بقلم: منى سليمان
برزت في الأيام القليلة الماضية ثلاثة متغيرات إقليمية إستراتيجية ستحدد مستقبل الأزمة السورية التي أنهت عامها السادس بمقتل وتشريد أكثر من مليوني شخص مما يؤهلها لأن تكون أكبر أزمة إنسانية في القرن الواحد والعشرين، وتلك المتغيرات هي .. التوافق الأمريكي الروسي لحل الأزمة وقد برز جليًا عقب القمة التي عقدت بين الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” ونظيره الروسي “فلاديمير بوتين” على هامش قمة مجموعة العشرين بهامبورج بألمانيا (7-8) يوليو الحالي وأسفرت عن اتفاق “هدنة الجنوب” في سوريا والذي يقضي بوقف القتال في ثلاث محافظات هي (درعا، السويداء، القنيطرة)، والمتغير الثاني هو نتائج المفاوضات الدولية وكان آخرها الجولة الخامسة من مفاوضات الآستانة التي فشلت في تحقيق أهدافها إثر الخلاف التركي الإيراني الذي عرقل إصدار بيان ختامييحدد مناطق “تخفيف التوتر” وآلية نشر القوات بها، والمتغير الثالث هو هزيمة تنظيم “داعش”وتحرير مدينتي الرقة السورية والموصل العراقية بعد ثلاث سنوات من سيطرة التنظيم الإرهابي عليها مما يطرح العديد من التساؤلات حول الوضع السياسي والأمني بها في مرحلة “ما بعد داعش”، تلك المتغيرات الطارئة والإستراتيجية ستحدد مصير الأزمة السورية، ويمكن توضيح ذلك فيما يلي:
أولا: التوافق الأمريكي الروسي:
نجحت القمة الأمريكية الروسية التي عقدت على هامش قمة مجموعة العشرين في هامبورج بألمانيا، في إذابة الجليد الذي ساد بين موسكو وواشنطن في الآونة الأخيرة، حيث تميز اللقاء بين “بوتين –ترامب” بالتوافق والإيجابية، وقد استغرق ثلاثة أضعاف المدة المحددة له سلفًا مما يدل على التوافق الشخصي الذي ساد بينهما فور بدء اللقاء. وقد كانت الأزمة السورية حاضرة بقوة في قمتهما التي أسفرت عن اتفاق “هدنة الجنوب”،والذي يقضي بوقف إطلاق النار وأى أشكال قتالية في ثلاث محافظات سورية جنوبية هي (درعا، القنيطرة، السويداء) وإبعاد أى ميليشيات إيرانية أو جماعات مسلحة متحالفة مع طهران من المحافظات الثلاث. لاسيما وأن محافظتي(درعا والقنيطرة)شهدتا اشتباكات مستمرة منذ عدة أسابيع بين القوات الحكومة المدعومة بمليشيات أجنبية (قوات حشد الشيعية وهي تستقطب ميليشيات من الشيعة من افغانستان وباكستان) وعناصر من “حزب الله” اللبناني من جهة والمعارضة السورية المسلحة من جهة أخرى حيث تسعى كل جهة للسيطرة على تلك المدن.
وقد بدأ سريان الاتفاق الذي يتضمن تفاصيل أمنية وعسكرية وسياسية تتعلق بتقاسم النفوذ وأمن الحدود ومبني على عمودينالأول يبقي الرئيس السوري “بشار الأسد” في السلطة والثاني إبعاد إيران عن المناطق الحدودية السورية. اعتبارًا من يوم 9 يوليو الجاري، على أن يتم التنسيق الأمني لتنفيذه بالتعاون مع الأردن وإسرائيل لأن المحافظات الثلاث لها حدود مشتركة مع الدولتين. حيث كان الدافع الأول لإبرامه هو تجنب تسلل عناصر الجماعات الإرهابية لمحافظات جنوب سوريا ومنها إلى الحدود السورية الأردنية والسورية الإسرائيلية بما يهدد الأمن القومي لحليفتين هامتين لواشنطن وهما تل أبيب وعمان. وسيتم إجراء محادثات “أردنية- أمريكية- روسية” تتناول آليات تبادل المعلومات الإستخباراتية والجوانب الفنية لوقف إطلاق النار في جنوب سوريا.
وقد صرح وزير الخارجية الأمريكي قبيل الإعلان عن الاتفاق بيوم واحد بتصريح بالغ الأهمية وهو .. أن “واشنطن تركت مصير الأسد لموسكو” ورغم انتقاد “بوتين” لهذا التصريح إلا أنه يدل على مدى التنازلات والتوافقات التي تتم في الغرف المغلقة حول سوريا، فاتفاق “هدنة الجنوب” لم يأت صدفة رغم الإعلان المفاجئ عنه بل أتي بعد مفاوضات سرية بين موسكو وواشنطن أسفرت عن تنازلات أمريكية في الملف السوري لصالح موسكو سيقابلها مستقبلاً تنازلات روسية لصالح واشنطن، فما أكثر الملفات الإقليمية المتوترة بين القوتين ومنها (الملف السوري، المف النووي لكوريا الشمالية، ملف أوكرانيا، سباق التسلح ، تأمين دول البلطيق وشمال أوروبا). كل تلك الملفات تنتظر توافقا أمريكيا روسيا مماثلا لما حدث بالملف السوري، والقمة بين “بوتين – ترامب” قد وضعت اللبنة الأولى لحل تلك الملفات على قاعدة أساسها التوافق لتجنب أى صدام عسكري بين الطرفين.
وبهذا الاتفاق يكون هناك وقف لإطلاق النار وهدنة في جنوب سوريا بالإضافة لإتفاق “تخفيف التوتر” في أربع مناطق وسط وشمال سوريا وحال نجاح تلك الإتفاقات الجزئية سيمكن الإعلان عن هدنة شاملة ووقف إطلاق نار في كامل الأراضي السورية تمهيدًا لحل نهائي للأزمة السورية.
ثانيا: فشل مفاوضات “الآستانة 5”:
فشلت الجولة الخامسة من مفاوضات “الآستانة” في تحقيق هدفها المتمثل في تحديد خرائط مناطق “تخفيف التوتر” وطبيعة القوات التي ستنتشر فيها. (إتفاق “تخفيف التوتر” هو اتفاق أعلنت عنه موسكو وأنقرة وطهرانيوم 4 مايو 2017 لوقف إطلاق النار في أربع مدن سورية هي “حماة، إدلب، حلب، اللاذقية، حمص”). وفشل الجولة الخامسة من المفاوضات آثار المخاوف من عودة العنف للمدن الأربع مرة أخرى، وهذا الفشل أتى بفعل الخلافات التركية الإيرانية المتفاقمة من جهة، والخلافات التركية السورية من جهة أخرى، فضلاً عن اعتراض بعض جماعات وفصائل المعارضة السورية المسلحة على آلية الآستانة كمسار تفاوضي مواز لجنيف.
وفيما يخص الخلاف السوري التركي، فقد تفاقم مؤخرًا بعدما حذرت دمشق أنقرة من الدفع بقوات عسكرية جديدة في “عفرين” شمال سوريا لمنع تقدم قوات “سوريا الديمقراطية” (وهي قوات كردية عربية) فيها، كما اتهمت دمشق أنقرة بالتسبب في فشل “الآستانة 5” عبر عرقلة الموافقة على وثائق تهدف إلى تطبيق خطة مناطق “خفض التوتر”، فردت أنقرة بدورها على تحذيرات دمشق وجددت مطالبها بضرورة رحيل “الأسد”. وفيما يخص الخلاف التركي الإيرانيتريد أنقرة تعزيز وجودها العسكري في مناطق “خفض التوتر” بينما سعي “بوتين” لاحتواء الرغبة الإيرانية في الانفراد بالقرار العسكري بسوريا عبر التأكيد على أهمية الدور التركي في إدلب وريف حلب وشمال سوريا لإبرام اتفاق “تخفيف التوتر”، كما نفي “بوتين” أن يكون الهدف من إقامة هذه المناطق هو تقسيم سوريا، بل شدد على أهمية الحفاظ على وحدة البلاد، وهو ما نتج عنه فتور إيراني روسي من جهة أخرى لأن طهران تسعى لتقسيم سوريا لضمان تنفيذ الهلال الشيعي الذي تطمح إليه عبر امتداد الطريق البري من طهران مرورًا ببغداد وبيروت ثم سوريا وصولا للبحر المتوسط.
وفي ختام “الأستانة 5” أعلنت موسكو عن الاتفاق المبدئي على حدود منطقتين في محافظة حمص والغوطة الشرقية يمكن نشر قوات حفظ سلام أجنبية فيهما، ورغم ذلك تبقى عدة نقاط رئيسية خلافية عالقةحول تنفيذ اتفاق “تخفيف التوتر” ومنها .. تحديد الدول التي ستعمل على ضمان الأمن في هذه المناطق عبر نشر قواتها وحجم وعدة وعتاد هذه القوات العسكرية، وإدارة الخلافات بين القوى الإقليمية المعنية بالازمة وهي إيران وتركيااللتين تسعيان لتعزيز نفوذهما العسكري والسياسي في سوريا.وأخيرا رفض بعض فصائل المعارضة السورية المسلحة الاعتراف بآلية “الآستانة” كمسار تفاوضي مواز لجنيف وبالتبعية ترفض الالتزام بنتائج المفاوضات أو تنفيذها.
ومن المنتظر الاتفاق على حدود مناطق تخفيف التوتر وآليات العمل فيها، وجنسية وعدد القوات التي سيتم نشرها في تلك المناطق، خلال الجولة المقبلة “الآستانة 6” في نهاية أغسطس 2017، ومن الضروري إنجاح الجولة المقبلة حتى لا يكون مصير الاستانة هو مصير جنيف من عقد جولات تفاوضية دون نتيجة تذكر، حيث بدأت جولة جديدة من مفاوضات جنيف في 10 يوليو 2017 بيد أن الفشل سيكون مصيرها في ظل انقسام المعارضة السورية بين عدة وفود يعبر كل منها عن توجهات متباينة فهناك معارضة (موسكو، الرياض ، القاهرة) مما يشتت جهد المعارضة أمام الموقف السوري الحكومي الثابت وهذا ينذر بفشل الجولة الجديدة من جنيف.
ثالثا: هزيمة “داعش” بالرقة والموصل:
أعلن رئيس الوزراء العراقي “حيدر العبادي” تحرير كامل مدينة الموصل من تنظيم “داعش” وكذلك أعلنت دمشق تحرير مدينة “الرقة” من “داعش”، ومازالت القوات النظامية السورية تتقدم نحو مطار “الطبقة العسكري” في ريف الرقة الغربي على أن تستكمل ملاحقة عناصر التنظيم في مدن تواجده. ورغم أن الحكومة السورية لها وجود رمزي في محافظة الحسكة (مدينتي الحسكة والقامشلي)، إلا أن السيطرة الفعلية في كل شمال سوريا من الحسكة شرقاً مروراً بالرقة وريفي حلب الشمالي الشرقي (كوباني ومنبج) والشمالي الغربي (عفرين)، هي في الواقع لفصيل واحد لا منافس له هو “قوات سوريا الديمقراطية”أو “قسد” التي كان لها الفضل الأكبر في تحرير مدينة الرقة ومدن شمال سوريا من سيطرة قبضة “داعش” وهذه القوات تتشكل من .. “وحدات الحماية الشعبية” الكردية وتحالف فصائل سورية يشمل مقاتلين (عرب،أكراد، سريان،وتركمان) ينتمون إلى ما يعرف “بقوات الصناديد” و”المجلس العسكري السرياني” و”وحدات حماية المرأة” و”جيش الثوار” السوري.وتتلقى تلك القوات دعمًا أمريكيًا لوجيستيًا وعسكريًا حيث أرسلت واشنطن أكثر من 100 مستشار عسكري لمعاونتها كما أنها تمدها بالأسلحة المتطورة بإستمرار مما أثار اعتراض أنقرة التيتعدها الفرع السوري المسلح من حزب “العمال الكردستاني” وتعتبرها فصائل إرهابية ولذا تسعى أنقرة للتدخل العسكري في شمال سوريا لمنع “قسد” من السيطرة عليها.وجدير بالذكر أن الدعم الأمريكي لقوات “قسد” كان له الفضل المباشر في تقدم تلك القوات وتحقيقها الانتصارات المتتالية على “داعش”، ولذا سيكون لها الكلمة العليا في تحديد وتقاسم مناطق النفوذ وهناك احتمالات لإنقسام تلك القوات على نفسها ومحاربتها بعضها البعض لاسيما بين الفصائل الكردية والعربية بعد تحرير كامل المدن السورية من “داعش”.
ويجب الإشارة إلى أن هزيمة “داعش” في المدينتين لا تعني أن التنظيم قد أنتهي بل أنه تراجع فقط وبقيت جيوبه المنتشرة في كل مدن العراق وسوريا، وقد لجأ “داعش” لتكتيكات جديدة بعد هزائمه حيث نفذ نحو 1500 اعتداء إرهابي في 16 مدينة بكل من العراق وسوريا، بعد إعلان تحريرها من سيطرة عناصر التنظيم المسلحة في الشهور الأخيرة، في مؤشر واضح إلى أن جذور التنظيم الإرهابي لا تزال موجودةوستستمر في تهديد الأمن بتلك المدن على المدى القصير والمتوسط.
وختامًا، نجد أن الأزمة السورية أصبحت رهينة لروسيا التي نجحت في التوصل لإتفاق “هدنة الجنوب” ورغم إحتمالات تخريبه من قبل إيران لانها المستهدفة منه بشكل مباشر، إلا أنه بدء سريانه بنجاح. كما أن موسكو أستطاعت من خلال التدخل العسكري في سوريا من بسط سيطرتها العسكرية على بعض المناطق المطلة على البحر المتوسط، ومن خلال المسار السياسي ومفاوضات “الآستانة”أستطاعت إنشاء مسار مواز لمفاوضات جنيف التي خضعت لسيطرة غربية بل وانتزعت اعترافًا دوليًا بنجاح الآستانة مما يؤكد أن موسكو أصبح لها اليد العليا والكلمة الفصل في الملف السوري، وحال إستمرار التوافق الأمريكي الروسي لتسوية الأزمة فإن ذلك سينتج عنه حل وسطي ربما يبق على “الأسد” بالسلطة عبر إجراء انتخابات رئاسية جديدة ولكنلن يحقق للمعارضة السورية ما تبغاه.
*باحثة دكتوراه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، باحثة متخصصة بالعلاقات الدولية والشأن التركي