موسكو (الزمان التركية) – قال الأديب الروسي العالمي فيودور دوستويفسكي إن مدينة سان بطرسبورج هي أكثر المدن التي حيكت حولها الأساطير. فهي مدينة أشبه بمدينة الأساطير إذ لم يُطرق فيها مسمار منذ 300 سنة. كما أن مياه نهر نيفا الفاترة الهادئة عبارة عن أسطورة. واحتساء القهوة أثناء الجلوس مقابل تمثال بوشكين والتجوال في متاحف سان بطرسبرج والضياع في أزقتها الحجرية بحد ذاتها عبارة عن أساطير.
وتتميز هذه المدينة بأزقتها الهادئة المفعمة بأجواء الحزن عندما يخيم المساء كما لو كانت قبل 300 سنة.
وقد شيد هذه المدينةالإمبراطور الروسي بترو أو بطرس الذي وضع حجر أساس الإمبراطورية الروسية والذي يلقبه الأتراك بالمجنون والغربيون بالعبقري على أعمدة ضخمة بعد تجفيف المستنقعات التي تكونت من 42 جزيرة على سواحل بحر البلطيق وقد كانت هذه المدينة بمثابة نافذة مطلة على أوروبا” ببناء قلعة ضخمة على نهر نيفا الكبير في الخليج الفلندي (بحر البلطيق). كما تعد هذه المدينة الواجهة الحضارية المطلة على العالم الغربي بالنسبة لروسيا. وهي أقدم مدينة “حديثة” في العالم. حيث إنها لا تزال كما كانت في بداية إنشائها فلم يتغير فيها شيء فالأزقة والمباني والجسور والحدائق كلها على حالتها الأولى، والشيء الوحيد الذي تغير هو عدد أوراق الشجر!
مدينة دوستويفسكي وبوشكين
يعد شارع نوسكي قلب مدينة سان بطرسبرج، فهو أجمل شارع يقسم المدينة إلى قسمين. كما أنه مزدان بالمقاهي والمطاعم والمسارح والكاتدرائيات. وهي خير مكان يعيننا على اقتفاء أثر الأديبين دوستويفسكي وبوشكين. وقد قال جوجول: “مهما تم تنظيف أرصفة المشاة فإن آثار أقدام الكثيرين تظل موجودة”. وثمة متعة فائقة في الوقوف على آثار قدمي راسكولنيكوف (بطل رواية “الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي).
مقهى بوشكين لا يزال على حاله
كان بوشكين قد اكتشف أن أحد الشبان كتب رسائل عشق لزوجته ناتاليا، فغضب أشد الغضب وباع ما يملك من الفضة واشترى بثمنه سلاحا، ودعا ذلك الشاب للمبارزة. وقبل المبارزة جلس في أحد المقاهي الموجودة في شارع نوسكي كي يرسم بعض الخطط. ولكنه جُرح في المبارزة ولقي حتفه بعد 3 أيام وله من العمر 37 سنة. ولا يزال ذلك المقهى يقدم خدماته للزبائن، وقد تحولت آخر طاولة جلس عليها إلى زاوية خاصىة نُصب فيها تمثال شمعي له.
تعود ولادة متحف الإرميتاج في سان بطرسبرج إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهو عبارة عن قصر بُني في عهد القيصرة كاترين الثانية.
متحف الأرميتاج مسجل في موسوعة جينيس بأكبر مجموعة من اللوحات في العالم.ولا يزال مفتوحا منذ 250 سنة، ويحتوي على أكثر من 3 ملايين قطعة أثرية ما بين قطع تعود للعصور السحيقة ولوحات لكبار الرسامين. ويقع على ضفاف نهر نيفا، وتوجد فيه لوحات أصلية لكل الفنانين المشهورين. كما يحتاج التجوال فيه إلى يوم كامل. وحين وقفت أنتظر دوري لأحصل على تذكرة الدخول انتظرت من الساعة التاسعة حتى فُتحت أبواب المتحف في العاشرة والنصف، وكان المنتظرون المصطفون يشكلون طابورا طوله كيلو متر تقريبا.
وثمة ساحة بمساحة ملعب كرة القدم خلف متحف أرميتاج. وإذا ما أدرتَ ظهرك إلى المتحف فسوف تشاهد مبنى القيادة العامة للجيش، وهو مبنى فاخر أشبه بالقصر. وتوجد أمامه تماثيل ومنحوتات رائعة تلفت الأنظار. وفي وسط هذه الساحة ثمة نصب تذكاري ضخم وتوجد تحته منقوشات نحاسية كان الروس قد اغتنموها من العثمانيين. وقد احتفظ الروس بالأسلحة التي استخدموها في حروبهم ليزينوا بها المتحف بينما نحن نقضي على تاريخنا بأيدينا.
تحولت بيوت دوستويفسكي وبوشكين وجوجول إلى متاحف
تعد سان بطرسبرج مسقط رأس كتَّاب الأدب العالمي دوستويفسكي وبوشكين وجوجول. فهم يتحدثون عن المدينة في مؤلفاتهم. وثمة تماثيل لعشرات الكتّاب الذين نبغوا في هذه المدينة التي تنظر إليهم بعين المساواة. وقد تحولت بيوت الكتّاب إلى متاحف. فذكراهم لا تزال حية، لكنها غير مستثمرة سياحيا. فمثلا يمكن العثور على كتب ديستوفيسكي وبوشكين في كل مكان، ولكن لا يمكن أن تجدوا في الدكاكين تحفا ترمز إليهما.
وأشهر الكتاب الذين حُولت منازلهم إلى متاحف هو دوستويفسكي ، صحيح أنه وُلد في موسكو ولكنه كتب كل مؤلفاته في سان بطرسبورج.
ويقع منزله في الطابق الثاني من أحد الأبنية التاريخية. ولا تزال طاولته الخشبية ذات الغطاء الأخضر على حالها. وكذلك طاولة الطعام المزينة بنقوش ذهبية وقطع خزفية بيضاء، ومكتبته البنية، وطاولة زوجته الثانية آنا التي تقوم بآخر مراجعة لكتب زوجها. وألعاب أطفاله…
لم تنجب هذه المدينة الكتاب فقط بل أنجبت موسيقيين عالميين أيضا. وأشهرهم تشايكوفسكي. وكنت قد استمعت سابقا إلى مقطوعتيه الشهيرتين، ولكن الاستماع لهذه الألحان في مسقط رأسها أمر رائع جدا، بيد أني لم أستطع الحصول على تذكرة لحضور الحفل الذي يلحن مقطوعات تشايكوفسكي. فالتذاكر كانت قد نفدت على الرغم من غلاء أسعارها بسبب الازدحام الشديد في موسم السياحة.
وحين تُذكر كلمة أوبرا أو باليه فإن أول ما يخطر بالبال هو مسرح مارينسكي. وقد تم إنشاؤه قبل أكثر من 150 سنة. وهو أكبر من مسرح قصر يلديز في إسطنبول بنحو 8 إلى10 مرات.
أما النزل المؤلف من 5 طوابق ففيه شرفة استُضيفت فيها العائلة الملكية. وفيه ديكورات جميلة تبهر الأنظار وهي مزينة بأشكال ذهبية اللون.
كما أن هذه المدينة تذكرنا بفيينا من خلال الثقافة الموسيقية. ففيها متحف للشوكولاته كثير الشبه بأحد متاحف الشوكولاته في فيينا. وتوجد أيضا متحف للتماثيل الشمعية، ومتحف الخبز، ومتحف الحرب. وهي متاحف تعمل على إحياء الماضي في ذاكرة المستقبل. وكلها عبارة عن مبان تاريخية.
ملامح من البندقية وباريس
تذكرنا هذه المدينة بمدينة البندقية من خلال الأنهار التي تجري فيها وبباريس من خلال طرازها المعماري. حيث إن الملك بطرس اصطحب معماريا إيطاليا كي يصمم المدينة على طراز شبيه بهاتين المدينتين. فلم يسمح بظهور سمات العمارة الشرقية والآسيوية في المدينة. إلى أن تم بناء الكنيسة الدموية سنة 1881 إحياء لذكرى القيصر ألكسندر الثاني إثر مقتله.
والجدير بالذكر أن المدينة تعرضت لـ3فيضانات كبرى ولكنها ظلت محافظة على هويتها التاريخية. ويشعر المرء وكأنه يعيش في أجواء الأساطير حين يقوم برحلة نهرية على متن زورق ويتنقل بين الأنهار التي تحيط بالمدينة كالأخطبوط.
تفوح رائحة النرجيلة من المقاهي ورائحة الخبز على أبواب الأفران. ويظهر الباعة في هيئة من أقسم على ألا يتكلم إلا إذا وُجِّه إليه سؤال، إذ تبدو الفظاظة بادية على وجوه السكان هنا ولكن ما إن تحتك بهم حتى تجدهم برقة الملائكة. حيث لا تزال الشخصيات التي تحدث عنها الأدباء في قصصهم حية في سان بطرسبورج. إن الأساطير جميلة وممتعة يحسن الاستماع إليها.