بقلم: محمد عبيد الله
برلين (زمان التركية) – “تركيا بدولتها ومجتمعها المدني في طريقها لتكون قوةً ناعمة ومركزَ ثقل ولاعبًا عالميًا، فلا داعي لأي مغامرة غير محسوبة العواقب”.
“الصراع هو ما ينتظره ويخطط له المنزعجون من استقرار تركيا في الداخل وصعودها في الخارج”.
“سفينة مافي مرمرة كانت “طعمًا” لوقف صعود تركيا، لم تتفطن له -للأسف الشديد- حكومة أردوغان”.
“لا داعي في هذا التوقيت الحساس للمخاطرة والانفعال وركوب موجات الآخرين على الرغم من كل ما حصل مع إسرائيل. فالصراع / الحرب لن يوقف صعود تركيا وحسب، وإنما سنضطر إلى التخلي عن مشروع الديمقراطية والسياسة المدنية، وعندها سيخسر الجميع عدا تجار السلاح والمتعطشين للدماء”.
نصيحة لم يأخذ بها أردوغان
“لن تستطيع تركيا أبدًا تحقيق مشاريعها الديمقراطية والاقتصادية إذا ما صرفت طاقاتها في سبيل التوترات والصراعات الإقليمية.. حذار حذار! فإن بعض الجهات تخطط للدفع بتركيا إلى الخارج وخنقها في الداخل لإعادة تصميم البيت الداخلي”.
“لن يتحدث أحد عن الديمقراطية والسياسة / الحياة المدنية، إذا ما قرعت طبول الحرب وارتفعت نداءاتها، وإن تحدث فلن تُسمع كلمته؛ ذلك لأن السياسة الخارجية المتوترة أيقظت وعززت دائمًا النزعات السلطوية الاستبدادية في السياسة الداخلية”.
“كنت قد اعتبرت هذه المقاربة الجديدة التي ترى تركيا محاطة من حولها بشركاء قابلين للتعاون معهم، بدلاً من الأعداء، “ثورة” و”نقلة نوعية” في السياسة الخارجية التركية. ذلك أنه بفضل هذا المنظور، أي بتحولها من “الرؤية الصراعية الأمنية” إلى “الرؤية السلمية التعاونية”، كانت السياسة الخارجية انقلبت عاملاً مساعدًا لـ”دمقرطة” البلاد عوضًا عن السلطوية”.
” لقد وُضعت السياسات الاستبدادية وأنشئت المجتمعات المنضبطة وأضفيت الشرعية عليها بذريعة “الأعداء الخارجيين” في كل زمان ومكان”.
“تركيا في غنىً عن الأعداء ولو كانت إسرائيل. إني لا أخشى العدو بل من الحالة النفسية التي ستخلقها تلك “العداوة” فيما بيننا، وقابليةِ هذه الحالة للاستخدام والتوظيف”.
هذه السطور كتبها الأستاذ الدكتور في قسم العلاقات الدولية بجامعة الشرق الأوسط التقنية التركية إحسان داغي في عام 2011 بجريدة “زمان” التركية.
بالله عليكم لو كان الرئيس رجب طيب أردوغان استمع لهذه النصحية المخلصة فهل كانت تركيا تقدَّم اليوم كـ”أفضل نموذج للدول الدكتاتورية” من قبل زعماء غربيين وشرقيين؟!
إيران تدفع بتركيا إلى الصراع مع إسرائيل
يا ترى من كانت هذه “الجهات” التي ألقت أمام أردوغان “طعم سفينة مافي مرمرة”، ودفعت بتركيا إلى الخارج وخنقتها في الداخل”، ومن هم الذين استخدموا ووظفوا “العداوة” المختلقة مع إسرائيل لإعادة ترتيب البيت الداخلي؟!
كانت هيئة الإغاثة الإنسانية (IHH)، التي لا يخفي المشرفون عليها علاقاتهم مع إيران، تحولت إلى ذراع مدنية للمخابرات التركية تقوم بعمليات علنية وسرية في الداخل والخارج، بعد أن أصبح هاكان فيدان، المتهم بـ”العمالة” لإيران أيضًا من قبل جهاز الأمن التركي “القديم” رئيسَ المخابرات الوطنية في تركيا.
هذه الهيئة من وضعت أردوغان على سفينة مافي مرمرة، بالتعاون مع حليفها تنظيم “أرجنكون”، الحكومة السرية في تركيا، وأرسلته إلى فلسطين أولاً، بدعوى كسر حصار قطاع غزة، ثم رفعته على أمواج “الربيع العربي” ووجّهته نحو سوريا ومصر والمنطقة عموماً، وأخيراً خنقت ”تركيا الصاعدة” في عقر دارها.
إيران من أحاطت وطوقت تركيا بـ”نارها” من جميع أطرافها عن طريق امتداداتها، بعد أن كانت تنشر (تركيا) نفحات الأمن والسلام في داخلها وخارجها، ونفخت في أردوغان و”شيعته”، ودغدغت مشاعرهم ووسوست في أذنهم بأن “تركيا الجديدة” بدأت تستعيد قوة أجدادها، ووجهتهم لتبني خطابات “العثمانية الجديدة” و”الخلافة الإسلامية”، بركوب موجات “الربيع العربي”، فبدأ يحلم بالخلافة الإسلامية أو بأصح العبارة بـ”نظام خاص به لا يُسأل ولا يحاسب” ويكون هو الآمر والناهي في كل صغيرة وكبيرة، مثل نظام الملالي في إيران.
نظام أردوغان المقدس!
لقد وجه “تحالف أرجنكون وإيران” اهتمام أردوغان إلى الخارج وقام بإعادة تصميم البيت الداخلي، واستهلك الطاقة الكامنة لتركيا بشغلها بأمور لا تعنيها ولا تملك القدرة عليها، وقوّض أخيرًا “الأرضية الديمقراطية” في البلاد تمامًا، وقضى على كل الكوادر الوطنية الديمقراطية “السنية” ليحل محلها كوادر مرتبطة بإيران الشيعية ومنظمة أرجنكون الطورانية المعادية للدين، وتتأسسَ في تركيا نسخة سنية من نظام الملالي الشيعي في إيران. ولذلك نرى أن زعيم حزب الوطن، دوغو برينتشاك، العلماني اليساري اللنيني المتطرف، أحد أبرز قيادات تنظيم أرجنكون، يعلن أنه يقف إلى جانب دولة إيران وشعبها إزاء “فتنة أمريكا وإسرائيل”، ويزعم أن إيران شعبًا وحكومة سيفشلان هذا “التمرد الأمريكي”، ويطالب زعيمَ حزب الحركة القومية “دولت بهتشالي” بدعوة الأتراك الأذاريين لتجنب الخروج إلى الشواراع والانضمام إلى المتظاهرين.
دوغو برينتشاك الذي يعادي بصورة صارخة أدنى مظهر من مظاهر الإسلام في المجتمع التركي، ويعلن أنهم سيجتثون كل الجماعات الإسلامية من جذورها لا حركة الخدمة فقط، نراه في صف واحد مع الجمهورية الإيرانية “الإسلامية”!! ما نوع هذه العلاقة يا ترى؟!
أردوغان قضى على كل الديمقراطيين والليبراليين أولاً بعد أن استعان بهم للوصول إلى الحكم كما في إيران.. ثم تخلص من جميع خصومه ومعارضيه ومنافسيه الآخرين كما في إيران.. إنه أصبح زعيمًا سياسيا ودينيا “مقدسًا و”غير مسؤول” كما في إيران.. همش دور البرلمان كما في إيران.. حوّل الدين إلى أداة سياسية وصُوَرٍ وأشكال بلا روح ولا محتوى كما في إيران.. جعل المساجد معسكرات يتدرب فيها عناصر خاضعة وعابدة وحارسة لنظامه كما في إيران.. أسس أمنًا وقضاءً وجيشًا موازيًا تابعًا له يأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه كما في إيران..
لكن الكرة عادت، فالنيران التي أشعلتها إيران في تركيا وكل المنطقة بدأت ترتد عليها اليوم.. الشعب الإيراني المرهق يريد الحرية والحقوق والرفاهية، ويعترض على صرف موارد بلاده وأموالها في سبيل الأطماع التوسعية في المنطقة، ويعارض إرسال أبناءه إلى الخارج لخوض حروب هو في غنى عنها..
هناك من يقول إن الحراك الشعبي في إيران احتجاج واعتراض على تدهور الأوضاع الاقتصادية.. وهناك من يرى أنه مؤامرة تحيكها القوى الكبرى والإقليمية، بينها الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية. وهذا السيناريو يروج له خاصة الحراس التقليديون للنظام الإيراني لعلهم يثيرون رد فعل الفئات المحافظة ويشكلون جبهة مضادة للمتاظاهرين.. وهناك من يزعم أنه حراك مفتعل يقوده نظام الملالي بغية استخدامه في سبيل تصفية المعارضين على غرار الانقلاب الفاشل الذي دبره أردوغان مع حليفه أرجنكون في تركيا ووظفه في التخلص من جميع خصومه ببراعة فذة.. وهناك من يدعي أنه صراع داخلي بين الجبهة المحافظة المدعومة من قبل الرئيس علي خامنئي والملالي ووالجبهة الإصلاحية بقيادة الرئيس الإصلاحي المعتدل حسن روحاني..
لكلٍ من هذه السيناريهات ما يدعمه من الواقع، لكن المحرك الأساسي لهذه الانتفاضة الشعبية ليس مهمًا بقدر أهمية نتائجه المحتملة. يجب أن نعلم أنه بغضّ النظر عن وجود مخططين أو مستغلين لهذا الحراك فإنه لا يمكن السيطرة على مثل هذه التحركات الشعبية والتوقع بنتائجها. يبدو أن إيران ستدفع ثمن الفتن التي أشعلها في كل العالم وستضطر إلى العودة إلى حجرتها الداخلية الصغيرة بعد “قطع أذرعها الطويلة في سوريا ولبنان واليمن وغيرها”، كما قال رئيس وزراء لبنان من العاصمة السعودية الرياض. ولا بد أن نأخذ في عين الاعتبار عودة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية سي آي إيه بقوة إلى الساحة مجددًا، وشروعها في الاضطلاع بدور فعال في كل المنطقة، بعد تحفظ ملحوظ في تدخلاتها في شؤون المنطقة إبان عهد باراك أوباما.
انعكاسات الأحداث في إيران على روسيا وتركيا
وقد تكون للتظاهرات في إيران تداعيات ونتائج من شأنها أن تغير المعادلة الحالية في المنطقة، بعد أن لاح في الأفق احتمالية تحولها إلى أزمة نظام. وما زعمه الخبير الروسي في شؤون الشرق الأوسط “ألكسندر شوميل” من أن الزعيم الديني علي الخامنئي يشعر بالقلق تجاه الأحداث وأرسل أسرته إلى “تركيا” لا بد أن يؤخذ على محمل الجد. وذكر شوميل أن التطورات القائمة في إيران، التي اختارتها روسيا حليفة لها، قد تسبّب عما قريب إزعاجًا لموسكو أشد وطأة من سوريا، وطرح سناريوهين لانعكاسات الأحداث المشتعلة في إيران على روسيا:
السيناريو الأول: انتشار التظاهرات الاحتجاجية في أرجاء البلاد كافة والإطاحة بالنظام “الإسلامي” بعد القضاء على الحرس الثوري، ومن ثم إنهاء الصراع القائم حاليا مع الدول الإسلامية، وسحب قوات الحرس الثوري الموجودة داخل سوريا. وأشار شوميل إلى أنه إن تحقق ذلك فإن روسيا ستفقد نفوذها وتأثيرها في سوريا، وسينهار نظام بشار الأسد خلال أيام معدودة عقب الإطاحة بالنظام الإيراني.
السيناريو الثاني: استخدام النظام الإيراني القوة المفرطة لقمع التظاهرات. لكن لفت شوميل إلى أن العصيان في هذه الحالة سيتخذ وضعًا أشبه بالحرب الأهلية لأجل غير مسمى، مثلما حدث في سوريا عام 2011، مرجحا أن يلجأ النظام الإيراني إلى سحب أفراد الحرس الثوري من سوريا والعراق ولبنان لتعزيز قوته الداخلية.
وأكد شوميل على أن النتيجة لن تتغير بالنسبة لروسيا، زاعمًا أنه سيتم الإطاحة بالأسد الذي سيفقد الدعم المسلح الإيراني وسيُقضى معه على النفوذ الروسي، بحسب رأيه.
وانطلاقًا مما قاله الخبير الروسي، ليس من المستبعد أن تكون للحراك الشعبي في إيران أبعاد تتعلق بالصراع السائد بين حلف شمال الأطلسي الناتو والمعسكر الأوراسي بقيادة روسيا والصين. ومن المحتمل أن يحدث بعض التغييرات في أحجار الشطرنج في تركيا التي حول أردوغان وجهتها إلى المحور الروسي في السنوات الأخيرة.