بقلم: ياوز أجار
برلين (زمان التركية) – نواصل في مقالنا الجديد كشف القناع عن جذور الدولة العميقة في تركيا وتاريخها السري حتى عام 1996 والعلني بعده، عقب المقالين السابقين الذين حمل أولهما عنوان “إطلالة سريعة على جذور الدولة العميقة في تركيا” والثاني “كفاح تركيا للتخلص من أخطبوط الدولة العميقة”.
في ظل توجه “الدولة المدنية والإدارة الديمقراطية الشفافة المفتوحة” الجديد الذي قاده الراحل طرغوت أوزال كانت تشكلت في تركيا “بيئة سلمية حوارية” منذ تسعينات القرن الماضي. وقد أسهم في إنشاء هذا الجو الكتابُ والمثقفون والسياسيون المنتمون إلى شتى الأفكار والأيدولوجيات ومنظمات المجتمع المدني.. البيئة التي كانت تتمكن فيها “الأقطاب المتضادة” من الاجتماع – بدلاً من الصراع – حول طاولة بحث واحدة لمناقشة قضايا إنسانية واجتماعية وسياسية ووطنية ودينية بكل حرية، ويتصافح فيها الكاتب المثقف العلماني الكمالي البحت “توكتاميش آتيش” مع الكاتب الصحفي الإسلامجي الراديكالي “عبد الرحمن ديليباك”، وقادة الأحزاب اليمينية مع نظراءهم من الأحزاب اليسارية، والكتاب الأكراد والعرب والأرمن مع زملاءهم الأتراك، ورجال الدين المسيحي واليهودي مع القادة والعلماء المسلمين، على أساس الاحترام المتبادل وقبول كل طرفٍ موقف الطرف الآخر كما يُعرِّف ويقدم نفسه. ولا مرية في أن حركة الخدمة كانت تأتي في مقدمة هذه الحركات والمؤسسات كفاعل مدني، وأفضل دليل على ذلك مئادب الإفطار واجتماعات منتدى “آبانط” العلمية الشهيرة التي أقامها “وقف الصحفيين والكتاب” التابع لحركة الخدمة بالتعاون مع كل الأطراف المذكورة أعلاه، وكان أردوغان وعدد كبير من السياسيين الحاليين من كل الأحزاب البرلمانية ضمن المشاركين في هذه الفعاليات.
مدارس الخدمة (الماركة العالمية لتركيا)
ومن أهمّ الخدمات التي قدمتها حركة الخدمة للشعب بكل أطيافه وطوائفه في تلك الفترة، والتي اعترف بها جميع مثقفي تركيا، بما فيهم المثقفون الداعمون لحكومة أردوغان حاليًّا، أن الآلاف من المساكن الطلابية وصالات القراءة ومراكز دروس التقوية والتحضير الجامعي والمدارس والجامعات الخاصة التي فتحتها “الخدمة” في كل أنحاء تركيا باتت “جسورًا” تحمل أبناء الجماهير العريضة المهمشة بشكل أو آخر، خاصة المسلمين، إلى مؤسسات الدولة، بعد أن كانت تلك المؤسسات حكرًا على الأقليات الأجنبية والنخب من الأغنياء فقط. ذلك أن مستوى التعليم في المدارس الرسمية كان منخفضًا جدا بحيث لا يمكن النجاح في الامتحان الجامعي بدون دعم خارجي. فكان الأغنياء يرسلون أبناءهم إلى المدارس الخاصة الأجنبية، في الأغلب، أو يحصلون على دروس خاصة في منازلهم؛ في حين أن الجماهير العريضة الفقيرة لم تكن بمقدورها الدراسة في المدارس الخاصة ولا تلقي دروس خاصة في منازلهم، وبالتالي كانوا لا يستطيعون الانتقال إلى المرحلة الجامعية والوظائف العامة بعد انتهاء المرحلة الثانوية في المدارس الرسمية. وهنا مثّلت الآلاف من المساكن الطلابية وصالات القراءة- بدون مقابل مادي -، ومراكز دروس التقوية والتحضير الجامعي مقابل مبالغ رمزية مقارنة بالمدارس الخاصة، شعلة أمل للطلبة الفقراء. وحركة الخدمة حققت نجاحًا بارزًا في هذا المجال بحيث كان الطلاب الدارسون في تلك المؤسسات يحتلون الدرجات الأولى دائمًا في الامتحان الجامعي وامتحان التوظيف العام، بالإضافة إلى أن مدارس الخدمة الخاصة كانت تحصل على الدرجات الأولى وتحصد ميداليات ذهبية في المسابقات العلمية العالمية، حتى أصبحت ماركة عالمية في هذا المجال. وهذا الأمر كان يعدّ سابقة هي الأولى من نوعها، حيث لم تسبق أن حصلت تركيا على المراكز الأولى من قبلُ، بل لم تشارك أصلاً في مثل هذه المسابقات. والأهم من كل ذلك أن أبناء الأناضول “المسلمين” هم من كانوا يحققون هذه النجاحات العلمية بعد أن كانوا يُتَّهمون بالرجعية الدينية والتخلف الديني من قِبل فئة الأغنياء العلمانيين. (أستخدم هذه الأوصفاف تصويرًا للواقع فقط لا للتمييز).
ولم تقتصر مبادرة حركة الخدمة إلى الانفتاح بتركيا على العالم الخارجي على مؤسساتها التعليمية فقط، بل مئات الشركات التجارية والاقتصادية الصغيرة والكبيرة انتشرت في معظم بقاع العالم أيضًا وأنعشت الاقتصاد التركي بصورة غير مسبوقة، إلى جانب جهود طرغوت أوزال في هذا الصدد.
مشروع كولن للحوار والتسامح
من جانب آخر، كان فتح الله كولن أطلق بعد عام 1990 حركة رائدة في الحوار والتفاهم بين معتنقي الأديان والأفكار الأخرى لتجد صداها خلال مدة قصيرة في تركيا أولاً وفي العالم لاحقًا، كما سبق أن قلنا. وبفضل هذا الانفتاح على الآخر، دينيًّا وفكريًّا، حصلت حركة الخدمة على دعم كبير جدًا من قبل النخب، أيا كانت اتجاهاتهم، بحيث أعلن كثير من المثقفين وشخصيات كبيرة من عالم الأعمال والسينما والرياضة دعمهم الصريح لمؤسساتها التعليمية في الداخل والخارج، واعتبروها “مشاريع وطنية” تخدم تركيا. وأكد كثير من الممثلين والمطربين المعروفين بعلمانيتهم الصارمة أن ما ميّز هذه المؤسسات عن نظيراتها قدرتُها على الجمع بين المبادئ العلمية والقيم الأخلاقية لدى الطلبة الدارسين فيها.
حركة الحوار والتفاهم بين معتنقي الأديان والأفكار الأخرى التي جمعت كل ألوان تركيا تحت مظلة واحدة، فشكّلت قوس قزح اجتماعيّاً، باتفاق آراء كل المنصفين، بما فيهم الرئيس الحالي أردوغان، وصلت فيما بعد إلى ذروتها بالاجتماع الذي عقد عام 1998 بين كولن والبابا في الفاتيكان إثر دعوة البابا لـه. ذلك لأن كولن آمن بأن العالم أصبح، بفضل تقدم وسائل الاتصالات الحديثة، قريةً صغيرة عالمية بحيث لن تحقق أي حركة قائمة على الخصومة والعنف والعداء أي نتيجة إيجابية، ولا بد أن يكون الحوار والإقناع السبيلَ الأوحد لنشر المعتقدات والأفكار. لذلك نراه يؤكد في كل خطاباته ومحاضراته ودروسه أن الإسلام لا يمتّ بصلة إلى الإرهاب، ولا يمكن تجويزه مهما كانت الذرائع والمبررات، بل يعلن في كل مناسبة أنه “لا يمكن أن يكون المسلم إرهابيًّا، كما لا يمكن أن يكون الإرهابي مسلمًا”.
لكن يبدو أن هذه الأجواء التي عاشتها تركيا بكل أطيافها لأول مرة في تاريخها الحديث أزعجت كثيرًا تنظيم أرجنكون الذي تسيطر عليه مجموعات “مارقة” تتغذى على صراع الأقطاب المضادة، ولا تريد الخضوع للدستور والقوانين مثل جميع المواطنين الآخرين، وتريد أن تكون تركيا “غرفة صغيرة” منغلقة على ذاتها، لكي تتفرد في حكمها وتحتكرَ مواردها تحت الأرض وفوقها. ذلك لأن بقاءه ودوامه كان منوطًا باستمرار حالة الاستقطاب والانقسام والتشرذم بين فصائل المجتمع المختلفة فكريًّا وعرقيًّا، كما بينَّا في المقالين السابقين. فشرع يبحث عن طرق كفيلة باسترجاع “تركيا القديمة”، وإعادة الدولة إلى “الأقلية” أو “الزمرة الحاكة” التي تمثلت بشكل أساسي في القوميات الأجنبية والفئات المعادية للدين، بعد أن خرجت من أيديها بفضل سياسات أوزال ومندريس من قبله. فقام التنظيم بتحريض زمرة قليلة من العسكريين المتنفذين أوقعهم تحت سيطرته وأخضعهم لإرادته بشكل أو آخر، أو خدعهم وأفزعهم بمجموعة دينية تطلق على نفسها “عجزي مندي”، يقودها شخص يدعى “مسلم كوندوز”، أعضاؤها قليلون جداً لعلهم لم يتجاوزوا ألف شخص في عموم تركيا، تبدو عليهم علامات الجهل والسذاجة بصورة بارزة، ويجذبون الانتباه بأفكارهم المتطرفة وحركاتهم المثيرة وملابسهم الاستفزازية، يتجولون في شوارع العاصمة أنقرة وعلى رؤوسهم عمائم سوداء وفي أيدهيهم عصيّ طويلة. ومع ذلك زعموا انتماءها إلى “حركة النور” التي تنحدر منها حركة الخدمة أيضًا، والتي تميزت كل الحركات المرتبطة بها على مدى تاريخها الطويل بسلميتها واعتدالها في الفكر والسلوك، ورفضها لأي نوع من العنف والكفاح المسلح في الداخل مهما كان حاكم البلد. هدف هذه المجموعة الظاهرة في ثوب ديني كان التمهيد لعسكرة الأجواء وتنفيذ مخطط الانقلاب في نهاية المطاف. بمعنى أن أرجنكون لعب على الوتر الحساس لدى المؤسسة العسكرية التي تعتبر نفسها “حارسة النظام”، وهذه المجموعة الدينية المصنوعة من قبل أرجنكون لعبت الدور الأساسي في إثارة حفيظة الجيش تجاه خطر قدوم “دولة الشريعة” وزوال “النظام العلماني الكمالي”.
وأخيرًا قامت مجموعة أو زمرة عسكرية قليلة من حيث العدد قوية من حيث التأثير والنفوذ، ومعها سند من وسائل الإعلام المؤثرة، وأجنحة أرجنكون الأخرى في كل مؤسسات الدولة والحياة المدنية، بانقلاب عسكري في 28 فبراير/شباط من عام 1997، أي بعد نحو شهرين من برنامج الكاتب الصحفي جان دوندار، المذكور في مقالنا السابق، حول أرجنكون. ولا يمكن نسيان الحملة التحريضية الاستفزيزية التي قادها “دوغو برينتشاك”، زعيم “الحزب الاشتراكي” في ثمانينات القرن الماضي، و”حزب العمال” اليساري في تسعينات القرن المنصرم، و”حزب الوطن” القومي المتطرف حاليًّا، وهو شخصية غامضة عليها كثير من علامات الاستفهام، أرمنية الأصل، (ولا ذنب في ذلك)، برزت بمواقفها المتقلبة المتلونة منذ البداية. خرج برينتشاك مطالبًا بتنفيذ “قوانين الثورة الجمهورية” المطبقة في الظروف الاستثانائية إبان تأسيس الجمهورية التركية، وحرّض الجيش على الانقلاب قائلاً: “دبابات جيشنا الوطني لم يتم شراؤها من أجل الاستعراضات العسكرية في الاحتفالات الرسمية”، وما إلى ذلك من عشرات التصريحات الاستفزازية. ووجه برينتشاك انتقادات لاذعة لسياسيين زعم أن لهم صلة وثيقة بالولايات المتحدة، واتهم طرغوت أوزال بكونه “باني الدكتاتورية القائمة على ثنائية المافيا – الطرق الصوفية”، وتنفيذِ المخططات الأمريكية في تركيا، كما وصم السيدة تانسو تشيلّر، زعيمة حزب الطريق القويم، وشريكة نجم الدين أربكان، زعيم حزب الرفاه، في الحكومة الائتلافية وقتها بـ”العمالة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية”.
وهذه الشخصية الغامضة التي سجنت في 2009 في إطار قضية أرجنكون، ثم خرج من السجن في 2014، بفضل تعديلات قانونية أجرتها حكومة أردوغان في أعقاب بدء تحقيقات الفساد والرشوة أواخر عام 2013 تستحق تسليط الأضواء عليه أكثر؛ نظرًا لأنه لعب دورًا مهمًا في أحداث انقلاب 1997 الناعم وعرف منذ القديم بعدائه الشديد لحركة الخدمة وفتح الله كولن.
من هو دوغو برينتشاك؟
لقد خطف برينتشاك الأضواء على نفسه عبر مواقفه الحساسة في اللحظات الحرجة طيلة تاريخ السياسة التركية. فمع أن نسبة الدعم التي يحصل عليها في الانتخابات ضئيلة جدًا لا تتجاوز 1%، إلا أنه تمتع حتى اليوم بنفوذ قوي في أجهزة الدولة، خاصة في أجهزة الأمن والقضاء والجيش، ولعب أدوارًا حاسمة في تلميع أو تشويه حركات ومجموعات سياسية أو مدنية، بفضل علاقاته “الغامضة” و”المثيرة” مع بؤر القوى الداخلية والخارجية.
وأسّس برينتشاك أربعة أحزاب وترأسها، وهي حزب العمال والفلاحين (1978-1980)، والحزب الاشتراكي (1991-1992)، وحزب العمال (1992–2015)، وحزب الوطن الحالي (15 شباط 2015 – ؟). لم يتبنَّ فكرًا معينًا ثابتًا، وإنما روّج لأي فكر مهما كان، بحسب الظروف واتجاه الرياح؛ فهو كان ماركسيًّا لينينيًّا ماوِيًّا في سبعينات القرن الماضي؛ وداعمًا لليسارية الكردية في الثمانينيات؛ وقوميًّا علمانيًّا متطرفًا بعد التسعينيات! وأصدر برينتشاك صحيفة يسارية علمانية باسم “آيدينليك” (Aydınlık)، وقاد المجموعة التي تكوّنت حول هذه الصحيفة. واللافت للانتباه أنه دعم في تسعينات القرن الماضي حزب العمال الكردستاني الإرهابي، وعمل على تشتيت اليسارية التركية من خلال توظيف اليسارية الكردية. حتى إنه كان يشرف على مجلة (نحو 2000) (2000’e doğru) التي تحولت إلى اللسان المتحدث باسم العمال الكردستاني. وأجرى برينتشاك، الذي كان يمثل اليسارية التركية حينها، لقائين مختلفين مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، الذي كان يمثل اليسارية الكردية، أحدهما في عام 1989، والآخر في عام 1991، والتقطتهما عدسات آلة التصوير وهما يتبادلان الزهور فيما بينهما، في أحد المعسكرات التابعة للعمال الكردستاني، على الرغم من أنهما يظهران اليوم العداء لبعضهما البعض، بل يعتبر أحدهما الآخر نقيضه، حيث يقدم برينتشاك نفسه في الوقت الراهن “قوميًّا وطنيًّا علمانيًّا” يجاهد ضد أوجلان الذي يحاول تقسيم تركيا!
وعُرف برينتشاك بمواقفه المصلحية المتقلبة، ولا يخفي أنه لا يتبني أي دين أو فكر أو توجه إيدولوجي معين؛ إذ يقف اليوم إلى جانب “المعسكر الأوراسي” بقيادة روسيا والصين، لكنه كان يدافع قبل ذلك عن “المعسكر الغربي” بقيادة أمريكا وبريطانيا أو حلف شمال الأطلسي الناتو ويصف الاتحاد السوفيتي بـ”الأمبريالي”؛ ويعلي اليوم من شأن “القومية التركية الطورانية”، غير أنه كان يصف تركيا من قبلُ بـ”الدولة المحتلة” لجزيرة قبرص، ويعترف بمزاعم الإبادة الأرمنية على يد الدولة العثمانية.
ومن المثير للانتباه أن محمد أيمور؛ رئيس شعبة مكافحة الإرهاب في جهاز المخابرات التركي سابقاً يصف برينتشاك بـ(fabricator)، أي المحترف في اختلاق أحداثٍ من أجل إثارة البلبلة والفوضى في البلاد؛ في حين يتهمه “هرم عباس”، نائب رئيس المخابرات الأسبق بـ”العمالة لدولة أجنبية”، ويشرح مهمته في كتابه بعنوان “التحليل” (Analiz) بقوله: “تنفيذ عمليات التصفية باستخدام طرقٍ وأساليبَ شتى ضد العناصر المستهدَفة التي تشكّل عائقاً أمام تحقُّق مصالح الدولة الأجنبية التي تعمل لصالحها، والسعي للحيلولة دون تطورِ وتقدُّم تركيا، ومنعها من اتباع سياسة وطنية مستقلة بعيداً عن مصالح تلك الدولة الأجنبية، وذلك من خلال تنظيم أنشطةٍ وفعاليات تقود البلاد إلى حالة عدم الاستقرار المتواصلة”.
ومن الجدير بالذكر أن هرم عباس كان يقود مشروع “إضفاء الطابع المدني على المخابرات التركية” بأمر من طرغوت أوزال، وقضى نحبه إثر عملية اغتيال تعرض لها أثناء ذهابه لعمله في 26 سبتمبر/أيلول 1990 وتبناها تنظيم “اليسارية الثورية”. وهذه الحادثة أصبحت موضوعًا للمسلسل التركي الشهير “وادي الذئاب” في مشهد يتعرض رئيس شعبة استخباراتية لقبه في المسلسل “أسلان آكبك”، واسمه الحقيقي في المسلسل “عباس أوسطا أوغلو” لعملية اغتيال على يد شخصية غامضة تدعى “بالا” في المسلسل وتضع على عينيها دائمًا نظارة سوداء. وكان “رجائي شاشماز”، معد مسلسل “وادئ الذئاب” أجاب على سؤال “هل تعتزمون تصوير مسلسل عن تنظيم أرجنكون؟” عقب بدء عمليات أرجنكون في 2007 قائلاً: “لا داعي لذلك! فإني قد كشفتُ الغطاء عنه قبل 10 سنوات من خلال مسلسل وادي الذئاب”.
أظن أن هذا القدر من المعلومات يكفي للكشف عن حقيقة هذه الشخصية الغامضة (دوغو برينتشاك) التي لعبت الدور المحوري في وتيرة انقلاب 1997 العسكري الذي أطاح بحكومة أربكان وتشيلّر، وسنتطرق إلى دوره الحالي بعد عقده تحالفًا إستراتيجيًّا مع الرئيس أردوغان في المقالات اللاحقة.
سمي انقلاب 1977 في تركيا “انقلاب ما بعد الحداثة”، الذي استهدف الحكومة الائتلافية (يوليو/حزيران 1996 – يوليو/حزيران 1997) بين أربكان وتشيلّر، من أجل إعادة تصميم السياسية والمجتمع معًا، بذريعة “مكافحة الرجعية” و”الحفاظ على مبادئ أتاتورك الكمالية”، التي كانت الورقة الرابحة في جميع الانقلابات الثلاثة السابقة أيضًا. لكن الفريق الانقلابي في المؤسسة العسكرية المرتبط بتنظيم أرجنكون قام بإجراء انقلاب “محدود” أو “ناعم” فقط انتهى بإسقاط الحكومة، وطردِ عدد كبير من الموظفين في جهاز الأمن والمؤسسة العسكرية بصفة خاصة بحجة “الرجعية الدينية” أو “الانتماء إلى حركة الخدمة”. ومع أن الموظفين العموميين المفصولين من وظائفهم، نتيجة تحريض أرجنكون القوى الفاعلة في الدولة، كانوا ينحدرون من الفئات والعائلات المتدينة والمحافظة خاصة، والأحزاب اليمينية عامة، وينتمون إلى أفكار ومجموعات مختلفة جدًا، لكن التنظيم كان يضع جميعهم تحت سلّة واحدة “الرجعيون الدينيون” أو “المنتمون إلى حركة الخدمة” لتبرير حركة التصفية. ولم يتوقف أرجنكون عند تصنيف موظفين عموميين حسب توجهاتهم الفكرية والدينية من أجل وصمهم وطردهم فقط، وإنما سعى إلى منع المفصولين من الحصول على وظائف في حياتهم المدنية أيضًا!
وينبّه الباحثون ممن كتبوا في هذا الموضوع إلى أن الانقلاب استهدف السلطة الشرعية أو الحكومة المنتخبة في الظاهر، غير أن المجتمع المدني بكل أطيافه كان تضرر أكثر من الحكومة التي خضعت للضغوطات العسكرية ووافقت على تطبيق ما سمي حينها “قوانين مكافحة الرجعية الدينية”.
حرب نفسية وضغوط رهيبة
لكن الذي ميّز هذا الانقلاب عن نظيراته الثلاثة السابقة أنه لم يكن انقلابًا عسكريًّا تقليديًّا استُخدمت فيه الأسلحة والدبابات بصورة أساسية، وإنما تمثل في ممارسة “حرب نفسية” و”ضغوط” على الحكومة لإخضاعها لإرادة وخطة تنظيم أرجنكون، وإنشاء مناخ ترويعي في المجتمع، حتى يتمكن المجلس العسكري الانقلابي من تنفيذ مشروعه المعد لألف سنة قادمة، بحسب تعبير المجلس. وهذا الفارِق جعل الرأي العام والباحثين أن يطلقوا على هذا الانقلاب مسميات: “الانقلاب الأبيض” و“الانقلاب الناعم” و“انقلاب ما بعد الحداثة”، وتستمرَّ الأجواء السلبية التي خلقتها حتى إلى يومنا هذا.
وعلى الرغم من استقالة حكومة نجم الدين أربكان في يونيو/حزيران 1997 رضوخًا لضغوط المؤسسة العسكرية المحرَّضة من قبل أرجنكون بحجة انتشار “الرجعية الدينية” في البلاد، ومن ثم تأسيس زعيم “حزب الوطن الأم” اليميني “مسعود يلماظ” حكومة ائتلافية مع كل من حزبي “اليسار الديمقراطي” و”تركيا الديمقراطية”، إلا أن ضغوط التنظيم على الجيش والحكومة والمجتمع لم تنقطع أبدًا، بل امتدت لسنوات طويلة ولم يسلم منها حتى زعيم “حزب اليسار الديمقراطي” بولنت أجاويد الذي شغل منصب رئيس الوزراء من عام 1999 حتى عام 2002، وذلك على الرغم من علمانيته ويساريته الصارمة المعروفة لدى الجميع، ما يعني أن همّ أرجنكون لم يكن منصبًّا على الحفاظ على علمانية الدولة أو إرث أتاتورك كما زعم، بل كان شغله الشاغل إعادة الدولة إلى “الأقليات”، ليس حبًّا فيهم، وإنما استغلالاً لهم، لسهولة السيطرة عليهم، لقلتهم وحاجتهم إلى قوة تحميهم أو مظلة تحتضنهم تجاه الأغلبية، سواء علموا بذلك أم لم يعلموا.
أرجنكون يتهم كولن بالسعي لتأسيس دولة الشريعة
نشر إعلام أرجنكون حينها مقاطع فيديو في يوليو/حزيران 1999 تتضمن مقتطفات من الدروس التي ألقاها فتح الله كولن في أوقات ومناسبات مختلفة، وأخرجها عن سياقها ليتسنى له اتهام حركة الخدمة بـ”الرجعية الدينة” ومحاولة تقويض “العلمانية”. وانطلاقًا من ذلك بدأ ينشر في جميع الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة التابعة له أخبارًا تخدم مزاعم اختراق حركة الخدمة لمؤسسات الدولة عبر الطلبة الذين تخرجوا في مؤسساتها التعليمية، ومن ثم حصلوا على وظائف عامة في أجهزة الدولة. وكان كولن ينصح في هذا الدرس لمحبيه من الموظفين العموميين بأن يلتزموا الحيطة والحذر لكي لا يُشعروا أنفسهم على “البؤر المظلمة” التي تسترت في “أعماق الدولة” ولا تستسيغ وجود “أي شخص له أدنى صلة بالإسلام” في المؤسسات الرسمية. إلا أن وسائل الإعلام الموجهة من قبل أرجنكون كانت أثارت زوبعة في الفنجان، واستغلت نصيحة كولن هذه في الاستشهاد على اختراق أجهزة الدولة من قبل حركة الخدمة، وواصل نشر هذا النوع من الأخبار على مدار 3 أو 4 سنوات متتالية دون انقطاع، من أجل تشويه سمعة المؤسسات التعليمية التابعة للحركة وإقناع نخب تركيا بذلك، خاصة الفئات العلمانية. لكن هذه الحملات أثمرت نتائج عكسية، حيث لم تستطع تغيير نظرة نخب تركيا والمثقفين من كل الاتجاهات الفكرية إلى مؤسسات الخدمة بل عملت على زيادة اهتمامهم بها وإقبالهم عليها.
وأفضل مثال على ذلك أن الكاتب الصحفي الراحل توكتاميش آتيش الذي لم يكن يشكّ في علمانيته أحد في تركيا كان من الذين خرجوا معترضين على اتهامات أرجنكون أو باسمه المعروف آنذاك الدولة العميقة، وأكدوا أن هذه النصيحة إن دلت على شيء فإنها تدل على مدى الضغط الذي كان يُمارَس على “الفئات المتدينة” أو المحافظين الملتزمين بمتطلبات دينهم وأخلاقهم، وأشاروا في الوقت ذاته إلى إعلان ويزر العدل الأسبق من حزب الشعب الجمهوري “محمد موغلتاي” (1994 – 1995) على الشاشة التلفزيونية أنه قام بفصل أكثر من 5 آلاف شخص “متدين” من شتى المؤسسات والهيئات الرسمية، بينهم متعاطفون مع حزب الرفاه وحركة الخدمة والجماعات الإسلامية الأخرى، ووظّف مكانهم ممّن ينتمون إلى فكرهم العلماني اليساري المتطرف و”الطائفة العلوية” على وجه الخصوص. وفي هذا السياق، وجه كولن المتعاطفين معه بصفة خاصة، والمتدينين بصفة عامة، بأن يتجنبوا إظهار هوياتهم الدينية في المؤسسات الرسمية على نحوٍ يثير حفيظة الأطراف العلمانية الصارمة حتى لا يتعرضوا للنفي أو الطرد من الوظيفة.
“شرذمة قليلة أجنبية اخترقت الدولة وليست الخدمة”
وفي إطار رده على مزاعم اختراق أفراد حركة الخدمة لمؤسسات الدولة، قال فتح الله كولن بأن تشجيع أي إنسان لأفراد شعبه على دخول بعض مؤسسات بلاده في إطار القانون لا يمكن تسميته بـ”الاختراق”، حيث إن المشجَّعين على دخول هذه المؤسسات هم أفراد الشعب التركي، ومواطنو الدولة التركية، والمؤسسات هي مؤسسات هذا الشعب وهذه الدولة. ومن ثم لفت إلى نقطة مهمة بقوله: “إن الاختراق الحقيقي في تركيا جرى فعلاً في فترة معينة على أيدي شرذمة قليلين مِمَّن ليسوا من الأمة التركية. فالذين يتهمون اليوم أبناء الأمة التركية باختراق دولتهم ربما يسعوْن للتستر على اختراقهم الحقيقي للدولة التركية. ولعل قلقهم نابع من أن أبناء هذه الأمة لاحظوا اختراق هذه المجموعات الأجنبية لمؤسسات دولتهم. فالأتراك لا يخترقون مؤسسات دولتهم، بل الدخول إليها والتوظيف فيها حق قانوني ومشروع لهم، فهم يستطيعون أن يدخلوا إلى السلك السياسي والقضائي والجيش والاستخبارات والخارجية في إطار القوانين واللوائح الخاصة بتلك المؤسسات الرسمية دون أي مانع”.
ونفهم من التصريحات الأخرى لكولن أنه لا ينفي حقوق الأقليات في تركيا أبدًا، ولا يرى بأسًا في توظيف الأجانب أيا كانت أصولهم، في مؤسسات الدولة بشروط، بل هو الذي التقى ممثلي القوميات والطوائف والأديان السماوية في تركيا والعالم، ومن ثم قاد الحركة التي تدعو إلى الحوار والتعايش السلمي بينهم، وإنما هو يعترض على عمل بعضٍ من هذه الأقليات لصالح الدولة التي تنتمي إليها “عرقيًّا” أو “فكريًّا” على نحو يخالف مصالح الشعب التركي والدولة التركية.
أجاويد “اليساري” يقاوم العسكر ويدافع عن كولن
وعلى الرغم من ضغوط أرجنكون والإعلام المتعاون معه على الأستاذ كولن، ومطالبتهم بإغلاق مؤسسات حركة الخدمة التعليمية في الداخل والخارج، خاصة في الجمهوريات التركية المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي، أو تسليمها إلى الدولة، وفتْح المدعي العام تحقيقًا في تصريحاته المذكورة، إلا أن رئيس الحكومة بولنت أجاويد تدخَّل في الأزمة ودعا إلى معالجة الأمر بهدوء، بدلا من فتح الموضوع للنقاش على المحطات التلفزيونية والجرائد، كما دافع عن كولن ومؤسسات الخدمة التعليمية بقوله: “مدارس الخدمة تنشر الثقافة التركية حول العالم، وتعرِّف تركيا بالعالم. هذه المدارس تخضع لإشراف متواصل من السلطات المعنية”.
الانقلابيون يحرضون أوزبكستان على حركة الخدمة
وكان تنظيم أرجنكون المعترض على أدنى مظهر من مظاهر الدين في القطاعين الخاص والعام، والذي كان يسعى لتوجيه الحكومات من وراء الستار بالتهديدات أو الوعود، حرض حكومة أوزبكستان ضد حركة الخدمة من أجل تضييق الخناق عليها هناك وجميع دول وسط آسيا، مدعيًا أن هذه الحركة كما أنها اخترقت مؤسسات الدولة في تركيا من أجل تحويل النظام القائم من “العلماني” إلى “الإسلامي”، كذلك تقوم بحركة الاختراق ذاتها في جميع الجمهوريات التركية المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي الروسي. غير أن أيًا من تلك الجمهوريات لم تُعِر بالاً لهذه المزاعم سوى دولة أوزبكستان، وعندها تدخل رئيس الحكومة أجاويد أيضًا وقال: “الرئيس الأوزبكستاني لديه مخاوف غير مبررة تتعلق بتركيا. تركيا لا تتدخل في الشؤون الداخلية لأوزبكستان. لا يمكن أن نسمح بالإساءة إلى العلاقات بين البلدين بسبب مخاوف غير ضرورية”. لكن أوزبكستان لم تقتنع بما قال أجاويد وقررت إغلاق المدارس التابعة لحركة الخدمة، وجميع المؤسسات التركية الأخرى عقب اندلاع أزمة بين الطرفين بسبب المزاعم الواردة حول تورط أحد الأتراك في محاولة اغتيال استهدفت الرئيس الأوزبكي آنذاك إسلام كريموف.
وقد تزايدت ضغوطات أرجنكون وتَواصل تحريضها للجيش على كولن لدرجة أن الأخير أعلن استعداده لتقديم توصية لمن يشرفون على المدارس والجامعات المفتوحة بتشجيع منه في داخل تركيا وخارجها ليسلموها للدولة ويضمّوها إلى المدارس الرسمية، شريطة الحفاظ على مستوى التعليم العالي المقدم فيها، تفاديًا لمشاكل أكبر وتحوُّل وتيرة الانقلاب الناعم إلى انقلاب عسكري دموي يعود بالبلاد إلى سنوات مظلمة عاشتها تركيا سابقًا.
كولن يغادر إلى أمريكا للمعالجة وتهدئة الأوضاع في تركيا
وفي ظل هذه الأجواء الخانقة، ونظرًا لتلقيه دعوة من زملاءه المقيمين في الولايات المتحدة بمعالجة مرضه المتفاقم يومًا بعد يوم، اتخذ كولن قراراً بمغادرة تركيا إلى أمريكا عام 1999، الأمر الذي لعب دورًا في تهدئة الأوضاع في تركيا إلى حدٍّ معين. لكن السلطات التركية، بتحريض وتشجيع من أرجنكون، فتحت دعوى بحقه في 22 أغسطس/آب 2000 بتهمة “تشكيل منظمة إرهابية غير مسلحة”، و”التحريض على هدم الدولة العلمانية لتأسيس دولة الشريعة”.
غير أن أرجنكون لم يستطع إقناع نخب تركيا من كل الاتجاهات الفكرية بإرهابية حركة الخدمة ومؤسساتها التعليمية، بل استمر دعمهم لها رغم حملات الحرب الإعلامية الهائلة الرامية إلى تشويه صورة تلك المؤسسات التعليمية. إذ كانت هناك مشكلة جذرية استمرت سنوات – ولا تزال – ألا وهي العجز عن إلصاق “الرجعية” و”العنف” و”الإرهاب” بحركة الخدمة، تمهيدًا لإعلانها حركة إجرامية وإرهابية، وتوظيف هذه التهمة في إجراء حركة تصفية شاملة تستهدف الكوادر التي تلتقي في القاسم المشترك “الديمقراطية” و”الوطنية”، وتُعارِض تدخُّل كيانات غير قانونية، مثل أرجنكون، في العملية السياسية بالبلاد. ذلك لأن الخدمة عُرفت منذ نشأتها الأولى بتركيزها على العلم والمعرفة والأخلاق والمبادئ الإنسانية العالمية من خلال فتح معاهد التحضير الجامعي والمدارس والجامعات الخاصة في تركيا وكل أنحاء العالم، والتزامها الصارم بمبدإ السلم والحوار، ونبذ العنف بكل أشكاله، مهما كانت الذرائع أو المبررات، وانفتاحها على “الآخر” في الداخل والخارج. لذلك قضت المحكمة بعد 8 سنوات من هذه التهمة بتبرئة ساحته، ثم وافقت المحكمة العليا على القرار باتفاق آراء أعضاءها.
الانقلابيون يعاقبون أجاويد لدعمه كولن
لم يغفر أرجنكون لبولنت أجاويد، الذي شغل منصب رئيس الوزراء من 11 يناير/كانون الثاني 1999 حتى 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2002، دفاعه المستميت عن كولن مثل طرغوت أوزال سابقًا، على الرغم من علمانيته ويساريته الصارمة. وهذا لأن أجاويد كان يؤمن بمعقولية ونافعية أفكار كولن وأنشطته لتركيا والعالم والإنسانية جمعاء، كما بين ذلك في عديد من تصريحاته الصحفية ولقاءاته التلفزيونية. إذ تبين من خلال تحقيقات أرجنكون التي انطلقت عام 2007 في ظل حكومة أردوغان ولا تزال مستمرة حتى اليوم، أنه، أي أرجنكون، أحاط أجاويد برجاله، وعمل على تدهور حالته الصحية من خلال الأدوية التي قدمها له أطباؤه. فقد ورد بين الاتهامات الموجهة إلى “محمد خبرال”، عميد مستشفى جامعة “باشكنت” في العاصمة أنقرة، في إطار قضية أرجنكون، منع معالجة أجاويد، عندما تلقى علاجًا في هذا المستشفى.
وهذا ما أكده رئيس حرس أجاويد الشخصي “رجائي بيرجون” الذي أصبح عضوًا برلمانيًّا فيما بعد. فقد قال عندما أدلى بإفادته كشاهدٍ في إطار قضية أرجنكون في 21 مايو/أيار 2012: “وإذا نظرنا إلى الأحداث التي عاشتها تركيا في تلك الفترة من تقسيم حزب أجاويد إلى قسمين وغير ذلك، بالاستفادة من مرضه، فإن ما تعرض له أجاويد كان شبيهًا بانقلاب 1997 الناعم”. وأضاف: “لقد مكث أجاويد في المستشفى (مستشفى جامعة باشكنت المذكور) عشرة أيام. وأكد مسؤولو المستشفى ضرورة بقاءه تحت الرقابة في المستشفى لمدة 8 أشهر، وإلا قد يؤدي مرضه إلى شلل كلي أو الموت. غير أننا قررنا نقل أجاويد إلى منزله رغم كل شيء، فبدأت عندها تتحسن حالته الصحية. إن هذا الكيان (أرجنكون) كان يريد الحصول على تقرير من إدارة مستشفى يفيد بعدم صلاحية أجاويد لرئاسة الوزراء في ظل ظروفه الصحية لإسقاط حكومته”.
اتخذ أجاويد أخيرًا تحت وطأة الضغوط السياسية والعسكرية قرارًا بتقديم موعد الانتخابات النيابية لتجرى في نوفمبر/تشرين الثاني 2002 وينهزم حزبه “اليسار الديمقراطي” أمام حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، ويعتزل الحياة السياسية حتى وافته المنية في 2006.
وإذا نظرنا إلى التصريحات التي أدلى بها “دورسون تيتشاك”، رئيس دائرة “الحرب النفسية” في الجيش سابقًا، وأحد المتهمين في إطار قضية أرجنكون، لصحيفة “حريت” في شهر مارس/آذار من عام 2016، فإنه من السهولة بمكان أن ننتهي إلى أن الهدف الحقيقي من وتيرة انقلاب 1997 الناعم (اعتبارًا من إسقاط حكومة أربكان في 1997 حتى تأسيس حكومة أردوغان في 2002) كان حركة الخدمة. إذ قال دورسون تيتشاك في حواره مع تلك الصحيفة بالحرف الواحد: “الهدف الأساسي من انقلاب 28 فبراير/شباط 1997 كان الرجعيةَ المقصود بها حركة الخدمة 80%!”، على حد قوله.
وما كتبه دوغو برينتشاك في صحيفة “آيدينليك” في 25 يناير/كانون الثاني 2017 يساند ما قاله الجنرال تيتشاك: “وتيرة انقلاب 1997 استهدفت تحالف تنظيم فتح الله كولن وحكومة تيشلّر (الائتلافية مع أربكان).. تشخيص خطورة هذا التنظيم للجمهورية التركية لعب دورًا مهمًّا في وتيرة 28 فبراير/شباط (الانقلابية)”. وأعاد برينتشاك للأذهان المقولة الشهيرة للجنرال “حسين كيفريك أوغلو” الذي تسلم منصب رئاسة الأركان العامة عقب الانقلاب: “وتيرة 28 فبراير/شباط (الانقلابية) ستستمر ألف عام”، ثم أردف قائلاً: “كان مجلس الأمن القومي الذي عقد في 23 يونيو/حزيران 1999 طالب حكومة أجاويد بتطبيق القرارات الإستراتيجية الخاصة بمكافحة الرجعية الدينية من دون أي تنازل وهوادة، كما أشار على وجه الخصوص إلى مكافحة تنظيم فتح الله كولن”.
لكن يرى محللون قريبون من حركة الخدمة أن هدف هذا الانقلاب كان تصفية الكوادر “الوطنية الديمقراطية” بالدرجة الأولى بذريعة مكافحة حركة الخدمة، والجنرال تيتشاك يبرر الانقلاب بمكافحة “الرجعية”، ويختزل الرجعية في “حركة الخدمة” إجمالاً، ويغلّف هدف القضاء على البيروقراطية الوطنية الديمقراطية المعارضة لتنظيم أرجنكون وكل العصابات المارقة المندرجة تحته بالقضاء على الخدمة فقط، مستشهدين على ذلك بأن نتائج هذا الانقلاب أثرت على كل البيروقراطيين الذين جمعهم القاسم المشترك “الوطنية والديمقراطية” من المتدينين والعلمانيين واليساريين ولم تقتصر على المتعاطفين مع الخدمة فقط.
جسم أرجنكون بدأ يظهر بلحمه وعظمه
من الممكن أن نقول إن أمر تنظيم أرجنكون كان معلومًا منذ القديم لدى عدد محدود ممّن حكموا تركيا من المسؤولين كطورغوت أوزال وبولنت أجاويد، وحاولوا تصفيته بصورة تدريجية، إلا أنه لم يسعفهم عمرهم أو عمر حكوماتهم. وعلى الرغم من أن برنامج جان دوندار الذي تحدثنا عنه في مقالنا السابق كشف الغطاء عن هذا التنظيم للرأي العام بنسبة معينة، إلا أنه كان مجهولاً بالنسبة للجماهير العريضة. لكن جسم هذا التنظيم بدأ يظهر رويدًا رويدًا للشعب التركي بلحمه وعظامه اعتباراً من عام 2001. فقد نشر الكاتب الصحفي المخضرم “فهمي كورو” مقالا بصحيفة “يني شفق” المعروفة بتوجهاتها الإسلامية في 30 إبريل/نيسان و1 مايو/أيار 2001 تحدث فيه عن حصوله على وثيقة مؤلفة من 24 صفحة تحت مسمى: “أرجنكون: مشروع التحليل وإعادة الهيكلة والإدارة والتطوير”. كانت الوثيقة تحمل تاريخ 29 أكتوبر/تشرين الأول 1999، وتتحدث عن وحدة سرية تحت اسم أرجنكون وإعادة تشكيلها وتنظيمها، وتحدِّد هدفها قائلة: “هدف هذا العمل الإسهام في إعادة تنظيم أرجنكون الذي تم تشكيله وفق المبادئ الأتاتوركية ويعمل ضمن القوات المسلحة؛ الحامية المخلصة الوحيدة للكمالية”.
أعنف رد فعل على ما كتبه فهمي كورو صدر من صحيفة “آيدينليك” التابعة لحزب العمال الذي تغير اسمه فيما بعد إلى حزب الوطن بقيادة دوغو برينتشاك. لقد احتج الكاتب “حكمت تيتشاك” في مقال نشرته آيدينليك في 6 مايو/أيار 2001 على فهمي كورو زاعمًا أن: “وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية سي آي إيه وحلف شمال الأطلسي “الناتو” وقادة المخابرات الوطنية التركية تقوم بعملية تشويه في كل المجالات، وتختلق ملفات وتقارير في إطار حرب نفسية تستهدف الجيش التركي، وما يحاك من قصص حول ما يسمى بتنظيم أرجنكون ليس إلا جزء من هذه المؤامرة”. ولا يخفى على أحد محاولة الكاتب إخفاء هذا التنظيم من خلال نظريات المؤامرة الخارجية أو أسطورة العدو، وتصوير المخابرات التركية من الأطراف الرامية إلى تلطيخ سمعة الجيش التركي.
وفي معرض رده على صحيفة آيدينليك، كتب فهمي كورو مقالاً جديدًا عن أرجنكون في مطلع مايو/أيار 2001 قال فيه: “اضطررت إلى الرد على التساؤلات الواردة حول أرجنكون. فالبعض ظنّ انطلاقًا مما كتبت أنه تنظيم تشكّل لأغراض مالية أو اقتصادية، في حين أن البعض الآخر ظنّ وجود صلة بينه وبين حزب الحركة القومية. أما الحقيقة فإن أرجنكون الذي ’تم إعداد تقرير يطالب بإعادة تأسيسه مجددًا‘ تنظيم كبير معقّد للغاية ولا يرتبط بحزب بعينه، ويهدف إلى إعادة هيكلة الدولة. لستُ أنا من ابتدع أرجنكون! الأمر معلوم لأربابه، فقد كان هناك تنظيم قوي يحمل الاسم نفسه داخل الدولة سابقًا. فالعسكري المنفصل من القوات البحرية أرول مترجملر نوّه بأنه اطلع على وجود هذا التنظيم لأول مرة عام 1980. كما أن الكاتب الصحفي جان دوندار سبق أن كتب بالتعاون مع الكاتب جلال كازداغلي كتابًا بعنوان ’أرجنكون: دولة داخل الدولة‘ بالاستناد إلى الوثائق”.
وبعد 11 يومًا من مقال فهمي كورو اختارت مجلة “أكسيون” الإخبارية الأسبوعية وثيقة أرجنكون المذكورة موضوع الغلاف. فقد أكدت المجلة في خبرها التحليلي الذي نشرته في 12 مايو/أيار 2001 وحمل عنوان “أرجنكون المدني” وتوقيع الكاتب الصحفي “هارون أوداباشي” أن تنظيم أرجنكون هو “صانع وتيرة انقلاب 1997 الناعم”. وقال الكاتب في خبره التحليلي: “هناك عديد من نقاط مظلمة يجب تسليط الأضواء عليها، وأسئلة لا بد من طرحها في مسألة أرجنكون. لا شكّ في أن هناك تنظيمًا تمتد أذرعه إلى كثير من الأماكن في داخل تركيا وخارجها. لكن ما هي الدوافع التي تحرّك هذا الكيان؟ فمثلاً لصالح من يعمل أو يحفظ مصالح أي جهة هؤلاء الأشخاص الذين ينفذون ما يسمونه ’عمليات وطنية‘.. العمليات التي لا ترِد في القوانين المعمول بها في بلادنا؟ هل هو كما يُزعم جزء من حلف شمال الأطلسي الناتو أو أي كيان آخر جذوره في الخارج أم هو كيان محلي تمامًا قومي أو يساري أو كماليّ؟ ما هي مقاصده الأساسية وما هي إستراتيجياته ومن هم أعضاؤه وأعداؤهم؟ وما هي العمليات التي نفذها حتى اليوم؟ وما هو وضعه الأخير؟ وما إلى ذلك من الأسئلة الأخرى التي تطول؟”.
وأوضح هارون أوداباشي أن الذي يضفي على أرجنكون أهمية هو العمليات التي قام بها في الداخل التركي، وأضاف قائلاً: “أرجنكون يؤمن إيمانًا جازمًا من صميم قلبه أنه حارس النظام الحالي في تركيا. وإذا ما اقترن هذا الإيمان بالقوة والسلاح فإنه يستطيع أن يفعل كل شيء من أجل القضاء على من أعلنه “الأعداء الداخليين”، بما فيه التصنيف والإقصاء والقتل.. نصب المكائد وحياكة المؤامرات والافتراء والاغتيالات.. فبحسب وجهة نظرهم إذا كان الهدف مشروعًا فليس من المهم أن تكون الأداة أو الوسيلة الموصلة إليه مشروعًا وقانونيًّا أم لا. فمثلاً لا يرى بأسًا في تشكيل تنظيمات إسلامية مزيفة قانونية أو غير قانونية، يوظف التنظيمات الإسلامية القانونية منها في أحداث شغب وفوضى في الشوارع، ويستخدم التنظيمات الإسلامية غير القانونية منها في بعض العمليات السرية. والنقطة الجوهرية هنا هي: من هم الأشخاص أو الأطراف الذين سيعلنهم أرجنكون أعداءً وما هي المعايير التي سيعتمد عليها في تحديد هؤلاء الأعداء”.
وواصل هارون أوداباشي قائلاً: “زعم البعض أن تركيا ستشهد عملية تصفية أرجنكون على غرار ما تعرض نظيره غلاديو للتصفية في إيطاليا، نظرًا لأن حلف الناتو لم يعد يحتاح إلى مثل هذا التنظيم. بعض هذه المزاعم كانت صحيحة، إلا أنها أغفلت أن أرجنكون سسيقاوم التصفية ولن يرضى بالحلّ والتفكك وفقْد القوة والدينامية اللتين حصل عيلهما في الفترات السابقة. أرجنكون كان يريد البقاء في الحياة والحفاظ على وجوده، وكان في حاجة إلى دورة حياة جديدة أو عدو جديد يوجب بقاءه واستمراره عوضًا عن الشيوعية والأفكار اليسارية المنتهي رصيدهما في تركيا. وقد وجد أو صنع هذا العدو الجديد الذي سيستمد شرعيته منه ألا وهو: التيارات الإسلامية الرافضة للفكرة الكمالية”.
الدولة العميقة تقدم نفسها في صورة مدنية
ولفت خبر أوداباشي إلى أن تنظيم أرجنكون يضمّ تحت مظلته عسكريين وموظفين عموميين وصناعيين ومنظمات مجتمع مدني وشركات أمن ونقل وجمعيات وأوقافًا وإعلاميين، وشرع في عملية إعادة هيكلته في 1999 بالاستناد إلى تجاربه السابقة، وأكد أن التنظيم سيظهر في العهد الجديد بصورته المدنية بدلاً من صورته العسكرية القديمة، وأنه سيركز على كسب قوة اقتصادية، وسيعيد صياغة الفكرة الكمالية العلمانية إزاء العدو الجديد “التيارات الإسلامية” ليتخذ من ذلك سندًا وذريعة لإعادة السياسة والمجتمع وفق أهدافه.
ومن ثم صدر أول تقرير رسمي عن تنظيم أرجنكون من المخابرات التركية في عام 2002. وبحسب ما أعلنته المخابرات فإنها علمت بوجود أرجنكون لأول مرة من خلال بلاغ تلقته في 3 يوليو/ تموز 2002. فقد بعث شخص يعرِّف نفسه بأنه “شرطي” رسالة مكونة من صفحتين، و 5 أقراص صلبة إلى المخابرات يتحدث فيها عن أرجنكون، ويشير إلى أنه تنظيم سري يعمل ضمن القوات المسلحة. وتقول المخابرت في تقريرها بأنها قامت بتحويل هذه المعلومات إلى كتيّب وأرسلته أولاً إلى رئاسة هيئة الأركان العامة في 10 تموز/يوليو 2003، ثم إلى رئاسة الوزراء في 19 نوفمبر 2003؛ نظرًا لأنه تشكل لديها انطباع وقناعة بأن هذه المعلومات تزيح الستار عن مجموعة داخل القوات المسلحة شكلت تنظيمًا يستهدف الدولة/النظام ويتحرك وفق أهداف تلك المجموعة، وأنها تلقّت هذه المعلومات من مصادر وقنوات متعددة ومختلفة، وفق عبارتها.
وكما يلاحظ مما سبق، فإن الاتهامات التي تسوقها اليوم السلطة السياسية المدنية بقيادة أردوغان ضد حركة الخدمة هي نفس الاتهامات التي كانت يسوقها ضدها قديمًا تنظيم أرجنكون أو “الزمرة الحاكمة الأجنبية” في أساسها، والمتمركزة في المؤسسة العسكرية في جملتها. ولا فرق بين تلك القديمة وهذه الحديثة إلا في المسميات والمصطلحات، كالرجعية قديمًا والكيان الموازي حديثًا، بل نرى أن أردوغان نفذ مخططات تلك الزمرة فعلاً عندما أعلن حركة الخدمة إرهابية وأغلق كل مؤسساتها في تركيا وعدد من بعض الدول الأفريقية والعربية. ولذلك ليس من المستغرب أن يقول دوغو برينتشاك: “إن تركيا عادت إلى برنامج وتيرة انقلاب 1997 بعد تعرضه للانقطاع، وذلك بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016”. وهو يشير بكلمته “بعد محاولة الانقلاب الفاشلة” إلى حركة التصفية الشاملة التي انطلقت في صفوف العسكر والأمن والقضاء وكل فصائل الحياة المدنية، والتي أكد برينتشاك أنهم من أعدوا قائمة الأسماء الواجبة تصفيتهم على مرأى ومسمع من الجميع.
ومن اللافت أن “أحمد دونماز”، الكاتب الصحفي المخضرم في موقع “TR724” الإخباري، يعيد جذور الجهود الرامية إلى إعلان حركة الخدمة تنظيمًا مسلحًا إرهابيًّا، من خلال تدبير انقلاب محكوم عليه بالفشل وإلصاق الجريمة بالخدمة في 2016، للحصول على ذريعة تصفية الكوادر الوطنية الديمقراطية بحجة مكافحة الخدمة، إلى أيام انقلاب 1997 الناعم.
ويلفت أمره أوسلو، الخبير الأمني والكاتب الصحفي، الذي كان يكتب في جريدة “طرف” الليبرالية قبل إغلاقها، الانتباه إلى أن انقلاب 1997 كان يخطط للقضاء على “الفئة المتدينة والمحافظة” التي فتح الراحل طرغوت أوزال أبواب الدولة ومؤسساتها لها خلال فترة شغله منصبي رئيسي الوزراء والجمهورية، بحجة مكافحة “الرجعية” التي تمثلت بنسبة 80% في حركة الخدمة ، بحسب تعبير رئيس دائرة الحرب النفسية.
يتبع..