بقلم: الاستاذ الدكتور محمد أفا تشامان
برلين (زمان التركية) – منذ البداية لم يكترث طاقم إدارة تركيا والنظام الذي أسسوه بالسلم في الجارة سوريا إطلاقًا، فمنذ اندلاع التظاهرات السورية في ربيع عام 2011 اتبع النظام الحاكم في تركيا سياسة تهدف إلى إسقاط نظام الأسد العلوي واستبداله بنظام إسلامي سني، وذلك بقراءتها الشرق الأوسط من خلال عدسات عنصرية وعثمانية حديثة خيالية ترتكز على السياسة الداخلية.
هذا الأمر لم يتحقق وكانت الخطة البديلة تقسيم سوريا فعليا، واتبعت تركيا موقفًا يهدف لإنشاء منطقة سنية فعلية لا تخضع لإدارة الأسد “العلوي”، أي أنها انطلقت كجارة تدعم المواجهات وتغذيها وتحول المواجهات بين نظام الأسد والمعارضة إلى حرب أهلية وليس كجارة تدعم السلم.
بدون شك كان هذا النوع من السياسة مليئًا بالمخاطر.
في البداية كان من بين المخاطر تحوُّل سوريا إلى منطقة تفتقر لسلطة حكومة مركزية فعلية، والخطر الثاني أن تركيا مهما دعمت الجماعات الإسلامية السنية ضد الأكراد ونظام الأسد العلوي، فإن اختلافات حادة كانت تسود بين الجماعات الإسلامية ذاتها.
وعلى الرغم من أن “الأيديولوجية الإسلامية” كانت العامل المشترك بين تلك الجماعات، إلا أنها كانت تتفاوت من حيث الأيدلوجيات ودرجة التطرف، وبالتأكيد يجب أن نضيف إلى هذا الصراعَ النابع من صراع القوة بينهم.
ودخلت سوريا في أجواء حرب أهلية معقدة لأقصى درجة، وأهدت هذه الدولة المحترقة بنيران الحرب الأهلية تركيا نحو 4 مليون لاجئ وعدد لا يحصى من المخاطر الأمنية.
هاتان المشكلتان عويصتان في حد ذاتهما، وبلغ ثمنهما الاقتصادي أبعادًا لا تُصدق، لكن الضرر الأشد من مشكلة الهجرة غير القانونية هي المخاطر الأمنية على تركيا. ومن أبرز هذه المشاكل الأمنية تحوُّل تركيا إلى مقر للجماعات الجهادية، وفي مقدمتها تنظيم داعش الإرهابي، وانتشار هذه الأيدولوجيات المتطرفة في بنيتها الاجتماعية وتهريب البشر والمشاكل الاجتماعية المتزايدة في المدن التركية الكبرى والهجمات الإرهابية.
دور تركيا في الحرب الأهلية السورية
أصحاب القرار في تركيا الذين سعوا لتغيير النظام في سوريا تسببوا في انقسام سوريا فعليا واستقرار الدول الأجنبية داخلها بطريقة مؤثرة في الأحداث، والأمر الثاني الذي يعلمه الجميع هو استقرار أمريكا وروسيا على المدى الطويل داخل سوريا من الناحية العسكرية والاستخباراتية والسياسية وتحولهما إلى عناصر حاسمة في الأمر.
والأكثر من هذا شروع السعودية ودول الخليج الأخرى في ملاحقة عملاء إيران داخل سوريا. وبتحول سوريا إلى ساحةٍ تنشط فيها هذه القوى الخارجية بات حل الأزمة السورية بمثابة معادلة صعبة بالنسبة لتركيا. تركيا كانت تعتقد أنها ستكتسب مزيدًا من القوة وستصبح في موقع أكثر حسمًا إلا أنها سرعان ما أصبحت عنصرًا صغيرًا في اللعبة وقُضي على آمالها في زيادة تأثيرها بدخول هذه القوى إلى الساحة.
وأضيف مسألة الإدارات الذاتية إلى هذه المعادلة المتعددة القوى وبات يستحيل الخروج من الفوضى في سوريا. ثم تشكلت منطقة رمادية بين سوريا والعراق مستقلة عن الإدارتين المركزيتين، وأصبحت هذه المنطقة مركز الإرهاب الخطير والمتطرف والغجري والمدمر الذي عُرف باسم “تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق”، وباتت هذه المنطقة التي تشغل مساحة كبيرة من سوريا والعراق تخضع لحكم سياسي خاص بها.
وبجانب ذلك بسط تحالفٌ تحت اسم ” الجيش السوري الحر” سيطرته على بعض المناطق، وفي مقدمتها خط “تركيا – البحر الأبيض” على الرغم من عدم اختلافه كثيرا عن تلك المجموعات الإسلامية المذكورة من الناحية الأيدولوجية.
ولم يتراجع النظام التركي عن سياساته وقدم منذ البداية كل أشكال الدعم من أسلحة وذخائر ودعم لوجستي وخدمات صحية واستخباراتية لهذه المجموعات الإسلامية، على الرغم من تحذيرات الدول الغربية المستمرة بشأن الجماعات الجهادية والإرهابية التي تعد جناحًا لتنظيم القاعدة مثل حركة النصرة.
وتحولت المنطقة التي تبدأ من الحدود العراقية وتمتد على طول الحدود التركية السورية إلى منطقة كردية، وحصل أكراد سوريا الذين أظهروا أنفسهم في صورة علمانية مؤيدة للغرب على دعم وضمان كل الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي البداية دعمت تركيا هذه الجماعات الكردية، تماما مثل الجيش السوري الحر، وتوجه زعيمهم صالح مسلم إلى أنقرة، بل ونُشرت لقاءاته في العديد من الصحف. وأحرز مسلم الذي يجيد التركية والمسؤولون الأتراك تقدما في تعاونهم الودي دون الشعور بحاجة إلى إخفائه، بل وأن قوات البشمركة الكردية التي أرسلت من إقليم كردستان العراق إلى منطقة كوباني خلال المعركة مع تنظيم داعش الإرهابي عبرت من الأراضي التركية. وحدث كل هذا بعلم وموافقة الإدارة التركية الحالية.
غصن الزيتون بين الانطباع العام والقانون الدولي
إلى أي مدى تتوافق عملية غصن الزيتون مع القانون الدولي والتعاملات الدولية؟ دعونا نبحث عن الإجابة.
بالتزامن مع نهاية الحرب العالمية الأولى كان الاعتداء المسلح على أراضي الدول الأخرى أو حل الخلافات مع الدول الأخرى باستخدام القوة مباحا وفقا للقانون الدولي، غير أن هذا الأمر تغير بتأسيس عصبة الأمم، وحُظر استخدام القوة، وأصبح تغيير الوضع بالتدابير والقوى العسكرية غير مشروع. وصدقت اتفاقية باريس عام 1928 على هذا الوضع وأصبح استخدام القوة العسكرية غير قانوني، كما دعم ميثاق الأمم المتحدة عام 1945 قاعدة القانون الدولي هذا وقام بتدوينها.
الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة التي تم سردها بشكل تفصيلي في ميثاق الأمم المتحدة هو الدفاع الفردي أو الجماعي، أي استخدام القوة العسكرية للدفاع عن النفس ضد دولة أجنبية معتدية. والأمم المتحدة تمنع التدخل العسكري في دولة أجنبية إلا إذا كان هناك قرار صادر من مجلس الأمن الدولي أو تفويض / اتفاق إقليمي أو ضرورة تدخل إنساني (مذبحة مثلا) أو الدفاع عن النفس. ويعمل نظام أردوغان على إظهار عملية غصن الزيتون ضمن “حرب عادلة” (جوس أد بيلوم) (jus ad bellum). لا يوجد في هذه العملية قرار من مجلس الأمن، وأسباب إنسانية أو تفويض إقليمي، وإنما السند الوحيد لتركيا هو ضرورة الدفاع عن النفس.
ضرورة الدفاع عن النفس نظرية ضعيفة جدا فيما يتعلق بعملية غصن الزيتون، لكن ما يتوجب التركيز عليه أولا أنه إذا كان هناك اليوم تهديد فعلي من أكراد سوريا فإن “سياسة سوريا” التي اتبعتها أنقرة منذ عام 2011 هي المسؤولة عن هذا المشهد الراهن في سوريا.
والأمر الذثاني أن تركيا لم تتوجه إلى تطبيق هذا المبدأ على الجماعات السورية الأخرى، فعلى سبيل المثال لا تُنفذ تركيا عمليات عسكرية موسعة كما في غصن الزيتون على المناطق التي تخضع لسيطرة جماعات مثل داعش وأنصار النصرة.
العملية العسكرية على وحدات حماية الشعب الكردية مشروعة بالنسبة لتعريف أنقرة الشخصي للتهديد، لكن عندما يتعلق الأمر بالجماعات الأخرى فهي ليست عازمة على هذا النوع من العمليات، والجميع يعرف سبب هذا.
لكن دعونا نسجل هنا أن أنقرة تعد وحدات حماية الشعب الكردي من حيث السياسة الداخلية التركية عدوًا، لكنها تتبنى موفقا مختلفًا جدًا تجاه الجماعات الإسلامية، لتصديها لنظام الأسد، وذلك على الرغم من أن تركيا شهدت عشرات الهجمات والاعتداءات الإرهابية نفذها هؤلاء الجهاديون. وبالمقابل من ذلك، فإن أكراد سوريا تجنبوا اتخاذ موقف عدائي من تركيا ولم يتورطوا في أي عملية إرهابية، ولعل أكبر دليل على هذا هو اختلاف نظرة أنقرة إلى وحدات حماية الشعب الكردية في بادئ الأمر، كما كان نظام أردوغان يتخذ موقفًا تعاونيًّا مع أكراد العراق وأجرى مفاوضات سلام مع عبد الله أوجلان في مسعىً لحل القضية الكردية.
التناقض الآخر هو استخدام أنقرة ميليشياتها، بما فيه الجيش السوري الحر خلال عملية غصن الزيتون. فإن كانت وحدات حماية الشعب الكردي غير شرعية فماذا عن الجيش السوري الحر؟ وإن كانت تركيا ستميل إلى محور روسيا وإيران وتتبع موقفا مواليا لنظام الأسد فكيف ستبرر لروسيا وإيران دعمها الجهاديين، ومن بينهم الجيش السوري الحر، وإقحامهم في عملية غصن الزيتون؟ وكيف ستشرح تركيا، العضو في الناتو، موقفها من وحدات حماية الشعب الكردي التي تحظى بالدعم الغربي والأمريكي نظرًا لكونها أكثر عنصر مؤثر ضد داعش على الساحة؟
وكيف سيبرر “الرئيس” ( أردوغان) تناقض استمرار تمركز القوات الأمريكية في قاعدة إنجرليك ومعاداة وسائل الإعلام الموالية له لأمريكا؟
وإن كانت هذه العملية في الأساس تهدف لتلقين الولايات المتحدة درسا فكيف سيُبرر الانتماء لحلف الناتو والوجود العسكري الأمريكي، بما فيه الأسلحة النووية في تركيا؟
حسنا، ماذا عن سياسات أردوغان الخاصة بسوريا؟
العملية العسكرية منافية للقانون الدولي. لنعتبر أن العملية تستند إلى حجة مقنعة، لكن ألا يجب أننأنأ ننتقد سياسات أنقرة الخاصة القضية السورية التي أسفرت عن هذا الوضع الحالي؟
فوق هذا أن هذه السياسة لا تزال مستمرة ولا تزال أنقرة تقدم السلاح والذخيرة والدعم اللوجستي وما شابه إلى الجيش السوري الحر. ألن تنتفع وحدات حماية الشعب الكردي بصورة غير مباشرة من هذا التناقض مع ازدياد نظام الأسد ضعفا؟
وإن كانت قوات حماية الشعب الكردي تشكل تهديدًا رئيسيًا لماذا لا يلجأ إلى التعاون الوثيق مع روسيا وإيران لإعادة تأسيس الحقوق السيادية للنظام السوري المركزي؟
وفي ظل هذه التناقضات من سيؤمن بشرعية عمليتكم العسكرية بحجة الحفاظ على أمنكم! في ظل هذه التناقضات الصريحة ومواقفكم الطائفية والقومية العنصرية الممزقة لسوريا خلال السنوات السبع الأخيرة من وكيف ستُقنعون بأن هذه العملية دفاع عن النفس ضد الإرهابيين؟!
في الواقع يكفي طرح السؤال التالي: هل بإمكان نظامٍ لا ينصاع لدستوره هو أن ينصاع إلى القانون الدولي والاتفاقيات الدولية؟!