) – حاولنا في مقالنا السابق بعنوان “جذور الصراع بين أردوغان وتنظيم أرجنكون – 6” رصد أهم الأحداث التي شهدتها تركيا في السنوات الأربع الأولى من حكم أردوغان، والإسهامات التي قدمتها حكومته في سبيل تأسيس الدولة المدنية، والصعوبات التي واجهها في إدارة البلاد، أهمها الأحداث الاستفزازية التي أشعلها تنظيم أرجنكون من خلال توظيف الأيديولوجية الإسلامية والقوميتين التركية والكردية.
أرجنكون يثير الفوضى لإيقاع أردوغان في شباكه
شهدت أنشطة تنظيم أرجنكون زخمًا جديدًا بالتزامن مع وصول حزب أردوغان إلى سدة الحكم في تركيا عام 2002. هذا التنظيم الذي يقدم نفسه وكأنه الدولة العميقة أو الحكومة السرية التي تعمل لصالح الدولة التركية وتتدخل في العملية السياسية الديمقراطية بشكل أو آخر إذا خرجت الحكومات عن الخريطة الإستراتيجية التي يرسمها لها خلف الأبواب المغلقة، كان يحاول السيطرة على حكومة أردوغان بأساليب مختلفة. وكما دأب منذ أواخر الدولة العثمانية فإنه بدأ يقود انتفاضات اجتماعية بين الأكراد والأتراك من أجل خلق الفوضى والبلابل وإضعاف حكومة أردوغان وجعلها عاجزة عن إدارة وأمن تركيا حتى تخضع للإطار الذي يرسمه لها. وما شهدته البلاد خلال أربع سنوات من حكم أردوغان من أحداث اجتماعية استفزازية صادمة، كالتي اندلعت جراء مزاعم إقدام مواطنين أكراد على إحراق العلم التركي، والعمليات التفجيرية الأربع التي استهدفت معبدين يهوديين ومقر بنك “أتش أس بي سي” (HSBS) والقنصلية البريطانية في إسطنبول، وإلقاء مجموعة تابعة لقوات الدرك قنبلة على مكتبة في حكاري ذات الأغلبية الكردية للإيقاع بين الأكراد والأتراك (1)، وما ماثلها من الأحداث التحريضية، يكشف أن التهاون في مكافحة هذا التنظيم بكل أذرعه وأجنحته من الممكن أن يعرّض العملية الديمقراطية للانقطاع مرة أخرى في أي لحظة.
كانت المؤشرات الإيجابية في المجالات الاقتصادية وملف حقوق الإنسان كافية لتحريك تنظيم أرجنكون الذي تقوم فلسفته على مفهوم “الإدارة من خلال الاستقطابات الثنائية” بين القومية التركية مقابل القومية الكردية، والأيديولوجية الكمالية العلمانية إزاء الأيديولوجية الإسلامية، واليمينية تجاه اليسارية بصورة أساسية. فقبل أن ينسى الأكراد والأتراك أحداث “شمدينلي” الاستفزازية للغاية، كما تطرقنا في مقالنا السابق، شهدت مدينة إسطنبول هجومًا على مقر صحيفة “جمهوريت” الكمالية العلمانية (2)، حيث ألقت مجموعة مجهولة قنبلة يدوية على حديقة المبنى، ثم لاذت بالفرار، في 5 مايو 2006. ومع أن القنبلة لم تنفجر، إلا أن الرسالة وصلت إلى الجهات المستهدفة، حيث وجهت الصحيفة أصابع الاتهام إلى “الإسلاميين”، وأثارت زوبعة في الفنجان، زاعمة عودة الرجعية الدينية إلى البلاد، الأمر الذي كان يشكل تهديدًا موجهًا إلى علمانية الدولة، على حد زعمها.
لكن زعم “بدرهان شينال”، أحد الشخصين المتهمين بالهجوم على الصحيفة، في جلسة محاكمته عام 2011، أن شرطيين تابعين لشعبة مكافحة الجرائم المنظمة هم من زودوه بالقنبلة اليدوية ومارسوا عليه الضغوط حتى يلقي القنبلة على مقر الصحيفة، وطلبوا منه أن يتولى مسئولية بعض الأحداث الإرهابية، بحسب ما ورد في صحيفة “حريت”. (3)
الهجوم المسلح على مقر مجلس الدولة
وتوالت الأحداث التي استهدفت إضعاف حكومة أردوغان وإسقاطها، ففي 17 مايو 2006 هاجم مسلح يدعى “ألب أرسلان أرسلان” على مقر الدائرة الثانية من مجلس الدولة الذي كان يعد أحد قلاع “العلمانيين”. أسفر الهجوم عن مقتل العضو “مصطفى يوجيل أوبيلجين” وإصابة أربعة أعضاء آخرين بالجروح. لكن السلطات الأمنية استطاعت هذه المرة إلقاء القبض على المهاجم الذي كان محاميًا من نقابة محامي إسطنبول قبل أن يستطيع الخروج من داخل المبنى والفرار. وزعمت نائبة رئيس مجلس الدولة “تانسيل تشولاشان” أن المهاجم المسلح صرخ قائلاً: “أنا جند الله” و”الله أكبر، غير أن هذا الادعاء كذبه الأعضاء الآخرون الذين تعرضوا للهجوم والذين شاهدوا الواقعة عن كثب. وفضلاً عن ذلك فإن تشولاشان تراجعت عن هذا الزعم في تصريحات أدلى بها عام 2011 وبررت بأنها سمعت هذا الادعاء من بعض الشرطيين الموجودين في موقع الحادثة (4).
زعم المهاجم أرسلان أن سبب هجومه راجع إلى اتخاذ الدائرة الثانية لمجلس الدولة قرارًا بعدم تعيين سيدة تضع على رأسها الحجاب في الخارج -وليس أثناء وظيفتها- كمديرة لإحدى المؤسسات الرسمية، كما تبنى أرسلان الهجوم على صحيفة جمهوريت أيضًا، وادعى أنه هاجمها بسبب نشرها رسمًا كاريكاتيريًّا يشبه “المحجبات” بـ”الخنازير” (5).
وورد في لائحة اتهام النيابة العامة الخاصة بالهجوم على صحيفة جمهوريت أن نشر صورة كاريكاتيرية تشبه المحجبات بالخنازير في الصحيفة كان هدفه التحريض والاستفزاز، وهو الأمر الذي مهد الطريق للهجوم على مجلس الدولة في وقت لاحق (6).
لقد أحدث الهجوم أثَر القنبلة في تركيا، نظرًا لأنها ربما كانت تشهد لأول مرة تعرُّض أحد أعضاء مجلس الدولة لعملية اغتيال في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع من الجميع. لذا قام أعضاء القضاء في صبيحة اليوم التالي من الهجوم بزيارة ضريح أتاتورك؛ رمز الجمهورية التركية الكمالية العلمانية، للتعبير عن احتجاجهم، وألقى كل من رؤساء المحكمة الدستورية والمحكمة العليا ومجلس الدولة ورؤساء النيابة العامة خطابات مستنكرة للحادثة، ومؤكدة لوصف “علمانية الدولة”، ومُدينة للحكومة. بالإضافة إلى أن آلافًا من المواطنين المدنيين تجمهروا أمام مجلس الدولة للاحتجاج، وأطلقوا عديدًا من الشعارات بينها “القاتل أردوغان!” .
وسائل الإعلام المصنفة ضمن “العلمانية”، وإعلام أرجنكون، حاولتا تقديم المهاجم أرسلان وكأنه “إسلامي مجاهد” يدافع عن حقوق المرأة المسلمة “المحجبة”، وصدرت بعض الصحف بعنوان: “الهجوم على مجلس الدولة بمثابة أحداث 11 أيلول في أمريكا”، وذلك لكي تحرّض العلمانيين على الإسلاميين، وتحمل فاتورة هذه العملية الاستفزازية حكومة أردوغان، على الرغم من أنها كانت تتبنى حينها نهجًا علمانيًّا ديمقراطيًّا، وتتجنب استخدام خطابات وشعارات إسلامية. وكذلك نعتت صحيفة يني شفق الهجوم بـ”أحداث 11 أيلول لتركيا يقف وراءها أرجنكون” (7). ثم قفزت النقاشات الحادة في الرأي العام إلى أروقة البرلمان، فقال “كمال أناضول”، رئيس المجموعة البرلمانية لحزب الشعب الجمهوري “العلماني”: “تركيا لم تشهد حادثة خطيرة إلى هذه الدرجة طيلة تاريخ الجمهورية”. بينما رفض نائب رئيس الوزراء محمد علي شاهين مسؤوليتهم في العملية قائلاً: “انتظروا قليلاً، سيظهر قريبًا من دبر هذه العملية ومن يقفون وراءها. بل استعدوا لبعض المفاجئات بهذا الشأن!”، في إشارة منه إلى الأيادي الخفية التي تريد الإطاحة بحكومتهم. وقال شاهين إن العملية ليست من أجل استنكار قرار مجلس الدولة في مسألة الحجاب كما يروج لذلك، وإنما استهدفت القضاء على حالة الاستقرار في تركيا. وكذلك نفى أردوغان أن يكون الهجوم عملية تقف وراءها “الرجعية الإسلامية”، كما زعمت الأطراف العلمانية، وادعى أنه جزء من مؤامرة تحاك ضد حكومته لإسقاطها، واتهم زعيم حزب الشعب الجمهوري وقتها “دنيز بايكال” بأخذ دور في هذه المؤامرة.
التصريحات المتناقضة التي أدلى بها إدريس أرسلان، والد المهاجم أرسلان، حول المسألة تدل على صحة اتهامات حكومة أردوغان، حيث قال في البداية إن ابنه ليس “رجلاً متدينًا” بل هو “قومي” لا يلتزم بمطلبات الإسلام، لكن بعد شهر واحد دافع عن ابنه زاعمًا أنه سعى للحفاظ على “قيم الأمة”. ثم كشفت تحقيقات المدعين العامين المشرفين على قضية “أرجنكون” أن والدتي المهاجم أرسلان تلقيا 32 ألف يورو و30 ألف دولار من الشخصيات المرتبطة بتنظيم أرجنكون.
فضلاً عن ذلك فإن شركة “أوياك” المملوكة لمجموعة من لمتقاعدين من المؤسسة العسكرية كانت مسئولة عن تأمين مقر مجلس الدولة، وزعمت أن كاميرات المراقبة للمبنى تعرضت لعطل فني قبل بضعة أيام من العملية الغاشمة، وتم تصليحها بعد عدة أيام. لكن التحقيق الذي أطلقه معهد التكنولوجيا والبحث القومي أثبت أن تسجيلات كاميرات المراقبة تم حذفها من قبل جهات مجهولة، ما يدل على وجود نقاط سوداء في هذه العملية.
صرح نائب رئيس الوزراء آنذاك عبد الله جول بعد يومين من الحادثة أن النقيب المتقاعد “مظفر تكين” يرأس “العصابة” التي وجهت أرسلان للهجوم على مجلس الدولة، وأن عديدًا من المكالمات الهاتفية جرت بين الطرفين قبل تنفيذ العملية. وما أثار الشبهة أن القوات الأمنية عثرت على مظفر تكين بعد ثلاثة أيام، وتبين أنه حاول الانتحار عبر السكين، فقامت بنقله إلى المستشفى على الفور، ثم اعتقلته بعد تلقي العلاج في المستشفى. وأسفرت التحقيقات الأمنية أن “إبراهيم شاهين”، مدير الأمن المتقاعد المحكوم في قضية حادثة “سوسورلوك” الشهيرة والمتهم في قضية أرجنكون، من زوّد المهاجم أرسلان المسدس الذي قتل به عضو مجلس الدولة من نوع “جلوك” (Glock).
أصدرت المحكمة في جلسة المحاكمة الأولى (11 آب / أغسطس 2006) قرارًا باعتقال سبعة أشخاص، بينهم المهاجم أرسلان و”عثمان يلدريم”، بتهمة “محاولة تغيير النظام الدستوري للبلاد” و”تأسيس تنظيم مسلح”. وعلى الرغم من أن عثمان يلدريم اعترف بأنه وأرسلان والجنرال المتقاعد “ولي كوتشوك” التقوا في شقة بمدينة إسطنبول واتخذوا هناك قرار التحرك، غير أن السلطات لم تستطع المساس بالجنرال الذي سبق أن رفض الخضوع للاستجواب حول حادثة سوسورلوك من قبل لجنة التحقيق البرلمانية. بمعنى أن السلطات لم تستطع تجاوز القشور حتى تتوصل إلى الأعماق.
تواصل الدائرة الثالثة عشرة لمحكمة الجنايات في إسطنبول التحقيق في قضية الهجوم على مجلس الدولة ضمن قضيتي “أرجنكون” الأولى و”الهجوم على صحيفة جمهوريت”. وحسمت المحكمة قرارها في 5 آب / أغسطس 2013 بشأن قضية أرجنكون وقضت بالحبس المؤبد مرتين و90 عامًا للمهاجم أرسلان، وأكدت في ثنايا القرار أن “عملية الهجوم على مجلس الدولة استهدفت خلق حالة من الفوضى والبلبلة، كما يريدها تنظيم أرجنكون الإرهابي”.
في تصريحات لقناة أي خبر (Ahaber) في عام 2012، وصف الكاتب الصحفي السابق والبرلماني الحالي من حزب العدالة والتنمية “شامل طيار” الهجوم بأنه من “أهم الخطوات التي أقدمت عليها مراكز القوى من أجل إعادة تصميم الحياة السياسية في تركيا وحملة لدعوة القوات المسلحة إلى الإطاحة بالحكومة، وليس الأمر كما زعم البعض أن الهجوم يقف وراءه أشخاص يحملون همّاً إسلاميًّا واحتجوا على قضية متعلقة بالحجاب في القطاع العام.. هذا ليس إلا محاولة لاختراق عقول الناس وتوجيههم في هذا الاتجاه، بدليل أن التحقيقات اللاحقة كشفت أن منفذي الهجوم ليسوا متدينين، وإنما أشخاص لا يمتون بصلة إلى الدين ويشربون الخمر.. كما ظهر كذب نائبة رئيس مجلس الدولة تانسيل تشولاشان من أن المهاجم أرسلان صرخ ’الله أكبر‘ أو ’أنا جند الله‘، حيث كذّبها زملاءها هي.. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنهم درسوا الموضوع حتى الشعارات التي يجب إطلاقها أثناء العملية الغاشمة، إلا أن إلقاء القبض على المهاجم أحبط كل اللعبة.. يبدو أن هذا الهجوم من أخطر العمليات التي نفذها تنظيم أرجنكون”.
تصريحات المسئولين الحكوميين وشامل طيار السابقة تدل على أنهم كانوا على دراية بالحملات التي تشنّ عناصر أرجنكون لوضع الحكومة في موقف حرج وإخضاعها لإرادتها أو إسقاطها.
ومع أن أرجنكون كان يحاول فرض سياساته على الحكومة من خلال مثل هذه العمليات المحرضة للأقطاب المضادة كالعلمانيين والإسلاميين عبر رجاله المنتشرين بين هاتين الفئتين، إلا أن أجهزة الأمن والقضاء كانت تبدي شجاعة فائقة لتضييق الخناق على مثل هذه الكيانات غير القانونية؛ نظرًا لأن الإرادة السياسية وقفت إلى جانبها وشجعتها على الاستمرار في التحقيقات.
عصابة مرتبطة بأرجنكون تحاول اغتيال أردوغان
ومن هذه الخطوات الجريئة لأجهزة الأمن والقضاء العمليةُ الأمنية التي شنّها أمن العاصمة أنقرة في بلدة “أريامان” على خلفية بلاغ عبر البريد الإلكتروني في 31 من مايو/أيار 2006، أي بعد أسبوعين على هجوم مجلس الدولة. العملية أزاحت الستار عن كيان جديد يعمل ضمن تنظيم أرجنكون وله شبهة الصلة بعملية قتل عضو مجلس الدولة، وفق ما كتبت صحيفة “حريت” في عددها الصادر في 1 حزيران 2006. وتمخضت العملية عن احتجاز 12 شخصًا، بينهم نقيب، وضابط وطياران من وحدة القوات الخاصة التابعة للقوات المسلحة، و5 من المدنيين، إضافة إلى العثور على عديد من القنابل اليدوية ومواد متفجرة ومسدسين من نوع جلوك (Glock)، وهو نوع المسدس نفسه الذي استخدم في الهجوم على مجلس الدولة، مما أثار شبهة حول صلتهم بذلك الهجوم. والمثير للدهشة أن القوات الأمنية عثرت بحوزة هذه العصابة التي عرفت إعلاميًّا بـ”عصابة آتابيلر” أو “مجموعة آتابيلر لحرب العصابات”، على تسعة رسومات تحتوي على خريطة الطريق المؤدي إلى منزل رئيس الوزراء أردوغان، وورقة تحمل أسماء حركية لمن يعمل معهم.
وكشفت التحقيقات أن النقيب الموظف في قيادة القوات الخاصة “مراد أرين” هو زعيم العصابة، وأنها تضمّ أعضاء من كبار الجنرالات المتقاعدين. ونقلت صحيفة “يني شفق” الموالية لأردوغان الحادثة إلى متابعيها تحت عنوان “الخلايا العميقة تحركت ضد الشعب”، وأشارت إلى صلة العصابة بالدولة العميقة. في حين أن صحيفة “الوطن” وصفت الحملة الأمنية بأنها “أول عملية ضد الدولة العميقة بعد قضية حادثة “سوسورلوك” المرورية الشهيرة وقبيل انطلاق قضية أرجنكون في عام 2007″. ثم نقلت الصحيفة عن نائب مدير أمن إسطنبول قوله في 2011، أي بعد إغلاق القضية بشكل كبير: “حادثة عصابة آتابيلر كانت خطة اغتيال مدروسة جيدًا وكان هدفها رئيس الوزراء أردوغان.. فالخطط والرسومات التي عثرنا عليها كانت تشير إلى: أين ومتى وكيف سيتم اغتيال أردوغان”.
لكن البيان الذي نشرته رئاسة الأركان العامة بعد أربعة أيام من العملية أثر سلبًا في العملية القضائية: “إن تسريب المعلومات التفصيلية المتعلقة بالعملية إلى وسائل الإعلام قبل تقديم أي وثائق ومستندات إلى السلطات العسكرية المعنية أمر لافت للانتباه”، مما أثار شبهات حول تدخل العسكر في العملية القضائية الخاصة بعصابة آتابيلر. على الرغم من بيان رئاسة الأركان أصدرت المحكمة قرارًا باعتقال ثلاثة عسكريين من وحدة القوات الخاصة ورجل أعمال من المدنيين بتهمة السعي لتدمير وحدة البلاد وحيازة مواد متفجرة.
إلا أن المحكمة أصدرت قرارًا مفاجئًا وصادمًا بعد ستّ سنوات من هذه الحادثة، إذ قضت في 2012 بترئة ساحة 11 عسكريًّا اتهمتهم النيابة العامة حينها بمحاولة الإطاحة بالحكومة، الأمر الذي اعتبره الرأي العام خضوعًا أمام ضغوطات البؤر العميقة في تركيا. وهكذا تمت مرة أخرى عرقلة محاولات الكشف عن خيوط هذه العصابة المرتبطة بتنظيم أرجنكون، على الرغم من أن نائب مدير أمن إسطنبول أكد أن اغتيال أردوغان كان هدف هذه العصابة، استنادًا إلى الوثائق والرسومات الخاصة بمسارات منزله والتي تم العثور عليها في إطار العملية الأمنية في 2006.
أرجنكون كان يفعل كل شيء من أجل استرداد قوته السابقة، ويسعى لتوجيه حكومة أردوغان بصورة مباشرة أو غير مباشرة في إطار أهدافه، وذلك من خلال جناحه العسكري حينًا والسياسي أحيانًا أخرى. خطوات الحكومة في مجالات الاقتصاد والديمقراطية وملف حقوق الإنسان، ومساندة منظمات المجتمع المدني لها، كانت تضيق مساحة أرجنكون في البلاد. وتشير المعطيات، كما سنرى لاحقًا، إلى أن أرجنكون لما لاحظ عجزه من إضعاف الحكومة وإسقاطها في ظل وجود حلفاءه الليبراليين والديمقراطيين، بما فيهم حركة الخدمة، على الرغم من أن دعمها لم يكن دعمًا مطلقًا وإنما كان مشروطًا بالتزامها بالمعايير الديمقراطية العالمية، كرس جهوده لتجريد الحكومة من حلفاءها، حتى تسقط في يده بسهولة. فعمد إلى طرح عبارة “تنظيم إرهابي غير مسلّح” للرأي العام مجددًا للتمكن من اتهام المنظمات المدنية “الرافضة للعنف” بالإرهاب، بعد أن طرحه لأول مرة في فترة انقلاب 1997 الناعم، وذلك ليتمكن من إلصاق جريمة “الإرهاب” بفتح الله كولن، نظرًا لأنه من الصعوبة بمكان أن يقتنع الرأي العام بأنه يتبنى نهجًا مسلحًا، فلم يجد بدا من اختراع كلمة “تنظيم إرهابي غير مسلّح”. ثم بدأ يفرض ذلك على الحكومة بطرق طبيعية وعبر الرجال الذين موضعه في الدائرة الضيقة لأردوغان.
محاولة جديدة لإعلان الخدمة تنظيمًا إرهابيًّا “غير مسلح”
كما سلف أن ذكرنا في مقالنا “جذور الصراع بين أردوغان وتنظيم أرجنكون– 6″، أن أرجنكون كان مارس ضغوطًا هائلة بأساليبه المعروفة على مجلس الأمن القومي في عام 2004، فاستطاع استصدار قرار منه وقع عليه أردوغان وجميع أعضاء حكومته آنذاك يقضي بـ”مكافحة حركة الخدمة وعرقلة أنشطتها في الداخل والخارج”. وبعد سنتين من هذا الاجتماع شهدت تركيا محاولات لنقل هذا القرار من الورق إلى أرض الواقع، من خلال مشروع قانون يعيد مضمون “قانون مكافحة الإرهاب”. فقد قامت وزارة العدل بالتعاون مع “لجنة التنسيق الخاصة بمكافحة الإرهاب” برئاسة نائب رئيس الوزراء آنذك عبد الله جول بإعداد مشروع قانوني يقترح إدراج عبارة “تنظيمات إرهابية غير مسلحة” في قانون مكافحة الإرهاب المعدّل، ثم أرسلته رئاسة الوزراء في 6 نيسان 2006 إلى رئاسة البرلمان تمهيدًا لعرضه على موافقة البرلمان. وكما سبق أن بيَّنَّا أن عبارة “التنظيمات الإرهابية غير المسلحة” اخترعها أرجنكون في 1997 حتى يتمكن من تصنيف حركة الخدمة “الرافضة للعنف والسلاح” وأمثالها ضمن هذه “التنظيمات الإرهابية غير المسلحة” بهدف تحطيم تحالف الأوساط الديمقراطية والليبرالية مع حكومة أردوغان. والواقع أن هذا المشروع القانوني يدل على عجز إلصاق وصف “الإرهاب” بهذه الحركة، الأمر الذي دفع الجناح السياسي لأرجنكون العمل على الدفع بحكومة أردوغان إلى سنّ قانون يخالف الشريعة الإسلامية والقانون الحديث في آن واحد.
قانون خاص لإعلان الخدمة إرهابيّة
هذا المقترح كان بمثابة قانون خاص لإعلان حركة الخدمة تنظيمًا إرهابيًّا “غير مسلح”، ذلك أن الدعوى التي فتحت بحق كولن في أيام انقلاب 1997 الناعم بتهمة “تأسيس تنظيم إرهابي غير مسلح” كانت مؤجلة أو معلقة بموجب قانون الإفراج المشروط. وهذا المقترح جاء بعد طلب محامي كولن بإعادة النظر في دعوى موكلهم وإنزال حكم البراءة بحقه في مطلع مايو / أيار 2006، أي قبل شهر من طرح هذا المقترح، وموافقة محكمة الجنايات في أنقرة على الطلب في 5 مايو 2006، وذلك في إطار التغييرات التي أجريت في قانوني “مكافحة الإرهاب” و”العقوبات”. لكن هذا الحكم كان قابلاً للنقض من قبل المحكمة العليا إذا تم إدراج عبارة “تنظيم إرهابي غير مسلح” ضمن تعديلات قانون مكافحة الإرهاب.
إعلام أردوغان يعارضه!
وعندما طرحت حكومة حزب العدالة والتنمية هذا المقترح القانوني تكهربت الأجواء في تركيا، حيث اعتبره إعلام “التيار الإسلامي” عامة، بما فيه الإعلام الداعم لأردوغان حاليًا، إلى جانب إعلام حركة الخدمة، عودة المادة رقم 163 الشهيرة من قانون العقوبات التي كانت بمثابة “السيف المسلط” على كل المسلمين والتي تنص على: “فرض عقوبة حبس ما بين 5 سنوات و10 سنوات على من يقوم بالدعاية أو التشجيع عبر استغلال الدين والمشاعر والمقدسات الدنية، بهدف تغيير النظام الاجتماعي والاقتصادي أو السياسي أو القانوني للدولة بالمبادئ والمعتقدات الدينية ولو نسبيًّا أو بهدف تحقيق أغراض أو مصالح سياسية”. لقد استغلت الحكومات اليسارية السابقة هذه المادة الفضفاضة لحظر أبسط فعالية دينية جماعية واعتقال المشاركين فيها على مدى سنوات طويلة، حتى جاء طرغوت أوزال وغير هذه المادة. لذلك نشرت وسائل الإعلام المحسوبة على التيار الإسلامي، وليس إعلام الخدمة فقط، أخبارًا على مدى أيام تكشف عورات وسوآت ومخاطر هذا المقترح القانوني لحكومة أردوغان بالنسبة للمجتمع المدني، خاصة المسلمين. كما أن كل الأوساط الديمقراطية والليبرالية والقانوينة وكذلك الاتحاد الأوروبي اعترضت عليه لمخالفته لمبادئ القانون والحقوق العالمية، ودعت إلى حذف عبارة “التنظيمات الإرهابية غير المسلحة”.
خلاف بين أردوغان وجول بشأن الخدمة
لذلك لما حان موعد عرض المقترح على الموافقة البرلمانية شهد المسرح السياسي في تركيا بلبلة وفوضى استمرت عدة أسابيع، ما دفع الوزراء المعنيين وقادة الحكومة والبيروقراطيين والقانونيين إلى عقد اجتماع في مقر الخارجية برئاسة عبد الله جول، نائب رئيس الوزراء. وبحسب ما كتبه كل من الكاتب الصحفي “أحمد خاقان” من صحيفة “حريت” و”ميسر يلديز” من موقع “أودا تفي” الإخباري المقرب من أرجنكون، فإن عبد الله جول أصر على بقاء هذه العبارة الفضفاضة في المقترح القانوني كما هو من دون تغيير، مؤكدًا أن ذلك قرار أعضاء لجنة التنسيق الخاصة بمكافحة الإرهاب. إلا أن ضغوطات الأطراف المذكورة على الحكومة والبرلمانيين من الأحزاب الأخرى استمرت إلى أن اتخذ رئيس الوزراء أردوغان قرارًا بعقد اجتماع آخر في غرفته بمقر البرلمان، لينتهي أردوغان بعد تناول الموضوع بكل أبعاده وجوانبه إلى ضرورة حذف عبارة “التنظيمات الإرهابية غير المسلحة”، ويتصل بنائبه عبد الله جول ويأمره بحذف العبارة. أما عبد الله جول فرد عليه قائلاً: “مع أننا حصلنا على رأي الجميع، إلا أنه إذا كان هناك أي خطأ نقوم بتصحيحه”.
على الرغم من هذا الاتفاق بين جول وأردوغان إلا أن المقترح القانوني تم إرساله إلى لجنة العدالة في البرلمان من دون أي تغيير في العبارة المذكورة. وقبل ليلة واحدة من نقاش مشروع القانون في هذه اللجنة عقد أردوغان مع أركان حكومته اجتماعًا جديدًا لبحث الموضوع مرة أخرى ووضع اللمسات الأخيرة عليه. فوضع أردوغان نقطة النهاية لهذا الجدل الذي استمر أكثر من شهر بقوله: “فهل يمكن أن يكون هناك تنظيم إرهابي غير مسلح؟! يجب تغيير هذه العبارة!”.
خيبة وزير العدل بشأن قانون الإرهاب!
كان وزير العدل “جميل تشيتشاك” المزعوم بقربه من “الدولة العميقة” أكثر انزعاجا من هذا التطور، بحسب ما ذكر الكاتبان المذكوران. ولذلك نرى أنه ورئيس لجنة العدالة البرلمانية “كوكسال توبتان” غاب عن اجتماع أعضاء الحكومة الذي عقدوه صباح تلك الليلة، ولم ينضمّا إلى الملتئمين إلا بعد الساعة الرابعة عصرًا، احتجاجًا على خطوة أردوغان هذه. وفي نهاية المطاف تحقق ما طلبه أردوغان ولم توضع عبارة “التنظيمات الإرهابية غير المسلحة” ضمن “قانون مكافحة الإرهاب”، بل أدرجت هذه العبارة ضمن “قانون العصابات” وأعيدت صياغة المقترح على النحو التالي: “يخضع مؤسسو وإداريو وأعضاء تنظيم إرهابي غير مسلح للمحاكمة في إطار المادة رقم 220 من قانون العقوبات المنظمة لجريمة العصابة”، وذلك في 30 من حزيران 2006، الأمر الذي حال دون إعلان حركة الخدمة ونظيراتها من الحركات الأخرى “تنظيمًا إرهابيًّا غير مسلح”.
بعد سنتين تقريبًا من هذا التغيير، وافقت هيئة الدائرة التاسعة للمحكمة العليا بالاتفاق على قرار براءة كولن في 5 مارس 2008، ووافقت عليه بعدها الجمعية العامة للمحكمة العليا بموافقة 17 عضوًا في مقابل رفض 6 أعضاء، بعد أن فتحت دعوى بحقه في 22 أغسطس/آب 2000 بتهمة “تشكيل منظمة إرهابية غير مسلحة”، و”التحريض على هدم الدولة العلمانية لتأسيس دولة الشريعة”.
أردوغان يمنع إعلان الخدمة إرهابيّة!
ومن اللافت أن ميسر يلديز، الكاتبة الصحفية في موقع “أودا تي في” الإخباري، الموقع الذي خضع المشرفون عليه للمحاكمة في إطار قضية “أرجنكون” فيما بعد، اعترفت بأن تصنيف حركة الخدمة ضمن “التنظيمات الإرهابية غير المسلحة”، بعد التعديلات التي حاولت حكومة أردوغان، بتوجيه من أرجنكون أو الدولة العميقة، جاهدة لإجراءها على قانون مكافحة الإرهاب المذكور، كان تطبيقًا للقرار المتخذ في اجتماع مجلس الأمن القومي عام 2004، واتهمت أردوغان بالحيلولة دون تنفيذ هذا القرار!
على الرغم من نجاح منظمات المجتمع المدني والأوساط القانونية والديمقراطية في منع إدراج عبارة “التنظيمات الإرهابية غير المسلحة” في قانون مكافحة الإرهاب المعدل، إلا أن خطر الرجوع من هذه الخطوة ظل موجودًا في الأيام والشهور القادمة، نظرًا لاستمرار ضغوطات شرذمة قليلة من الزمرة الحاكمة في الجيش والسلك البروقراطي والحكومة. ولذلك نرى أن “عثمان شيمشاك”، رئيس تحرير الموقع الإلكتروني الخاص بفتح الله كولن، أعلن أن الأخير حذّر أردوغان من خلال رسالة بعثها إليه في 2 مايو/أيار 2006، أي بعد سنتين من قرار مجلس الأمن القومي في 2004 حول ضرورة مكافحة حركة الخدمة، وبالتزامن مع بدء محاولات تنفيذ هذا القرار في أرض الواقع، إلا أن الرأي العام لم يسمع بهذه الرسالة إلا بعد الخلاف الذي ظهر بين الطرفين بسبب قضية الفساد في 2013. ومع أن اطلاع كولن على هذا القرار كان قبل عام 2006، لكن يبدو أنه انتظر حتى يتأكد مما إذا كانت حكومة أردوغان ستنفذ قرارات مجلس الأمن القومي أم لا، نظرًا لأن قرارات المجلس ليست إجبارية للحكومة بل هي عبارة عن “توصية” فقط من الناحية القانونية. لكن يبدو أنه لاحظ تحركات خلف الستار من أجل التمهيد لتطبيق هذا القرار تحت غطاء القانون، مما دفعه إلى بعث رسالة تحذيرية إلى أردوغان، عملاً بمبدإ “الأمر بالمعروف”، على حد تعبيره الوارد في رسالته.
رسالة من كولن إلى أردوغان
أوضح شيمشاك أن كولن اتخذ قرارًا ببعث رسالة إلى أردوغان بعد محاسبة ذاتية، حيث شرع في كتابة الرسالة قائلاً: “إنك تعلم يا ربّ أن مقصدي من هذه الرسالة ليس إلا القيام بواجب التنبيه والتحذير كشخص مسلم، وليست لي أي غاية سوى تحصيل رضاك. إني أخشى أن أواجه في الآخرة سؤال: “لماذا لم تحذره وتأمره بالمعروف”، بحسب ما نقله شيمشاك.
أول ما يلفت انتباهنا في الرسالة هو لغة الاحترام والإجلال التي تسود على كل جنباتها، إذ يخاطب دائمًا أردوغان بعبارات التوقير والإجلال من قبيل “سيادة رئيس الوزراء” و”شخصكم الموقر”، وغيرهما. ويبدأ كولن رسالته بالتنبيه إلى ظهور علامات التراجع عن مسار الديمقراطية ويستمر قائلاً: “لا بد أن أن أؤكّد أن توقيع الحكومة على خطة عمل معينة – للأسف الشديد – فتح جرحًا غائرًا في قلوب المسلمين كافة”، في إشارة منه إلى توقيع أردوغان مع جميع أعضاء حكومته على “خطة عمل لمكافحة حركة الخدمة” خلال اجتماع الأمن القومي في 2004، بما فيهم وزير العدل جميل تشيتشاك سالف الذكر.
كولن يحذر أردوغان بشأن الحجاب والمدارس الدينية
ثم يواصل كولن قائلاً: “فوق ذلك، فإن وقوفكم مكبل اليدين إزاء مشكلة الحجاب في القطاع العام والجامعات التي انقلبت جرحًا غائرًا لتركيا أيضًا، وعدم تمكّنكم من كسر الأغلال والسلاسل الموضوعة على أبواب مدارس الأئمة والخطباء (الدينية)، يصيب الفئات التي وضعت ثقتها فيكم واعتمدت عليكم بخيبة أمل كبيرة بشأن قدرتكم على حلّ هذه المشاكل. كادت الآمال في هذا الصدد تخبو فعلاً، ومن المحتمل أن الأمة التركية ستعتبر ذلك – بتوجيه من دعاية خصومكم – فشلاً كبيرًا، وستحملكم فاتورة الإحباط في تطوير حلول ناجعة لتسوية هذه القضايا”.
كولن لأردوغان: قاوِموا بعزتكم أو مُوتوا أبطالاً في هذا السبيل!
ونرى أن كولن يخاطب أردوغان بأسلوب حكيم ليؤثر فيه، حيث يستعير ما قاله “نجيب فاضل”، الشاعر التركي الملقب بـ”سلطان الشعراء”، -الشاعر الذي يكنّ له أردوغان حبًّا شديدًا وسبق أن دخل السجن بسبب إنشاده أبياتًا من قصيدته-، لرئيس الوزراء الأسبق عدنان مندريس: “قاوِمْ بعزتك أو مُتْ بطلاً في هذا السبيل!”. إذ يتابع كولن بقوله: “قاوِموا بعزتكم أو مُوتوا أبطالاً في هذا السبيل! ولكن عليكم أن تحافظوا على سمعتكم مهما كلّف. ويمكنني أن أقول إن سعيكم للحفاظ على هويتكم الذاتية ومسيرتكم في الطريق كما بدأتم إنما ينطوي على أهمية كبيرة لشخصكم الموقر والشعب التركي على حد سواء، وإن كانت هناك عراقيل تحول دون تحقيق هذا الهدف السامي ولو كانت الوصولَ إلى منصب الرئاسة أو زعامة العالم كله”.
هذه الرسالة تكشف مخاوف كولن من وقوع أردوغان تحت سيطرة الزمرة الحاكمة المتمثلة في أرجنكون وانحرافه عن المكتسبات الديمقراطية التي حققها في ظل مساعيه الرامية إلى رفع المحظورات المفروضة على الفئات المتدينة خاصة، ضمن أهداف تحقيق المعايير الأوروبية في السياسة المدنية وتفعيل المجتمع المدني.
يتبع..