بقلم: منى سليمان
كثر الحديث عن الأزمات التي تلاحق مسارات السياسة الخارجية التركية في الآونة الأخيرة، فمنذ شهرين وأكثر تعمد الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” افتعال الأزمات في دوائر السياسة الخارجية لبلاده حتى يستغلها لحشد الناخبين قبل الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وبعد حصول “أردوغان” على مبتغاه بالموافقة على التعديلات الدستورية بنسبة (51.5%) والتي سيتم بمقتضاها تحويل نظام الحكم بالبلاد للنظام الرئاسي وتكريس كافة الصلاحيات التنفيذية بيده، اتسعت دوائر الأزمات التي عجزت أنقرة عن احتوائها، وليس آخرها وأهمها الانحياز التركي الواضح للدوحة في أزمتها الأخيرة ذلك الموقف الذي يهدد تركيا بخسارة حلفائها الخليجيين الأمر الذي سيكون له العديد من التداعيات السياسية والاقتصادية على البلاد. ويمكن رصد أهم الأزمات في السياسة الخارجية التركية وخيارات معالجتها كما يلي:
أولا:الأزمات الراهنة بالسياسة الخارجية التركية:
1- الأزمة القطرية:وهي أزمة مركبة كاشفة، مركبة حيث نتج عنها أزمات أخرى متعددة أبرزها الأزمة في العلاقات التركية الخليجية، وكاشفة لأنها كشفت عن الدور الخفي لقطر في العبث بالأمن القومي الخليجي والعربي وهو ما لا يمكن تقبله من الرياض والقاهرة وأبوظبي. ومنذ بدء الأزمة القطرية بعدما اتخذت الدول الأربع (السعودية، الإمارات، البحرين، مصر) قرارًا بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة، بادر “أردوغان” بعرض وساطته والدعوة لحل النزاع، ثم سرعان ما بدأت خطوات انحيازه للدوحة عبر تعزيز القوات العسكرية التركية بالإمارة الخليجية، ثم تسيير جسر جوي لنقل مختلف السلع لقطر ثم تحويله لجسر بحري، وقد ضرب “أردوغان” بعرض الحائط كل التحذيرات الخليجية من احتمالات فرض عقوبات مماثلة على تركيا نظرًا لعلاقاتها مع الجماعات الإرهابية وهي نفس الاتهامات الموجهة للدوحة وكانت سببًا رئيسيًا في قطع العلاقات معها. بيد أن الرئيس التركي قد آثر المحافظة على علاقته مع الدوحة، مما صعد الخلاف بينه وبين الرياض وأبوظبي اللتين هددتا بقطع العلاقات مع أنقرة وسحب الاستثمارات السعودية والإماراتية من تركيا وهو مايعرض الاقتصاد التركي المتأزم لانتكاسة كبيرة لن يتحملها. ولن تتمكن الدوحة التي تعاني من أزمة اقتصادية وسياسية بدورها مع أكبر جيرانها الخليجيين من تعويض أنقرة عن تلك الخسائر مهما بلغت حجم الاستثمارات القطرية التي سيتم ضخها مستقبلًا في الاقتصاد التركي. ولذا فإن التوسط التركي في الأزمة أتى بنتائج عكسية وأسفر عنه أزمة موازية في العلاقات التركية الخليجية وأزمة تركية مع عدد من دول المنطقة.
2- الخلاف الروسي التركي على تقاسم النفوذ بسوريا: شهدت بداية العام الحالي 2017 تقارًبا تركيًا روسيًا ملحوظًا بعد احتواء البلدين لأزمة إسقاط الطائرة الروسية بشمال سوريا على يد عسكريين أتراك، ثم بدأ توافق بين الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” ونظيره التركي “أردوغان”،حول الملف السوري أسفر عنه الاتفاق الثلاثي “الروسي التركي الإيراني” ثم اتفاق “تخفيف التوتر”أو المناطق الآمنة لوقف إطلاق النار في 14 مدينة سورية. وهذ كله تم في مفاوضات آستانة التي مثلت مسارًا موازيًا لمفاوضات جنيف لحل الأزمة السورية، هذا كله لا يمثل تحالفًا قويًا بين أنقرة وموسكو بل ما نتج بينهما هو تحالف هش وعلاقات متوترة فلا توجد مصالح إستراتيجية بين الطرفين سوى الملف السوري، وقد بدأ الخلاف بين الطرفين عقب النجاحات التي حققها الجيش العربي السوري على الأرض والتراجع الملحوظ الذي أصاب قوات المعارضة السوريةالمدعومة من أنقرة، مما يعرض التحالف الهش بين أنقرة وموسكو للانهيار ويهدد بعودة الخلافاتوالتنافس التاريخي بين الدولتين لتقاسم النفوذ بسوريا بعد هزيمة “داعش” وتراجع قوى المعارضة السورية.
3- توتر تركي أمريكي: لم تنته أصداء زيارة الرئيس التركي “أردوغان” لواشنطن،فضلًا عن فشلها في حل أى خلاف قائم بين البلدين، إلا أن الزيارة قد أضافت أزمة جديدة في العلاقات التركية الأمريكية بعد تعرض حراس “أردوغان” لتظاهرة وضرب المتظارهين مما دفع الكونجرس الأمريكيلإصدار قرار لمنع دخول حراس “أردوغان” مرة أخرى للبلاد والمطالبة بتسليمهم ومحاكمتهم.كما كشف رئيس لجنة العلاقات الخارجية وعضو الكونجرس الأمريكي عن حزب الجمهوريين “إد رويس” أن هذه هي المرة الثالثة التي يرتكب فيها حرسه الشخصي مثل تلك الأفعال في الولايات المتحدة الأمريكية، ولذا يجب محاكمتهم. وهو مارفضه “أردوغان”بل وسخر منه ماضاعف الفتور في العلاقات بين البلدين.كما أنالخلافات بين واشنطن وأنقرة على أشدها.. وتتمحور حول زيادة الدعم اللوجيستي والعسكري الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية الكردية في شمال سوريا وتقدم تلك الأخيرة في الرقة مساع أنقرة لشن حملة عسكرية للسيطرة على (عفرين)شمال سوريا لمنع تقدم القواتالكردية هناك وهو ما ترفضه واشنطن.
4- فتور العلاقات التركية الأوروبية:كان الخلاف التركي الهولندي هو حجر الأساس الذي استغله “أردوغان” لحث الناخبين للموافقة على التعديلات الدستورية عبر إثارة حسهم القومي والوطني والترويجلوجود مؤامرة أوروبية ضد بلادهم وهو ما أسفر عن تمرير التعديلات الدستورية. بيد أن العلاقات مازالت متوترة، وقد زادت الأزمات التركية الأوروبية بعد قرار ألمانيا بسحب قواتها من قاعدة “إنجيرليك” التركية، مما يهدد عمل القاعدة العسكرية التي تعد منطلقًا لقوات حلف “الناتو” في تركيا، وحتى الآن لم يعلن الحلف عن موقفه النهائي من القرار الألماني وما هو مستقبل عضوية تركيا بالحلف الذي تتعمد إثارة الخلافات مع كل أعضاءه .. وهناك الأزمات المزمنة بين تركيا والقارة العجوز، ومنها القضية القبرصية التي ترفض أنقرة أى حل فيها حتى الآن، وكذلك رفض تركيا الاعتراف بجرائم الإبادة الجماعية ضد الأرمن رغم الاعتراف الأوروبي بها.
5- الخلافات المستترة مع إيران:رغم أن اللقاءات بين “أردوغان” ونظيره الايراني “حسن روحاني” لا تنقطع والتنسيق الأمني والسياسي بينهما مستمر دائما، إلا أن هناك العديد من الأزمات المستترة بين أنقرة وطهران لا تظهر للعيان ومنها .. الخلافات حول تقاسم النفوذ في بحر قزوين، وفي سوريا لاسيما بعد إسقاط تنظيم “داعش”، كما أن المراقبين قد أكدوا على تصاعد التغلغل الإيراني الاقتصادي والثقافي داخل المجتمع التركي، وهو ما سينتج عنه العديد من الأزمات بين البلدين مستقبلاً.
6- الخلافات مع العراق:تميزت العلاقات التركية العراقية بالفتور والتوتر خلال العاميين الماضيين، وتحديدًا منذ تعزيز تركيا لقواتها العسكرية في معسكر “بعشيقة” بشمال العراق في نهاية عام 2015 لتدريب القوات الكردية لمحاربة “داعش”، وهو ما رفضته بغداد وطالبت أنقرة بسحب قواتها، وهذا لم ينفذ حتى الآن، كما أن تهديدات “أردوغان” المتكررة بالتدخل العسكري في العراق تثير استياء الحكومة العراقية باستمرار.
7- توقف مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي: نشرت الجمعية البرلمانية بالمجلس الأوروبي تقريرًا حول الأوضاع في تركيا بعنوان “أداء المؤسسات الديمقراطية في تركيا” وأكدت تصاعد انتهاكات حقوق الإنسان التي شهدتها تركيا في الفترة الأخيرة، فضلا عن العوار الذي يعيق عمل المؤسسات الديمقراطية في تركيا، والسلبيات في عمل دولة القانون. هذا كما انتقدت إعلان “أردوغان” عن عزمه إعادة العمل بعقوبة “الإعدام”، رغم علمه أن ذلك ربماينهي الآمال الضعيفة الباقية لانضمام بلاده للاتحاد الأوروبي.
8- أزمة حركة “غولن”: تتجاهل معظم دول العالم مطالبات “أردوغان” بغلق مدارس حركة “الخدمة” التابعة للمفكر الإسلامي التركي “فتح الله غولن”أو تسليم مدرسيه، وهذا لخطأ كافة الاتهامات الموجهة من أنقرة و”أردوغان” للحركة، وهو ما كشفه وزير الخارجية الألماني “زيجمار جابرييل” الذي أكد أن بلاده ودول الاتحاد الأوروبي طلبت من تركيا أكثر من مرة أن تقدم أدلة قانونية مادية تثبت اتهاماتها ضد “الخدمة”، وهو ما لم يتحقق حتى اللحظة.
ثانيا: خيارات معالجة أزمات السياسة الخارجية التركية:
ومما سبق نجد أن تركيا لها أزمات متفاقمة مع كل دول الجوار التركي، وكل الدول الكبرى مما يتطلب منها تكثيف جهودها الدبلوماسية لاحتواء تلك الأزمات،لأنها لن تتحمل العواقب السياسية والاقتصادية والدبلوماسية للتصعيد المستمر في علاقاتها مع مختلف دوائر سياستها الخارجية، وتتلخص مؤشرات الاحتواء والتصعيد في:
- مؤشرات احتواء أنقرة للأزمات:
إذا أراد “أردوغان” تصويب مسارات سياسته الخارجية عليه أن يلجأ إلى..
* احتواء أزمته مع واشنطن عبر تنسيق سياساتها مع الإدارة الأمريكية الجديدة،لاسيما فيما يخص الأزمة القطرية والوضع السوري، خاصة بعد الاتصال الهاتفي الأخير بين “أردوغان”والرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”.
* التهدئة مع الاتحاد الأوروبي.. ربما تتم خلال عقد قمة العشرين المقررة في منتصف يوليو 2017، حيث أرسلت ألمانيا دعوة “لأردوغان” لحضور القمة التي ستعقد في مدينة هامبورج الألمانية، وقد قبلها الأخير، مما يدل على رغبة الطرفين في إنهاء صفحة الخلافات بينهما، كما على “أردوغان” تخفيف حدة خطابه السياسي الموجه للدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي.
*تعزيز العلاقات التركية الأفريقية التي شهدت طفرة كبيرة خلال العقد الماضي استناداً إلى مبدأ الربح المتبادل، وقيمة هذه الاستثمارات فاقت 6 مليارات دولار.
2- مؤشرات تصعيد أنقرة للأزمات:
إذا أراد “أردوغان” تصعيد أزماته الخارجية عليه أن يلجأ إلى ..
*التصعيد في الأزمة القطرية:”أردوغان” متمسك برأيه منذ البداية في الأزمة ويرى أنها فرصة يجب استغلالها لبسط نفوذه على الدوحة والظهور بمظهر الحامي لها.حتى لو كلفه ذلك معاداة الدول الخليجية والعربية كلها.
* استكمال العمليات العسكرية في سوريا والعراق: بعد انتهاء عملية “درع الفرات” أعلن “أردوغان” عن عملية عسكرية جديدة هي “درع دجلة” في العراق لمواجهة تقدم القوات الكردية في شمال العراق، حيث إنها سيطرت على مدينة سنجار، فضلا عن تواجدها السابق في “جبال قنديل”، كما تسعى وحدات “حماية الشعب الكردي” الموصوفة بأنها امتداد لحزب العمال الكردستاني في سوريا، لتشكيل جيش قوامه 100 ألف مقاتل، وبناء قوتها المسلحة وفق نظام (الوحدة – الكتيبة- الفوج، إلى جانب تشكيل ألوية آلية مدرعة)، وهو ما يمثل تهديدًا جديًا للأمن القومي التركي لن تقبله.
* الإعلان رسميا عن إنهاء مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي: ولكنها ستبقىفي الاتحاد الجمركي الأوروبي في المستقبل المنظور وستستمر التجارة بين الطرفين، ولكن علاقتهما ستقتصر على الأعمال التجارية.
*مكافحة الإرهاب:تركيا ستتعرض لعدد من العمليات الإرهابية في المرحلة المقبلة لعدة عوامل، منها انتشار عناصر داعش بعد هزيمتهم النكراء في الرقة والموصل، فضلا عن تصاعد العداء بينها وبين حزب العمال الكردستاني والأكراد في سوريا حيث توعدهم “أردوغان” بشن المزيد من العمليات على مواطن تمركزهم في سوريا والعراق لمحاربة الإرهاب.
*باحثة دكتوراه بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، باحثة متخصصة في العلاقات الدولية والشأن التركي