بقلم: محمد عبيد الله
تناولنا في مقالنا السابق الخلفية التاريخية لانقلاب 1997 الناعم وتداعياته على المشهد السياسي والمجتمع المدني في تركيا، والتي أسفرت أولاً عن سقوط الحكومة الائتلافية بين حزب الرفاه “الإسلامي” والطريق القويم اليميني”، ومن ثم خسارة حزب اليسار الديمقراطي الحاكم في الانتخابات المبكرة أمام حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، بالإضافة إلى جهود زمرة قليلة متنفذة في الجيش والبيروقراطية لإعلان حركة الخدمة “تنظيمًا إرهابيًّا غير مسلح”. وفي مقالنا اليوم سنحاول رصد التطورات التي شهدتها البلاد في ظل حكم أردوغان.
تبرؤ أردوغان من حزب الرفاه “الإسلامي”
لا شكّ أن إعلان أردوغان خلعه قميص “الرؤية الوطنية” (ملّي جوروش)، في إشارة منه إلى انشقاقه من حزبه القديم “الرفاه”، الذي قاده الراحل نجم الدين أربكان، أبو الإسلام السياسي في تركيا، شكّل منعطفًا تاريخيًّا في حياته السياسية. فقد رأى أن النهج القائم على الشعارات والخطابات الإسلامية (الأيديولجية الإسلامية) لشيخه أربكان لم يقدم نموذجًا ناجحًا قادرًا على حمل تركيا إلى آفاق المستقبل مع استيعاب جميع أطيافها، خاصة عقب فشله في التعامل مع “الزمرة الحاكمة” المتمركزة في الجيش إجمالاً، أو حراس نظام الوصاية، إلى أن انتهت هذه الوتيرة المتأزمة بسقوط الحكومة الائتلافية بين أربكان وتانسو تشيلّر.
ولإزالة “الصورة السلبية” التي التصقت به لانحداره من حزب الرفاه “الإسلامي” من ذاكرة أصحاب نظام الوصاية والنخب “العلمانيين” في الداخل، ومن ذاكرة الرأي العام العالمي، أجرى أردوغان زيارات عديدة إلى الولايات المتحدة قبيل تأسيس حزبه، بدءًا من عام 1996 حتى عام 2001، وشارك في يوم الاستقلال الأمريكي في 4 يوليو/تموز 2001، تلبية لدعوة خاصة تلقاها من الإدارة الأمريكية، وأجرى لقاءات مع اللوبي اليهودي هناك، وحصل على “جائزة الشجاعة الفائقة” اليهودية، وهذا بالإضافة إلى الزيارات المتكررة التي أجراها إلى معظم العواصم الغربية، والتي أكد خلالها اعتزامه ضمّ تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
وبعدما حصل على “شرعية دولية” من خلال هذه الزيارات الأمريكية والأوروبية، وطمئن الأوساط العلمانية “القلقة” في الداخل التركي، من خلال ضمّ أسماء وشخصيات سياسية “ديمقراطية” و”ليبرالية” معروفة لدى الرأي العام إلى صفّه، أعلن عن تأسيس حزب العدالة والتنمية باعتباره “حزباً جماهيرياً محافظاً ديمقراطياً”؛ الركائز الثلاث التي رحّب بها الشعب التركي بكلّ أطيافه، وحمله بسببها إلى سدة الحكم عام 2002.
أسرار نجاح أردوغان
لقد تميزت الفترات الأولى من حكم أردوغان بإعمال مبدإ الشورى مع “أهل الحنكة والخبرة والاختصاص والفكر”، واحترام المعتقدات والأفكار مهما كانت، والسعي للقضاء على مخاوف الديمقراطيين والعلمانيين حول احتمال اتباعه “نهجاً إسلامياً” من خلال تمسكه بمبدأ الديمقراطية والحرية للجميع من جهة، وتعهّده بتغيير الدستور “العسكري” “الانقلابي” بدستور مدني ديمقراطي يمكِّن كل فرد من ممارسة حقوقه الشخصية ويمنح المجتمع المدني الحرية المطلوبة والدعم اللازم من جهة أخرى.
وأدرج أردوغان انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ضمن إستراتيجياته وأولوياته، لكن ذلك لم يبق حبرًا على الورق كالحكومات السابقة، بل طبق ذلك فعلاً عندما أطلق مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد عام 2005، عقب نجاح حكومته في تنفيذ 8 من حزمة إصلاحات بين أعوام 2001 – 2004 من أجل الانسجام مع معايير الاتحاد. ولعل تحدي أردوغان الاتحاد في إطار تعليقه على تماطله في مفاوضات الانضمام بقوله: “نحن نؤمن من صميم قلوبنا بمعايير كوبنهاجن الأوروبية، ولن يختلف الأمر في حالة رفض انضمامنا إلى الاتحاد الأوروبي أو قبوله، فإننا عندئذ سنطلق على تلك المعايير التي نؤمن بها وندافع عنها ’معايير أنقرة‘ ونمضي قدمًا في هذا الطريق من دون تراجع”، دليل كافٍ على مدى قبوله بالمعايير الغربية.
انفتاح تركيا على الخارج
بهذه الأسس والمنطلقات بدأت تركيا في ظل حكم أردوغان تحلّق في السماء عالياً بأجنحة “الديمقراطية” و”الحرية” و”الاقتصاد” بصورة غير مسبوقة، في الداخل؛ والانفتاح على المنطقة القريبة والبعيدة بـ”القوة الناعمة” التي تمثلت في ”العلاقات التجارية” و”علاقات الجوار”، في الخارج، بعد أن كانت منغلقة على ذاتها وسابحة في محيطها الداخلي فقط. لقد كانت تركيا تنفتح على الخارج بهذا العمق لأول مرة منذ تأسيس الجمهورية بحيث صنعت خلال مدة قصيرة ما يسمى بـ”النموذ التركي”، الذي كان يعني في جوهره “النهج القادر على تحقيق التوافق بين المبادئ الإسلامية والمعايير الديمقراطية”، لدرجة أن بعض الدول الغربية كانت تقدم إدارة أردوغان نموذجًا لدول المنطقة الأخرى. إذ كانت تستطيع التفاوض مع جميع الدول المجاورة، عملاً بمبدأ “صفر المشاكل مع الجيران”، بما فيها إسرائيل وفلسطين وسوريا وأرمينيا، بل كانت تتوسط من أجل المساهمة الفاعلة في تسوية القضايا الشائكة بينها باعتبارها “وسيطاً” أو “حكماً”.
جهود المجتمع المدني في الديمقراطية والاقتصاد
أما المجتمع المدني في هذه الفترة فلم يكن متأخرًا عن السلطة السياسية، بل كان متقدمًا عليها في كثير من المجالات، خاصة القطاع الاقتصادي. ذلك أن كلاً من جمعية رجال الأعمال والصناعيين الأتراك (توسياد)، الذي كان يضم الشركات التركية التقليدية الكبرى، وجمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين “موصياد” الموالي لحكومة أردوغان، واتحاد رجال الأعمال والصناعيين الأتراك “توسكون” القريب من حركة الخدمة، استغل انفتاح تركيا على المنطقة جيدًا، وقام بتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الدول المجاورة على نحو غير مسبوق.
جاءت حركة الخدمة في مقدمة منظمات المجتمع المدني التي ساندت “المشاريع الديمقراطية والاقتصادية” لحكومة أردوغان، بل لم تبق في مقام الداعم فقط، وإنما أخذت بزمام المبادرة وبذلت كل جهودها لتوسيع دائرة مشاريعها الرامية إلى إرساء دعائم السلام والحوار والتعايش، إلى جانب مشاريعها التعليمية والاقتصادية، في كل شبر من أرض تركيا وكل أنحاء العالم. وإذا علمنا أنها استطاعت فتح مدارس وجامعات في 170 دولة، وأن اتحاد توسكون وشركات تعليمية تابعة لحركة الخدمة كانت وصلت إلى مناطق نائية في القارة الأفريقية بحيث لم تكن فيها قنصليات وسفارات تركية بعدُ.
الربيع التركي والمخاوف من تحوله إلى خريف!
كانت تركيا تعيش “ربيعًا”، كما قال أردوغان، بفضل التوافق بين السلطة السياسية والمجتمع المدني لأول مرة في تاريخ الجمهورية الحديثة، غير أن حراس نظام الوصاية كانوا مستائين من هذه الأجواء، وبصفة خاصة من فتح أبواب الدولة للفئات المتدينة المحافظة المحرومة على سنين طويلة، وانتقال الدفة الاقتصادية من شركات إسطنبول الكبرى التقليدية إلى ما سمي “نمور الأناضول الاقتصادية”، لذا شرعوا في البحث عن طرق لاسترجاع المواقع السياسية والاقتصادية التي فقدوها خلال العقد الأخير. لذلك نجد أن أردوغان وجميع أعضاء الحكومة آنذاك وقّعوا على قرار مكافحة حركة الخدمة وعرقلة أنشطتها في الداخل والخارج خلال اجتماعٍ لمجلس الأمن القومي عام 2004.
وصم حركة الخدمة بالإرهاب
وقد ورد في قرار مجلس الأمن القومي، الذي كشفت عنه لـ”لرأي العام” لأول مرة جريدة “طرف” في عام 2013، أن “فعاليات حركة النور وفتح الله كولن كانت ضمن القضايا التي تم نقاشها في مجلس الأمن القومي المنعقد في 24 حزيران 2004، وقد توصل الأعضاء إلى ضرورة إعداد خطة عمل لمكافحة أنشطتهم في الداخل والخارج، وقرروا إبلاغ الحكومة بقرار التوصية المتخذ في هذا الصدد”.
بعد سنتين من هذا الاجتماع شهدت تركيا محاولات لنقل هذا القرار من الورق إلى أرض الواقع، من خلال مشروع قانون يعيد مضمون “قانون مكافحة الإرهاب” تحت إشراف حكومة أردوغان. فقد قامت وزارة العدل بالتعاون مع “لجنة التنسيق الخاصة بمكافحة الإرهاب” برئاسة نائب رئيس الوزراء آنذك عبد الله جول بإعداد مشروع قانوني يقترح الحفاظ على عبارة “تنظيمات إرهابية غير مسلحة”، ثم أرسلته رئاسة الوزراء في 6 نيسان 2006 إلى رئاسة البرلمان تمهيدًا لعرضه على موافقة البرلمان. وكما سبق أن بيَّنَّا أن عبارة “التنظيمات الإرهابية غير المسلحة” اخترعها انقلابيو 1997 حتى يمكن تصنيف حركة الخدمة “الرافضة للعنف والسلاح” وأمثالها ضمن هذه “التنظيمات الإرهابية غير المسلحة”. وإن دل هذا المشروع القانوني على شيء فإنما يدل على عجز إلصاق وصف “الإرهاب” بهذه الحركة، ما دفع أحد أجنحة حكومة أردوغان إلى إحداث قانون يخالف الشريعة الإسلامية والقانون الحديث في آن واحد.
قانون خاص لإعلان حركة الخدمة تنظيمًا إرهابيًّا
هذا المقترح كان بمثابة قانون خاص لإعلان حركة الخدمة تنظيمًا إرهابيًّا غير مسلح، ذلك أن الدعوى التي فتحت بحق كولن في أيام انقلاب 1997 الناعم بتهمة “تأسيس تنظيم إرهابي غير مسلح” كانت مؤجلة أو معلقة بموجب قانون الإفراج المشروط. وهذا المقترح جاء بعد طلب محامي كولن بإعادة النظر في دعوى موكلهم وإنزال حكم البراءة بحقه في مطلع مايو 2006، أي قبل شهر من طرح هذا المقترح، وموافقة محكمة الجنايات في أنقرة على الطلب في 5 مايو 2006، وذلك في إطار التغييرات التي أجريت في قانوني “مكافحة الإرهاب” و”العقوبات”، لكن هذا الحكم كان قابلاً للنقض من قبل المحكمة العليا إذا تم إدراج عبارة “تنظيم إرهابي غير مسلح” ضمن تعديلات قانون مكافحة الإرهاب.
إعلام أردوغان يعارضه!
وعندما طرحت حكومة حزب العدالة والتنمية هذا المقترح القانوني تكهربت الأجواء في تركيا، حيث اعتبره إعلام “التيار الإسلامي” عامة، بما فيه الإعلام الداعم لأردوغان حاليًا، إلى جانب إعلام حركة الخدمة، عودة المادة رقم 163 الشهيرة من قانون العقوبات التي كانت بمثابة “السيف المسلط” على كل المسلمين والتي تنص على: “فرض عقوبة حبس ما بين 5 سنوات و10 سنوات على من يقوم بالدعاية أو التشجيع عبر استغلال الدين والمشاعر والمقدسات الدنية، بهدف تغيير النظام الاجتماعي والاقتصادي أو السياسي أو القانوني للدولة بالمبادئ والمعتقدات الدينية ولو نسبيًّا أو بهدف تحقيق أغراض أو مصالح سياسية”. لقد استغلت الحكومات اليسارية السابقة هذه المادة الفضفاضة لحظر أبسط فعالية دينية جماعية واعتقال المشاركين فيها على مدى سنوات طويلة، حتى جاء طرغوت أوزال وغير هذه المادة. لذلك نشرت وسائل الإعلام المحسوبة على التيار الإسلامي، وليس إعلام الخدمة فقط، أخبارًا على مدى أيام تكشف عورات وسوآت ومخاطر هذا المقترح القانوني لحكومة أردوغان بالنسبة للمجتمع المدني، خاصة المسلمين. كما أن كل الأوساط الديمقراطية والقانوينة وكذلك الاتحاد الأوروبي اعترضت عليه لمخالفته لمبادئ القانون والحقوق العالمية، ودعت إلى حذف عبارة “التنظيمات الإرهابية غير المسلحة”.
خلاف بين أردوغان وجول بشأن الخدمة
لذلك لما حان موعد عرض المقترح على الموافقة البرلمانية شهد المسرح السياسي في تركيا بلبلة وفوضى استمرت عدة أسابيع، ما دفع الوزراء المعنيين وقادة الحكومة والبيروقراطيين والقانونيين إلى عقد اجتماع في مقر الخارجية برئاسة عبد الله جول، نائب رئيس الوزراء. وبحسب ما كتبه كل من الكاتب الصحفي “أحمد خاقان” من صحيفة “حريت” و”ميسر يلديز” من موقع “أودا تفي” الإخباري، فإن عبد الله جول أصر على بقاء هذه لعبارة الفضفاضة في المقترح القانوني كما هو من دون تغيير، مؤكدًا أن ذلك قرار أعضاء لجنة التنسيق الخاصة بمكافحة الإرهاب. إلا أن الضغوطات على الحكومة استمرت إلى أن اتخذ رئيس الوزراء أردوغان قرارًا بعقد اجتماع آخر في غرفته بمقر البرلمان، لينتهي أردوغان بعد تناول الموضوع بكل أبعاده وجوانبه إلى ضرورة حذف عبارة “التنظيمات الإرهابية غير المسلحة”، ويتصل بنائبه عبد الله جول ويأمره بحذف هذه العبارة. أما عبد الله جول فرد عليه قائلاً: “مع أننا حصلنا على رأي الجميع، إلا أنه إذا كان هناك أي خطأ نقوم بتصحيحه”.
على الرغم من هذا الاتفاق بين جول وأردوغان إلا أن المقترح القانوني يتم إرساله إلى لجنة العدالة في البرلمان من دون أي تغيير في العبارة المذكورة. وقبل ليلة واحدة من نقاش مشروع القانون في هذه اللجنة يعقد أردوغان مع أركان حكومته اجتماعًا جديدًا لبحث الموضوع مرة أخرى ووضع اللمسات الأخيرة عليه. فوضع أردوغان نقطة النهاية لهذا الجدل الذي استمر أكثر من شهر بقوله: “فهل يمكن أن يكون هناك تنظيم إرهابي غير مسلح؟! يجب تغيير هذه العبارة!”.
خيبة وزير العدل بشأن قانون الإرهاب!
كان وزير العدل “جميل تشيتشاك” المزعوم بقربه من “الدولة العميقة” أكثر انزعاجا من هذا التطور، بحسب ما ذكر الكاتبان المذكوران. ولذلك نرى أنه ورئيس لجنة العدالة البرلمانية “كوكسال توبتان” غاب عن الاجتماع الذي عقد صباح تلك الليلة، ولا ينضمان إلى الملتئمين إلا بعد الرابعة عصرا، احتجاجًا على خطوة أردوغان هذه. وفي نهاية المطاف يتحقق ما طلبه أردوغان ولا توضع عبارة “التنظيمات الإرهابية غير المسلحة” ضمن “قانون مكافحة الإرهاب”، بل تدرج ضمن “قانون العصابات” وتعاد صياغة المقترح على النحو التالي: “يخضع مؤسسو وإداريو وأعضاء تنظيم إرهابي غير مسلح للمحاكمة في إطار المادة رقم 220 من قانون العقوبات المنظمة لجريمة العصابة”، وذلك في 30 من حزيران 2006، الأمر الذي حال دون إعلان حركة الخدمة ونظيراتها من الحركات الأخرى “تنظيمًا إرهابيًّا غير مسلح”.
بعد سنتين تقريبًا من هذا التغيير، وافقت هيئة الدائرة التاسعة للمحكمة العليا بالاتفاق على قرار براءة كولن في 5 مارس 2008، ووافقت عليه بعدها الجمعية العامة للمحكمة العليا بموافقة 17 عضوًا في مقابل رفض 6 أعضاء.
أردوغان يمنع إعلان الخدمة تنظيمًا إرهابيًّا!
ومن اللافت أن ميسر يلديز، الكاتبة الصحفية في موقع “أودا تي في” الإخباري، الذي خضع للمحاكمة في إطار قضية “أرجنكون” فيما بعد، أشارت إلى أن تصنيف حركة الخدمة ضمن “التنظيمات الإرهابية غير المسلحة”، بعد التعديلات التي حاول أحد أجنحة حكومة أردوغان، المزعوم ارتباطه بتنظيم أرجنكون أو الدولة العميقة، جاهدًا لإجراءها على قانون مكافحة الإرهاب المذكور، كان تطبيقًا للقرار المتخذ في اجتماع مجلس الأمن القومي عام 2004، ثم اتهمت أردوغان بالحيلولة دون تنفيذ هذا القرار.
على الرغم من نجاح منظمات المجتمع المدني والأوساط القانونية والديمقراطية في منع إدراج عبارة التنظيمات الإرهابية غير المسلحة في قانون مكافحة الإرهاب، إلا أن خطر الرجوع من هذه الخطوة ظل موجودًا في الأيام والشهور القادمة، نظرًا لاستمرار ضغوطات شرذمة قليلة من الزمرة الحاكمة في الجيش والسلك البروقراطي والحكومة. ولذلك نرى أن عثمان شيمشاك، رئيس تحرير الموقع الإلكتروني الخاص بفتح الله كولن، أعلن أن الأخير حذّر أردوغان من خلال رسالة بعثها إليه في الثاني مايو 2006، أي بعد سنتين من قرار مجلس الأمن القومي في 2004 حول مكافحة حركة الخدمة، وبعد شهر من محاولات تنفيذ هذا القرار في أرض الواقع، إلا أن الرأي العام لم يسمع بهذه الرسالة إلا بعد الخلاف الذي ظهر بين الطرفين بسبب قضية الفساد في 2013. ومع أن اطلاع كولن على هذا القرار كان قبل عام 2006، لكن يبدو أنه انتظر حتى يتأكد مما إذا كانت حكومة أردوغان ستنفذ قرارات مجلس الأمن القومي أم لا، نظرًا لأن قرارات المجلس ليست إجبارية للحكومة بل هي عبارة عن “توصية” فقط من الناحية القانونية. لكن يبدو أنه لاحظ تحركات خلف الستار من أجل التمهيد لتطبيق هذا القرار تحت غطاء القانون، مما دفعه إلى بعث رسالة تحذيرية إلى أردوغان، عملاً بمبدإ “الأمر بالمعروف”، كما ورد في رسالته.
رسالة من كولن إلى أردوغان
أوضح شيمشاك أن كولن اتخذ قرار بعث رسالة إلى أردوغان بعد محاسبة ذاتية، حيث شرع في كتابة الرسالة قائلاً: “إنك تعلم يا ربّ أن مقصدي من هذه الرسالة ليس إلا القيام بواجب التنبيه والتحذير كشخص مسلم، وليست لي أي غاية سوى تحصيل رضاك. إني أخشى أن أواجه في الآخرة سؤال: “لماذا لم تحذره وتأمره بالمعروف”.
أول ما يلفت انتباهنا في الرسالة هو لغة الاحترام والإجلال التي تسود على كل جنباتها، إذ يخاطب دائمًا أردوغان بعبارات التوقير والإجلال من قبيل “سيادة رئيس الوزراء” و”شخصكم الموقر”، وغيرهما. ويبدأ كولن رسالته بالتنبيه إلى ظهور علامات التراجع عن مسار الديمقراطية ويستمر قائلاً: “لا بد أن أن أؤكّد أن توقيع الحكومة على خطة عمل معينة – للأسف الشديد – فتح جرحًا غائرًا في قلوب المسلمين كافة”، في إشارة منه إلى توقيع أردوغان مع جميع أعضاء مجلس وزراء حكومته على “خطة عمل لمكافحة حركة الخدمة” خلال اجتماع الأمن القومي في 2004، بما فيهم وزير العدل جميل تشيتشاك سالف الذكر.
كولن يحذر أردوغان بشأن الحجاب والمدارس الدينية
ثم يواصل كولن قائلاً: “فوق ذلك، فإن وقوفكم مكبل اليدين إزاء مشكلة الحجاب في القطاع العام والجامعات التي انقلبت جرحًا غائرًا لتركيا أيضًا، وعدم تمكّنكم من كسر الأغلال والسلاسل الموضوعة على أبواب مدارس الأئمة والخطباء (الدينية)، يصيب الفئات التي وضعت ثقتها فيكم واعتمدت عليكم بخيبة أمل كبيرة بشأن قدرتكم على حلّ هذه المشاكل. كادت الآمال في هذا الصدد تخبو فعلاً، ومن المحتمل أن الأمة التركية ستعتبر ذلك – بتوجيه من دعاية خصومكم – فشلاً كبيرًا وستحملكم فاتورة الإحباط في تطوير حلول ناجعة لتسوية هذه القضايا”.
كولن لأردوغان: قاوِموا بعزتكم أو مُوتوا أبطالاً في هذا السبيل!
ونرى أن كولن يخاطب أردوغان بأسلوب حكيم ليؤثر فيه، حيث يستعير ما قاله “نجيب فاضل”، الشاعر التركي الملقب بـ”سلطان الشعراء”، -الشاعر الذي يكنّ له أردوغان حبًّا شديدًا وسبق أن دخل السجن بسبب إنشاده أبياتًا من قصيدته-، لرئيس الوزراء الأسبق عدنان مندريس: “قاوِمْ بعزتك أو مُتْ بطلاً في هذا السبيل!”. إذ يتابع كولن بقوله: “قاوِموا بعزتكم أو مُوتوا أبطالاً في هذا السبيل! ولكن عليكم أن تحافظوا على سمعتكم مهما كلّف. ويمكنني أن أقول إن سعيكم للحفاظ على هويتكم الذاتية ومسيرتكم في الطريق كما بدأتم إنما ينطوي على أهمية كبيرة لشخصكم الموقر والشعب التركي على حد سواء، وإن كانت هناك عراقيل تحول دون تحقيق هذا الهدف السامي ولو كانت الوصولَ إلى منصب الرئاسة أو زعامة العالم كله”.
هذه الرسالة تكشف مخاوف كولن عن وقوع أردوغان تحت سيطرة الزمرة الحاكمة وانحرافه عن المكتسبات الديمقراطية التي حققها في ظل مساعيه الرامية إلى رفع المحظورات المفروضة على الفئات المتدينة خاصة، ضمن أهداف تحقيق المعايير الأوروبية في السياسة المدنية وتفعيل المجتمع المدني.