مرام سعيد أبو عشيبة
معَ حلولِ ريح الربيع في قريةٍ صغيرةٍ تسمى هالافانا المطلة على نهرِ أوراي، وعلى الأرض المنبسطة، والعشب الأخضر، والأشجار المرتفعة، هناك كوخٌ صغيرٌ خشبيٌ، نوافذه وردية اللون وبابهُ أخضرٌ، كلون العشب ، تسكنه فتاة تدعى ماهينار ويعني ضوء القمر، ويطل النهر على شلال مائي يدعى شلال القمر؛ لأن مياهه كالبلور المضيء ينبع من وسط جبل الأملِ الشاهقِ وفي النهر بط الماندرين وصغارها بألوانها الزاهية كألوان الفواكه الملونة، فما بين أحمرٍ وأبيضٍ ممزوجة بالأخضرِ والأسودِ والرمادي والبنفسجي ، وكأنه حديقة غناء بألوانها الممزوجة ببعضها كلوحةٍ فنيةٍ، جمال لا يضاهيه جمال،
ماهينار فتاة جميلة شجاعة ذكية بشعرها الكستنائي البراق، للفتاة مهراً صغيراً رائعاً أبيضاً يدعى صهيل بعيونه العسليةِ ورموشهِ الساحرةِ وذيلهِ الأملس الناعم الطويل له اسطبلٌ صغيرٌ خشبي ، بجانب الكوخِ، كبرَ صهيلٌ وأصبحَ حصاناً قوياً شجاعاً عنيداً مشاكساً فاتناً ذكياً قوي البأس ، خطواته متوازنة تقدحُ الشرارَ وتثيرُ الغبارَ، تلتفُ حولهُ العيونَ، لجمالهِ وهو يمشي على أرضِ السهولِ مع غروب الشمس الذهبية ،والغيوم البيضاءِ السابحةِ في فضاءِ السماء الزرقاءِ، فصهيلٌ صديقها وهو وجودها يعيش معها منذ زمن قاصٍ بعيدٍ،
وفي خارجِ الكوخِ تضعُ الفتاة طاولةً وكرسياً خشبياً تجلسُ عليهِ لِترقُبَ مغيبَ الشمسِ، مجهزة لموقدِ الحطبِ وعليهِ الذرة المشوية اللذيذة، وبجانبِ الكوخِ شجرة كبيرة بنت فوق أغصانها ، كوخاً بيضاوياً صغيراً ذات سلالمِ خشبيةٍ معوجةٍ للاستطلاع ،كل شيء في كوخها مصنوعٌ من الخشبِ الملاعقَ والسكاكينَ والصحونَ ، كانت ماهينار دائما ما تجمع الحطب لتطبخ حساءها الشهي، تلبس ماهينار في كل حين معطفها الأبيض كبياض كرات الثلج، وحذائها اللامع البنفسجي ،وقبعتها البيضاء ،ولفحتها البنفسجية، وتضعُ لجامَ الحصانِ فتركبه ، وقد بدا عليها ترويضَ حصانها بشكل ممتاز منطلقاً بها بسرعةٍ فائقةٍ كانطلاق السهم من القوس حاملة بين يديها سهمها وقوسها مسددةً مصوبةً إياه نحو السماء ، ومرت ساعات ولم تترجل عن حصانها ، ولم يبطئ سرعته ،
تحمل الورد الملون كل يوم في سلال ملونة، ملئية بأزهار الأوركيدا، والتوليب ، وشقائق النعمان، وزنبق الماء ،وزنبق الوادي ، والقرنفل، والبنفسج ، وزهرة التوليب هي المفضلة لديها بلونها الأحمر الداكن ، فكوخها مليءٌ بها، متجهةً بهذه الأزهار إلى قريةٍ محاذيةٍ لقريتها لتبيعها، فهي تجري على لقمةِ عيشها وما يسدُ رمقها ،وفي القريةِ نفسها هناك َكوخٌ صغيرٌ مجاورٌ لكوخها يبعدُ عن كوخها بقليل تسكنه سيدةٌ عجوزٌ مريضةٌ قد بدا وظهر على ملامح وجهها خطوط الزمان، بشعرها القصير الأشيب، وعكازتها الخشبية القديمة قدم عمرها، كانت ماهينار تعتني بتلك السيدة وتقوم على خدمتها ورعاية شؤونها، فدائما تحلب شاتها، وتطبخ لها، وتنظف منزلها ، وتسقي أزهارها ،وتغسل ثيابها، وتسقيها الدواء ،كما أن ماهينار لا تنسى أن تصيد السمك للسيدة فتشويه لتأكله ،
فماهينار بمثابة ابنة لها لم تلدها، فقد رأتها ابنة بارة صالحة ممتنةً لها بكل مشاعرها وأحاسيسها وبكل ما فيها، فقد منحتها الحياة لاهتمامها بها، وذات مرة استدعت العجوز ماهينار مرسلة لرسالة إليها تستدعيها لأمر جلل، وركبت ماهينار حصانها صهيل على سرعة من أمرها في حيرة ودهشة فلما وصلت وسلمت عليها ، قالت العجوز: اجلسي يا ابنتي ، واكتبي ما سأمليه عليك ، وبدأت بالكتابة ، وقالت لها العجوز: اكتبي بأن كل ما أملكه من أموالٍ وأراضٍ هو ملك لك يا ماهينار ، وأريدك أن تحولي كوخي هذا إلى مدرسة لأطفال القرية ليترددو عليها ، فالقرية خالية من المدراس، فكل ما في الأمر أنهم يجتمعون عند معلمٍ في بيتهِ المكون من غرفةٍ وصالةٍ صغيرة، ويلقنهم الدروس تلقيناً، فأنت ستكونين صانعة هذا الجيل فلما أنهت الفتاة الكتابة وقفت وذرفت دموعها وحضنت السيدة العجوز وأخذت دموعها تسيل كسيلان جدول الماء ، وعادت إلى منزلها وقد ترقرقت عيونها بالدموع، وبعد أيام ماتت السيدة العجوز وحزنت حزناً شديداً ،وشارفت ماهينار على الانهيار ، فكلما تجولت في أرجاء الكوخ وتمعنته تذكرت اللحظات الجميلة التي عاشتها مع السيدة، وبعد أسابيع تم تجهيز الكوخ وأصبح أول مدرسة في قرية هالافانا، وبدأ الأطفال يقبلون على المدرسة لتعلم أصول القراءة والكتابة لينهضوا بالعلم وبشيء له قيمة، فقد حققت حلماً قد رسمته العجوز لماهنار في مخيلتها.
مرام سعيد أبو عشيبة
ماجستير في تفسير القرآن الكريم
كاتبة وباحثة