س: إنكم واحد من أكثر من تعرّضوا لمظالم شتى في انقلاب 28 فبراير 1997م. فقد تعرضتم حينئذ لحملة إعلامية إبادية شرسة، ثم رُفعتْ دعوى ضدكم، واستمرت المحكمة 8 سنوات. ولكن مسؤولي الحزب الحاكم الذين أقاموا كيانهم مؤخرا على معاداتكم، أخذوا يرددون أن فضيلتكم دعمتم ذلك الانقلاب، وبالتالي يحاولون أن يظهروا أنفسهم وكأنهم عرضة لمظالم جديدة. هل تشعرون بأنكم تعيشون اليوم المآسي نفسها التي عانيتم منها في تلك الأيام؟
ج: لقد تعرضنا لمثل هذه المآسي والضغوطات مرارا. ففي انقلاب 12 مارس 1971م سُجنتُ 6 أشهر ونصف بتهمة “التسلّل داخل الدولة”. كانت المادة 163[2] في تلك الأيام تعمل مثل المِقْصَلة فوق رؤوس المسلمين، حتى جاء “تورغوت أوزال (Turgut Özal)”[3] وألغى هذه المادة. وفي انقلاب 12 سبتمبر 1980م طاردني الأمن 6 سنوات كما يطارَد المجرمون. وداهموا بعض الأماكن بحثا عني، وتعرّض إخواني لمضايقات شديدة. من هنا يمكنني القول إن العيش تحت وطأة الترصّد والملاحقات والانقلابات أصبح نمط حياة بالنسبة لي. أما ما نعاني منه اليوم، فهو يزيد على ما كنا نعاني منه أيام الانقلابات العسكرية بعشرة أضعاف. رغم كل شيء، لستُ شاكيا. لكن الفارق في هذه المرة أننا نتعرض للمعاملة السيئة نفسها من قِبل مدنيين كنا نحسب أننا نتجه وإياهم إلى قبلة واحدة. لذلك أصدقك القول بأن إحساسي بالألم مضاعف هذه المرة. ولكن ما باليد من حيلة سوى أن نقول ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ لا بد لهذه الكربة أن تزول كما زالت شقيقاتها الأخرى، والسلام.
س: يرددون الانتقادات التي وجهتموها إلى حكومة “نجم الدين أربكان (Erbakan)”[4] وإلى طريقة تسييرها لأزمة 28 فبراير 1997م، ويدّعون أنكم آزرتم الانقلاب حينئذ؟
ج: عندما أتى حزب الرفاه في المركز الأول بعد الانتخابات التي جرت في ذلك الوقت، بدأت بعض التحركات المناوئة داخل القوات المسلحة التركية بشكل واضح، والجميع لاحظ ذلك. أخذتْ غيوم سوداء تتجمع في سماء تركيا، ولكنها لم تتحول بعدُ إلى عاصفة. أذكر أنني كنت في جلسة مع بعض الصحفيين في “أنقرة” مثل المرحوم “ياووز جوكمان (Yavuz Gökmen)” والسيد “فهمي كورو (Fehmi Koru)”، وكان أيضًا السيد “فاتح شكيركه (Fatih Çekirge)”، أفصحتُ لهؤلاء الأصدقاء عن قلقي وما بلغ مسامعي من أنباء حول الموضوع. ولكن واجهوني بردود أفعال سلبية. لم أكن الوحيد الذي يرى الخطر القادم، بل كان آخرون أيضًا يرون الخطر نفسه. وإثر “فضيحة صُوصُورْلُق (Susurluk)”[5] استغلّتْ الطُّغمة العسكرية ردود أفعال المجتمع لحسابها، وهيأت المناخ لانقلاب عسكري. وعندما شرعوا في تفعيل خطة الانقلاب كان الأوان لإيقافها قد فات. ثم فجأة أضافوا في اللحظة الأخيرة اسم هذا الفقير إلى التقرير الذي أعدته المخابرات التركية حول فضيحة “صُوصُورْلُق”. فيما بعد علمتُ مَنْ فعل ذلك، إلا أني لم أفش أسماء أهل الإيمان هؤلاء، ولم أطعن فيهم قط، وفضّلت أن أدفنها في أعماق قلبي.
ثم جاءت قرارات 28 فبراير. كانت المادة الثانية من بيان تلك القرارات تنص على ضرورة تأميم المدارس وفق قانون “توحيد التعليم”. وعندما بلغ التوتر في البلد حدًّا خطيرًا طرحتُ -ككثير من الناس- فكرة الإعلان عن انتخابات مبكرة كحل للخروج من هذه الأزمة بأقل أضرار ممكنة. كما أكّدتُ على ضرورة إصدار قانون انتخابات جديد ينقل البلدَ إلى انتخابات مبكرة. لستُ أنا الفقير فقط مَن قال ذلك؛ إنما كثير من الأسماء أيضًا -وعلى رأسهم “كوركوت أوزال (Korkut Özal)”- شاركوني في رأيي هذا. حتى إن بعض وسائل الإعلام الموالية للحكومة، أيّدت هذه الفكرة ونقلتها إلى مانشيتاتها، وإذا رجعتم إلى الأرشيفات فسترون كل ما كُتِب وقيل في تلك الأيام.
في هذا الصدد، نبّهتُ السيد “نجاتي جليك (Necati Çelik)” وزير العمل في تلك الأيام إلى بوادر قدوم الانقلاب، وحذرته من المناخ الانقلابي الذي بدأ يتشكّل في البلاد، ولديّ شهود على ذلك، فالسيد “علاء الدين كايا (Alaaddin Kaya)”، و”مليح نورال (Melih Nural)” كانا حاضرين في ذلك اللقاء. قلتُ له “يخططون لإحداث انقلاب ضد الحكومة…”. كنتُ أبذل قصارى جهدي لمنع وقوع ضربة مقوّضة للديمقراطية. السيد نجاتي استمع إلى مخاوفي بحماس وانفعال ثم قام وذهب. نقل الأمرَ إلى الأستاذ المرحوم أربكان، ولكن لم تأت أيُّ مبادرة تشير إلى نيةٍ للحيلولة دون وقوع الكارثة.
كذلك حاولتُ أن أحذّر السيدة “تانصو تشلّر (Tansu Çiller)”[6] من الخطر القادم أيضًا، ونبهتُها إلى التطورات السيئة، لكنها قالت “يا أستاذ، أدعوك إلى الاتزان أكثر”، تألمتُ كثيرًا وحزنتُ.. لذلك لم أدخل معها في التفاصيل. عندما رأيت أنني لم أستطع إقناع أحد، شعرتُ بضرورة قول شيء ما يمنع التدخل في المسيرة الديمقراطية، كما يقع في المناطق المجاورة لنا.
ليس من أدبي أن أقول لأحد “فشلتم”. والكلّ يشهد أنني أكنّ احترامًا للجميع، وبخاصة لمن يشغل مناصب تمثيل الشعب. في تلك الأيام حاولتُ من خلال التذكير بنماذج سابقة في تاريخنا كسيدنا أبي بكر وعمر رضي الله عنه، أنْ أشرح أنّ الانسحاب من السلطة في مثل هذه الظروف الحرجة ليس مذلّة وليس مَدعًى لمذمّة، أي إذا كان الرجوع إلى الشعب سيمنع وقوع كوارث أكثر فظاعة، فمن الحكمة اختيارُ ذلك. الأمر نفسه ينطبق على انقلاب 27 مايو 1960، وانقلاب 12 سبتمبر 1980م كذلك. وقد لجأت حكومةُ العدالة والتنمية إثر المذكرة العسكرية في 27 أبريل 2007م إلى هذا النهج، حيث اتخذت -خلال أسبوع واحد- قرارًا بالخوض في انتخابات مبكِّرة، ومن ثم تمكّنت من اجتياز هذه العقبة. أي إن الحكومة عندما قررت الرجوع إلى الشعب، وأحالت الأمر إلى صناديق الاقتراع، أفشلت اللعبة التي أسقطوا بمثلها حكومة فبراير 1997م. هذا ما كنتُ أقوله: “غيّروا قانون الانتخابات، واذهبوا بالبلد إلى انتخابات مبكرة”.
ولا بد أن ألفت الانتباه هنا إلى نقطة غاية في الأهمية.. وهي أنه إذا أمعنتم النظر في “تقرير فضيحة صُوصُورْلُق” و”قرارات 28 فبراير”، ستجدون أن الطغمة العسكرية آنذاك، استهدفت بالدرجة الأولى حركة “الخدمة”. وما عشناه لاحقًا من مآسٍ، كان تنفيذا لتلك المخططات السوداوية. وكلّ ادعاء يناقض ذلك بعيد عن الإنصاف، بعيد عن الحقيقة، بل هو الظلم بعينه.