برلين (زمان التركية) – امتدت التظاهرات الاحتجاجية التي انطلقت الأسبوع الماضي بمدينة مشهد الإيرانية إلى المدن الأخرى، حيث يسلط المتظاهرون الضوء على المشاكل الاقتصادية وتراجع مستويات الرفاهية، وينبهون إلى غياب الحريات والقمع الذي يمارسه النظام في إيران.
ولا يقتصر انتقاد المتظاهرين على الحكومة فقط، بل يشمل “الإمام” الذي يرتكز عليه النظام ويحمل عليه صفة “شبه إله” في المعتقد الشيعي والمعصوم من الخطأ علي خامنئي.
زعيم بلا محاسبة
عقب الثورة التي اشتعلت عام 1979، وباجتهادات الخميني، تم قبول مؤسسة “ولاية الفقيه” المثيرة للجدل بين علماء الشيعة.
وتنص المادة الخامسة من الدستوري الإيراني على أن إدارة البلاد يتولاها فقيه إداري شجاع وعقلاني مطلع على العصر وعادل وتقي يوافق عليه غالبية الشعب طوال فترة غياب الإمام المهدي. وبحسب المذهب الشيعي فإن الإمام المهدي سيأتي بعد أن يسيطر الظلم على العالم لإقرار العدل في كل أرجاء العالم.
علي الخامنئي هو الشخص الذي يشغل هذا المنصب إلى الآن، وكان هو ومنصبه بين أهداف المظاهرات الاحتجاجية الأخيرة.
وتركز المعارضة بوجه عام على المشاكل الاقتصادية، حيث تتضمن أسباب هذه المشاكل إقحام إيران نفسها في كل الأحداث التي تشهدها المنطقة، وإهدار مواردها من أجل كسب نفوذ في الدول الأخرى وإهمال الشعب. ولهذا يطالب الشعب السلطات بالتوقف عن دعم الأسد والانسحاب من اليمن والتركيز على مشاكل شعبها.
ومثلما يحدث في الأنظمة الاستبدادية كافة تقدَّم الاحتجاجات على أنها مؤامرة من القوى الخارجية، ومن تنفيذ العملاء، ويقوم النظام بالإيقاع بين فصائل المجتمع ويحرِّض “المواطنين المخلصين الموالين للنظام” على التصدي ” للعملاء”.
تُدار إيران بالشريعة منذ نحو 40 عاما، ويحظى رجال الدين بتأثير وهيمنة كبيرة على النظام. وتمكن الانتخابات في إيران جموع الشعب من تغيير أمور محدودة فقط، نظرا لأن الركائز الأساسية للنظام لا يمكن تغييرها بالانتخابات.
وتخوض الأحزاب والمرشحون من خوض الانتخابات بعد تجاوز العديد من العراقيل التي تضعها أمامهم السلطات والحصول على موافقتها، وبالتالي فإن الأشخاص والأحزاب الذين لا يحظون بموافقة نظام الملالي يُحرمون من خوض الانتخابات.
يتمتع الزعيم الديني في هذا النظام (الخميني) بصلاحية التحكم ومراجعة كل بنود النظام، حيث يقوم مجلس الخبراء الذي يتألف من رجال الدين باختيار الزعيم الديني ليتولى مهمة أبدية.
ويترأس الزعيم الديني المؤسسات الاستراتيجية كافة بدءًا من الجيش والقضاء، وصولا إلى الأمن والمخابرات والقائد الأعلى للقوات المسلحة والمخول الوحيد بإعلان الحرب والسلام، كما أنه يتولى تعيين القيادات القضائية العليا.
اقتصاد يرتكز على القطاع العام
الاقتصاد الإيراني هو اقتصاد يرتكز على القطاع العام، حيث يصل حجم الوحدات الاقتصادية التي يسيطر عليها الفقهاء بصورة مباشرة إلى الخمسين في المئة، كما توجد العديد من الكيانات التابعة لهم من الشعب.
ويُعد تنظيم “الحركة الشعبية الخاصة” الذي الذي ظهر مؤخرا في تركيا نسخة من عناصر “الباسيج” التي يسيطر عليها النظام الإيراني، فهذا التنظيم شبه العسكري المنظم المنتشر بين جموع الشعب من بقايا ثورة عام 1979.
منحت هذه المكانةُ الخاصة إلى الأشخاص الذين قاتلوا ضد قوات الشاه خلال الثورة وبمرور الوقت اكتسبوا بنية نظامية، حيث تشكّل الباسيخ تحت لواء وحدة دستورية مسلحة خاصة تُعرف بقوات الحرس الثوري، ومهمتها تكمن في حماية النظام والتصدى للقوى المتمردة.
إنهم ليسوا كالقوات المنفذة للقانون مثل الشرطيين، ولا صلاحية لهم في أوقات السلام، غير أنهم ينفذون كل الأعمال القذرة في صورة أشبه بالتشكيلات شبه نظامية للدولة العميقة في تركيا. وتكمن مهمتهم في قمع وإخافة وتقييد المعارضة والأشخاص أو الجماعات التي لا تنال استحسان السلطات.
هم موجودون وغير موجودين في الآن نفسه، فهم موجودون لتنفيذ الأعمال القذرة وغير موجودين وقت تحمل المسؤولية والخضوع للمحاسبة. هم موجودون في أعمال قتل المعارضين والمظاهرات وغائبون وقت المحاسبة القانونية.
تتألف قوات الباسيج من الفصائل الفقيرة وغير المتعلمة، ويتم منحهم صلاحيات وأسلحة. ويعتبر هؤلاء الأشخاص الذين عجزوا عن اكتساب مكانة في المجتمع أنفسهم مالكين للبلاد ومنقذين للشعب وكابوس الأعداء.
الثغرات المتبقية
هيئة حماية الدستور هي المؤسسة المهمة الأخرى في إيران، حيث يتولى رجل الدين تعيين 6 من الأعضاء، بصورة مباشرة من بين 12 عضوا وهو إجمالي عدد أعضاء الهيئة. وتتولى هذه الهيئة رفض القرارات البرلمانية واستخدام الفيتو فيما يتعلق بالتعيينات السيادية.
وفي حال تبقي ثغرات من القائد الديني في نظام الحكم، يتولى البرلمان والرئيس المنتخب (حسن روحاني ومن قبله أحمدي نجاد) ملء هذه الثغرات.
ويعد رئيس الجمهورية ثاني أقوى منصب بعد الزعيم الديني، حيث يتم انتخابه لمدة 4 سنوات على أن يُنتخب لفترتين رئاسيتين كحد أقصى. وعلى الرغم من وجود مجلس وزراء تابع له فإن عمل هذا المجلس محدود ومقيد إلى حد كبير.
وبالنظر إلى نظام الحكم في إيران يتبين سبب عدم اقتصار الاحتجاجات على الحكومة وشمولها أيضا النظام والقائد الديني، إذ إن إيران تضم مجلس وزراء ورئيس جمهورية وبرلمانا منتخبًا، غير أن النظام قائم على الزعيم الديني الذي يمسك بزمام الأمور ولا يمكن محاسبته ولا يتحمل أي مسؤوليات.
ما يجوب في ذهن أردوغان
أنا واثق من أن الأمور السابق ذكرها دفعت الكثيرين للتفكير في جواب سؤال “إلى أين يدفع أردوغان تركيا”، فقد وصف أردوغان إيران “بمنزله الثاني”، وهذا الوصف يتضمن رغبة تفوق بكثير الارتباط العادي إيران.
وبدون شك فكر أردوغان في امتلاك السلطة المطلقة التي يتمتع بها الزعيم الديني في إيران، وإقامة نسخة سنية من هذا النظام داخل تركيا. وتأسيس الخلافة والسلطنة لن يمنحه هذه القوة المطلقة، نظرا لأنه في العادات السنية لا يعفيك أن تكون سلطانًا من المساءلة القانونية، ويتوجب عليك دفع الثمن – نظريا على الأقل – إن ارتكبت خطئًا أو جريمة.
ويمكن النظر في هذا الإطار إلى أقاويل البعض الذين حملوا على عاتقهم مهمة وضع أردوغان في مكانة خارقة ومنحه سلطات روحية.
نرى أن أردوغان يطمح لمكانة علي الخامنئي أكثر من منصبي الخليفة والسلطان، إذ إنه القائد الأعلى حتى وفاته ويشغل منصب القائد الأعلى للجيش ويعمل القضاء والمخابرات وفقا لتعليماته.
يوجد الآن في تركيا برلمان، لكن لا صلاحية له ولا سلطة، ويتسلى الشعب التركي بالنظر إلى وجود برلمان في البلاد وانتخابهم أعضائه. ويترأس الحكومة شخصٌ منتخب، لكن لا يتمتع بصلاحيات كما هو الحال عند بن علي يلدريم. والجانب الجيد لهذا النظام التركي هو أن الشعب لا يستطيع محاسبة الرئيس (أردوغان) فهو يتمتع بشبه حصانة قانونية، وفي حال حدوث مشكلة يتحمل مسؤوليتها رئيس الحكومة فقط، الرئيس يخضع للمحاسبة، ويقوم الشعب بتغييره إن لم ينل إعجابه واستبداله بأشخاص وفقا لمزاجه، لكن يبقى الرئيس في منصبه نزيهًا.
يسيطر الرئيس في تركيا بنسبة كبيرة على الاقتصاد ويوجه الموارد العامة كيفما يشاء، ويحولها إلى نظام إقطاعي، وقد يهادي بها أنصاره وأقاربه. (هذه الأمور ليست سهلة حتى في إيران، إذ يخضع اليوم للمحاكمة بالإعدام من تورطوا في الفساد واختلاس أموال عامة، مثل رجل الأعمال الإيراني بابك زنجاني، فيما لم يتعرض شريكه في تركيا رضا ضراب لأي عقوبة بفضل أردوغان).
يتمكن الرئيس الآن في تركيا من تأسيس شبكة أمنية واستخباراتية واسعة وجديدة تابعة له، وذلك بتسليحه الحراس وزيادة عددهم. ويبدو أن مسألة الحرس نالت استحسان أردوغان بالقدر الذي جعله يشكل نظائر لهم شكلاً ومضمونًا ويوسع نطاقهم. ومن المحتمل أنه يسعى من خلالهم إلى قمع المعارضة بطريقة عنيفة ودموية وتنفيذ كل الأعمال غير القانونية ضدها.
ويبدو أن المؤسسة الدينية في تركيا بطاقهما الكبير شمرت عن ساعديها لتلعب دور رجال الدين في إيران في إقناع المجتمع، بينما يتولى علماء الدين والشريعة مهمة تشريع هذه التشكيلات.
هل تصير تركيا نسخة سنية من إيران؟
يبدو وأنه هناك رغبة في إقامة نسخة سنية من النظام الإيراني داخل تركيا، يتم إنشاء نظام يُستشعر فيه بقوة وسلطة شخص واحد على كل شيء ويصبح فيه القضاء صوريا وتُمحى فيه القيم ويخدع المسلمون باستغلال الدين.
يتم اختيار القادة الدينيين في إيران من بين “آيات الله”، والحصول على لقب آية الله يتطلب تعليمًا وسمات وتجهيزات جادة. ومن يسعون لتطبيق هذا النظام في تركيا يواجهون مشكلة فعلية، حيث إن الشخص المرشح لهذا المقام (أردوغان) يفتقر إلى شهادة جامعية وتخصص علمي كما ونوعًا، ولذلك نرى أن جماعته يعملون على ملء هذا القصور والفراغ بالشهادات الفخرية والسلطات الروحية التي تصل إلى حد الشرك.
إيران تُدار بنظام يطمح له أنصار تيار الإسلام السياسي في تركيا منذ 40 سنة، والآن يحاسب الشعب هذا النظام الأجوف المرتكز على الرياء والاستعراض والتمجيد والقائم على استغلال موارده ويسعى للتخلص منه.
بات باديا أنه توجد دولة يُفترض أنها إسلامية لكن لا يوجد مؤمن متق وصالح فيها، وفي المقابل هناك الكثير من الرياء. يكثر التمجيد بينما يغيب الإيمان، فظاهرهم إسلامي لكن جوهرهم علماني.
تكثر المساجد، لكن لا تؤدى الصلاة، وتُحظر المخدرات والمشروبات الكحولية، لكن معدلات استهلاكها في ذروتها. كل مكان يعج بخطب الوعظ، لكن الاستغلال الجنسي والسرقة وانعدام الأخلاق بلغ الأعناق. وبلغ الانحراف الجنسي والاغتصاب الذي طال الأطفال الرضع مرحلة الانفجار المجتمعي.
الانحراب الجنسي يزعزع نظامًا أسسته إيران قبل 40 عامًا على الاستغلال الديني وقمع المجتمع والحقوق والحريات باستغلال الدين، أما تركيا فتعمل على خلق نسخة أكثر سوءًا وفشلا للنظام الإيراني ترتكز على الرجل الواحد بحجة المحاولة الانقلابية الفاشلة ويُشرّع ويبث الحماس في المجتمع بالخطابات الدينية.
التدين المنفر من الدين
التجربة الإيرانية نفّرت الناس من الدين وحولت المؤمنين إلى منافقين ولم تحقق نجاحا اقتصاديا، وعلى الرغم من نجاحها في التوسع الشيعي في السياسية الخارجية فإن نظام رجل الدين ملطخة يداه بدماء المسلمين بدءًا من أفغانستان ولبنان وصولا إلى سوريا واليمن.
وعوقب في إيران 30 ألف معتقل سياسي بالإعدام بعد الثورة، وتعرض الأشخاص للظلم والتعذيب والاختطاف بطرق غير قانونية.
إيران دولة تُدار بالشريعة ظاهريا غير أن الفارين من النظام القمعي الإيراني يتشتتون ويغيرون الديانة في الخارج، إذ إنه لا يوجد مجتمع إسلامي آخر يغير ديانته عند مغادرة بلاده بقدر الإيرانيين.
فرض الإسلام على الآخرين يخلق منافقين، فجهود نشر الإسلام بالدخول إلى القلوب هي الطريق الأنسب لروح الدين. وعند استخدام السلطة العامة للتحكم في الضمائر وقمعها يتحول النظام والسلطة بعد فترة إلى ساحة استغلال البيروقراطية الدينية، وتفسد عندها السلطة رجال الدين والدين معًا، ويبادر من يديرون البلاد باسم الدين إلى منح صفة “شبه إله” وقدسية لأنفسهم فلا يخضعون لأي نقد ولا محاسبة، فيما يتجه الشعب إلى النفاق والرياء.
إن المسلمين سيظلون محكمين لإدارة الديكتاتوريين المستغلين للدين ما لم ينجحوا في تأسيس أنظمة تتوافق مع المعايير الدولية لمفهوم الإدارة الديمقراطية التعددية والشفافية القابلة للمساءلة، كما يطلب دينهم ذلك.