إعداد/ منى سليمان
تلوح في أفق سماء العلاقات التركية الخليجية مؤشرات أزمة مستترة بين أنقرة من جهة وبين (المملكة العربية السعودية، دولة الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين)، ونتجت تلك الأزمة بعد الانحياز التركي الواضح لقطر عقب قرار الدول الثلاث قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة ومقاطعتها الأمر الذي انتقده الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، ثم توالت التصريحات الخليجية والتركية التي تعبر عن استياء كل طرف من موقف الآخر خلال الأزمة، ثم جاء الرفض السعودي لإقامة قاعدة عسكرية تركية في المملكة وهو رفض حمل سخرية من العرض التركي، ليؤكد وجود أزمة بين الرياض وأنقرة أصبحت واضحة جلية للعيان، فهل ستتفاقم وتقرر الدول الخليجية الثلاث معاقبة تركيا التي تحوم حولها الشكوك بدعم الإرهاب مثلها مثل حليفتها قطر، أم سيتم تدارك الأزمة وتحافظ تركيا على المسافة الآمنة التي تضمن لها الحياد في علاقاتها مع كل الدول الخليجية، هذا ما سنسعى لتوضيحه فيما يلي:
أولا: مؤشرات تأزم العلاقات التركية الخليجية:
مؤشرات تأزم العلاقات التركية مع المحور السعودي الإماراتي أصبحت واضحة تماما من خلال تبادل تصريحات من قبل المسؤولين الخليجيين والأتراك تعبر عن مدى استياء كل طرف من ردود فعل الطرف الآخر عقب قرار (الرياض، ابوظبي، المنامة، القاهرة) يوم 5 يونيو 2017 بمقاطعة الدوحة وقطع العلاقات الدبلوماسية معها وحظر السفر برًا وبحرًا وجوًا من وإلى قطر، ومن مؤشرات التأزم التركي الخليجي:
*تبادل الانتقادات علنًا: كرر “أردوغان” تصريحاته المنتقدة لقرارات الدول الخليجية بمقاطعة الدوحة، والمؤيدة لأمير قطر “تميم بن حمد” ولنظام الحكم، ومنها .. “عزل قطر وما يشمله من استخدام العقوبات لن يحل أي مشكلات، إقصاء شعب دولة ليس عملا إنسانيا ولا إسلاميا، عزل قطر يشبه حكم الإعدام”، وهي انتقادات حادة مباشرة للرياض ولقيادتها السياسية. وقد رد عليها وزير الخارجية السعودي “عادل الجبير” بان الدول الخليجية قادرة على حل خلافاتها، وإنها لم تطلب أي وساطة خارجية. كما انتقد وزير الدولة الإماراتي “أنور قرقاش” مساعي الدوحة لتدويل وأقلمة الأزمة، والاستعانة بقوات خارجية لحمايتها لأن القرارات ضد الدوحة لم ولن تشمل اى عمل عسكري.
*اتهام وسائل إعلام تركية الإمارات: بتمويل الانقلاب العسكري المزعوم فى تركيا 15 يوليو 2015، وهي اتهامات عارية من الصحة بل ومضحكة ولا يوجد دليل قانوني عليها، وفرضًا أنها صحيحة لماذا يتم الكشف عنها الآن بعد أزمة مقاطعة قطر إلا إذا كان الهدف منها هو تشويه صورة دولة الامارات والتشكيك في مصداقيتها لصالح قطر وتركيا.
*تبادل الانتقادات بوسائل الإعلام: فوسائل الإعلام الخليجية انتقدت التواجد العسكري التركي بقطر ونظيرتها التركية انتقدت الموقف الخليجي من قطر.
*انتقاد الدول الخليجية إرسال قوات عسكرية تركية للدوحة، بالرغم من أن أنقرة لها قاعدة عسكرية بقطر وبها 150 جنديا بيد أن قرار أنقرة بإرسال قوات في ظل الأزمة الحالية هو دليل على استعداد تركيا للمواجهة العسكرية مع قوات سعودية أو إماراتية حال تدخلهم في قطر، وكانت تركيا قد أقامت قاعدة عسكرية في قطر كجزء من اتفاق تم توقيعه بين البلدين عام 2014. وفي عام 2016 زار أحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء التركي آنذاك، القاعدة التي تمركز فيها 150 جنديا. من المقرر أن يرتفع العدد ليصل إلى 3000 جندي. كما وافقت الدوحة عقب أزمتها مع دول الخليج على اعتبار القاعدة التركية المؤقتة على أراضيها قاعدة دائمة. وحتى الآن الجنود الأتراك لم يقوموا بأي تدخل وإنما يقتصر دورهم على مهام التدريب والمناورات المشتركة. ويشمل اتفاق بين الطرفين تمركز قوات برية وبحرية وجوية تركية على أراضي قطر وتشكيل لجنة عسكرية مشتركة يرأسها ضابط قطري وتركي.
*فشل الجولة الخليجية لوزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو”: التي شملت (قطر، الكويت، السعودية) في حل الأزمة الخليجية – الخليجية، حيث لقى استقبالا رسميا باردا من الكويت ومثله في الرياض، كما عبر المسؤولون السعوديون عن استيائهم وانتقادهم من عرض “أردوغان” إنشاء قاعدة عسكرية تركية في المملكة، لأنها تملك جيشا وطنيا قويا ويتواجد فيها قواعد عسكرية أمريكية يمكنها حمايتها ضد أى تهديد خارجي، كما أن تركيا لها قاعدة عسكرية في قطر فكيف ستكون حليفا لطرفين متخاصمين وهما قطر والسعودية، وهذا يعبر عن استمرار الازدواجية في السياسة الخارجية التركية، وهي نفس الازدواجية التي كانت سمة من سمات السياسة الخارجية القطرية والأخيرة تدفع ثمنها الآن فهل سيأتي الدور على تركيا؟
*التقارب التركي الإيراني عقب الأزمة: غداة إعلان الرياض عن قرار مقاطعة قطر، قام وزير الخارجية الإيراني “محمد جواد ظريف” بزيارة أنقرة، وسط شائعات عن رغبة تركية إيرانية في تشكيل محور يضم (أنقرة، طهران، الدوحة، بغداد) في مواجهة المحور السعودي الإماراتي البحريني المصري. وهو ما آثار استياء الرياض وأبو ظبي.
وعندما استشعرت أنقرة بوادر الأزمة في علاقاتها مع الرياض وأبوظبي وتصاعد حدة الخطاب السياسي بين مسؤولي أنقرة من جهة ومسؤولي الدولتين الخليجيتين المؤثرتين من جهة أخرى، سعى وزير الخارجية التركي لتدارك الأمر عبر عدة تصريحات تعيد الحياد للموقف التركي في الأزمة القطرية ومنها تأكيده أن القوات التركية في الدوحة تهدف لحفظ الاستقرار والأمن في الخليج وهو تصريح مثير للسخرية! هل دول الخليج بحاجة الى ما يقرب من 400 جندي تركي لحفظ أمنها وهي تملك جيوشا وطنية وقواعد عسكرية أمريكية ولها تحالفات مع دول كبرى بالمنطقة مثل باكستان ومصر التي يحتل جيشها المركز العاشر عالميًا. ورغم جهود “تشاويش أوغلو” وجولته الخليجية إلا انه فشل في احتواء التوتر المستتر في العلاقات التركية الخليجية، فهل ستظهر أزمة جديدة للعلن حال حل الأزمة الرئيسية بين قطر والدول الخليجية؟ فالرياض وأبوظبي لن تنسيا موقف “أردوغان” الداعم للدوحة ضدهم، بيد أن الطرفين يحافظان على “شعرة معاوية” حتى الآن فكل منهم لديه ما يكفيه من المشكلات الآنية فالدول الخليجية تسعى لبحث تداعيات أزمة قطر، وتركيا لديها أزماتها الداخلية وأبرزها تراجع المعدلات الاقتصادية والوضع السياسي الانتقالي الذي تمر به قبل تطبيق النظام الرئاسي في الحكم عام 2019، وخارجيًا فالعلاقات التركية الأوروبية مازالت متأزمة والملف السوري لا يراوح مكانه دون حل رغم التقدم الملحوظ في تطبيق اتفاق مناطق تخفيف التوتر، وهي ملفات لها الأولوية لدى أنقرة ولا تملك أن تضيف لهم أزمة جديدة مع دولة محورية بالمنطقة كالمملكة العربية السعودية. ولهذه الأسباب ستبقي الأزمة التركية الخليجية مستترة والتوتر تحت السيطرة في ظل علاقات يسودها الفتور حتى إشعار آخر.
ثانيا: أسباب مساندة “أردوغان” لقطر:
قدم الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” الدعم علانية لقطر في أزمتها مع دول مجلس التعاون الخليجي، بل إن السلوك التركي في الأزمة تميز بالسرعة في رد الفعل والانحياز الكامل لقطر، ولذا لم تهتم الرياض وأبوظبي بعرض الوساطة التركية لحل الأزمة لأنها لن تكون وسيطا محايدا ونزيها، فما هو سبب هذا الانحياز ولماذا تعد قطر أقرب دولة خليجية لتركيا؟ يمكن تفسير ذلك من خلال:
*هناك تحالف إستراتيجي بين تركيا وقطر، ففي ديسمبر 2014 أعلن عن تأسيس مجلس التعاون الإستراتيجي التركي القطري خلال زيارة أمير قطر “تميم” لأنقرة بغية الارتقاء بالعلاقات الثنائية بين البلدين في مجالات الطاقة والاستثمار، خاصة شراء تركيا للغاز القطري المسال بأسعار أقل من العالمية لسد احتياجات الاقتصاد التركي المتصاعدة من الطاقة. وفي مطلع عام 2015 شهدًا تطورًا هامًا ولافتًا، يتمثل في توقيع أول اتفاق تركي قطري لإقامة قاعدة عسكرية تركية بقطر لتكون تلك أولى القواعد العسكرية التركية في دولة خليجية.
*تقارب أهداف السياسة الخارجية لكل من الدوحة وأنقرة، “فأردوغان” يؤمن بحل إسلامي راديكالي لكل المشاكل التي تعاني منها دول المنطقة. والدوحة كذلك والدولتان يقدمان دعمًا علنيًا لجماعات الإسلام السياسي رغم تصنيف بعضها كإرهابية، ومنها جماعة “الإخوان المسلمين”، وحركة “حماس” الفلسطينية، وهناك تطابق في مواقف البلدين من الملف السوري واليمني والليبي.
*هناك تعاون تركي قطري في تمويل الجماعات الإرهابية بالمنطقة ومنها “داعش، النصرة، القاعدة”، حيث تقدم قطر التمويل المالي وتقدم تركيا الدعم اللوجيستي لهم للعبور من محافظات جنوب تركيا للأراضي السورية، وهناك المئات من التقارير الاستخباراتية الدولية الموثقة المؤكدة لذلك.
*مازالت أحلام إعادة أمجاد الدولة العثمانية تلاعب خيال “أردوغان” ولم يقتنع حتى الآن أن الإمبراطورية العثمانية قد انتهت، حيث أنه يرى في تعزيز نفوذه السياسي والعسكري بقطر جزءًا من بسط نفوذه بالمنطقة وتحقيق حلمه في إعادة أمجاد العثمانيين، وهذا خطأ سياسي كبير والأحرى به الاهتمام بالجمهورية التركية ومراعاة مصالحها الداخلية والخارجية، فمن غير المنطقي معاداة دولتين بثقل وأهمية السعودية والإمارات لصالح قطر.
*الإستثمارات القطرية الضخمة في تركيا: يراهن “أردوغان” في غالبية مشاريعه على دور إستثماري قطري كبير ومهم اقتصادياً وسياسياً، لإنقاذ إقتصاد بلاده المتراجع خلال النصف الأول من العام الحالي، فوفق صحيفة “حريت” التركية، فالإستثمارات القطرية في تركيا والتي بلغت (9,5) بليون دولار، ووفق المسؤولين القطريين يتحدثون عن ضخ 18 بليوناً في السوق التركي.
*العلاقات الشخصية القوية: يتمتع “أردوغان” بعلاقات ممتازة مع أمير قطر “تميم بن حمد” ووالده “حمد آل ثاني”، كما يرغب أردوغان” في رد الجميل لقطر بعدما وقفت إلى جانب تركيا في أزمة المحاولة الإنقلابية المزعومة. كما أن هناك بنداً سرياً في اتفاقية إنشاء القاعدة العسكرية التركية بالدوحة ينص على تعهد تركيا بحماية “أمير قطر”.
*التقارب السعودي المصري الإماراتي: والتوافق الكبير في وجهات نظرهم يثير قلق وحفيظة “أردوغان” الذي كان يرغب في تبوأ المقعد المصري في هذا التحالف الثلاثي، ولذا رغب في تعزيز تحالفه مع قطر وإيران ليكون تحالف إقليمي يواجه التحالف السعودي.
*التواجد الأخواني بتركيا: وهو تواجد مكثف ومنتشر بالمجتمع التركي ودوائر صنع القرار ووسائل الإعلام بل وحتى أنهم إنتشروا بين أئمة المساجد، ولهذا أصبحوا يوجهون جزءًا من الرأى العام التركي وصناع القرار، وبالطبع فإن الموقف الإخواني مؤيد وداعم لقطر بشكل كبير في تلك الأزمة وربما يكون قد أثر على الموقف التركي.
ثانيا: مستقبل العلاقات التركية الخليجية:
الأزمة القطرية لا تتجه للحل، فتمسك الدوحة بموقفها ورفضها للشروط السعودية لإعادة العلاقات قد صعد الموقف وزاد من تعقيده استقواء الدوحة بقوات إيرانية وتركية لنجدتها، رغم تأكيدات سعودية إماراتية مصرية باستحالة قيامهم بأى عمل عسكري ضد الدوحة، وأن الهدف الأساسي من المقاطعة هو الضغط السياسي والاقتصادي على الدوحة لتغير سلوكها الخارجي الذي أساء لدول خليجية وعربية.
وبالتبعية فإن التوتر المستتر في العلاقات التركية الخليجية سيستمر، وسيرتبط مستقبل العلاقات التركية الخليجية بمستقبل حل الأزمة القطرية، بيد أن أنقرة والرياض سيعملان في المرحلة الحالية على حل الخلافات البينية والحفاظ على الحد الأدني من العلاقات لمنع تفاقم الأزمة، وهناك العديد من التداعيات السلبية التي تهدد مستقبل العلاقات التركية الخليجية ومستقبل الدولة التركية ككل حال استمرت على مساندتها للدوحة في الازمة الحالية ومنها:
*تراجع الاستثمارات الخليجية لتركيا: بلغ حجم التبادل التجاري بين الرياض وأنقرة نحو 8 مليارات دولار سنويا فضلا عن تدفق 250 ألف سائح سعودي لزيارة تركيا سنويا. وإذا أرادت المملكة معاقبة تركيا فإن إقتصادها المتأزم لن يحتمل مثل ذلك العقاب، وقد بدأت إرهاصاته الأولى بقرار عدد من السياح السعوديين بإلغاء سفرهم لتركيا.
*حدوث أزمة خليجية تركية سيؤدي إلى مضاعفة دوائر الفتور في العلاقات الخارجية التركية، مع عدد من دوائرها الخارجية التي تدعم مقاطعة قطر، ومنها الولايات المتحدة الامريكية وبعض الدول الأوروبية، لأن الموقف التركي يمثل خروجا عن الإجماع العام للمجتمع الدولي الذي أقتنع بالادلة القانونية والملموسة بدعم قطر للإرهاب.
*معاقبة تركيا: حال إستمرار معاقبة قطر على دعم الإرهاب فإن العقاب سينال تركيا لأنها كانت معبر الأموال والسلاح والإرهابيين من كافة دول العالم لسوريا كما أنها تورط في دعم تنظيمات ارهابية في سوريا كالنصرة وداعش وفي ليبيا.
*توقف التعاون الأمني: سيؤدي التأزم في العلاقات الثنائية إلى تراجع أو توقف التعاون الأمني والإستخباراتي والعسكري لمواجهة الجماعات الإرهابية ومنها “داعش” و”القاعدة” في العراق وسوريا، وهذا سيعرض تركيا لمزيد من الهجمات الإرهابية داخل العمق التركي في مدن كبرى كإسطنبول وأنقرة.
وخلاصة ما سبق، إن تركيا إستغلت أزمة مقاطعة قطر جيدًا سياسيًا وإقتصاديًا فعلى المستوى السياسي طرحت نفسها كحليف قوى للدوحة، بيد أن هذا التحالف معرض للإنهيار حال تم حل الأزمة أو إنتهاء حكم الأسرة الحاكمة بقطر وفي هذه الحالة ستكون تركيا في وضع العداء مع الحكم القطري الجديد بل وستخسر كل الإمتيازات السياسية والعسكرية والإقتصادية التي حصلت عليها جراء تحالفها مع أمير قطر الحالي “تميم بن حمد” وهذا هو الاحتمال الأول. والثاني هو إستمرار الأزمة وبقاء “تميم” بالحكم وهذا سيؤدي إلى الأعتراف بوجود توتر في العلاقات بين أنقرة من جهة وأبوظبي والرياض من جهة أخرى ولن يبقي الأمر مستترًا للأبد، بل سيأخذ شكل أزمة حقيقية معلنة كالأزمة القطرية، وهذا ربما يؤدي الى مطالبة مصر والدول الخليجية بمعاقبة تركيا نظرًا لأنها تتخذ نفس السلوك الخارجي المزدوج للدوحة ولها علاقات مع جماعات إرهابية كداعش والنصرة مثل الدوحة تماما، وهذا الإحتمال لن يحتمله “أردوغان” .. وعليه محاولة إحتواء التوتر مع الرياض حتى لا تطاله نيران عقابها.
*باحثة دكتوراه بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، متخصصة بالعلاقات الدولية والشؤون التركية.