بقلم: منى سليمان
سلطت باحثة الدكتوراه المتخصصة بالعلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة منى سليمان، الضوء على تداعيات الأزمة التي تشهدها السياسة الخارجية التركية، مع دول الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك تأثر علاقات تركيا العسكرية.
يكتنف الغموض مستقبل العلاقات التركية الأوروبية بعد تصاعد الأزمات بين أنقرة وعدد من دول الاتحاد الأوروبي، على خلفية منع عدد من الدول الأوروبية ومنها (ألمانيا، وهولندا، والنمسا، والسويد، والدنمارك) عقد اجتماعات جماهيرية انتخابية للتعريف بالتعديلات الدستورية الجديدة على الدستور التركي المزمع إجرائها في 16 أبريل 2017، وقد تصاعدت الأزمة واتخذت أبعادًا سياسية ودبلوماسية بل وعسكرية أيضا، حيث أعلنت أنقرة السفير الهولندي بتركيا شخص غير مرغوب فيه وعليه عدم العودة مرة أخرى لتركيا، ثم أتخذ المجلس الأوروبي قرارا بوقف المساعدات المادية لأنقرة.
كما ألقت هذه الأزمات بظلالها على التعاون العسكري بين أنقرة ودول حلف “الناتو” حيث ألغت النمسا مشاركتها في تدريب عسكري مع أنقرة مما دفع حلف “شمال الأطلسي- الناتو” لدعوة البلدين لحل تلك الأزمات بهدوء، وهو الأمر الذي أضفى أبعادا عسكرية على الأزمات السياسية والدبلوماسية بين أنقرة وعدد من الدول الأوربية، فهل سيستمر التصعيد بين الجانبين، أم ستنجح الجهود الفرنسية للتقريب بين الأطراف الأوروبية وأنقرة لاحتواء الأزمة، وإذا لم تنجح في ذلك فما هو مستقبل العلاقات التركية الأوربية في ظل بيئة شرق أوسطية متوترة، هذا ما سنحاول توضيحه فيما يلي:
أولا: أسباب التوتر التركي الأوروبي المعلنة:
أسباب التوتر المعلن والذي يبدأ أسبوعه الثالث بين تركيا وعدد من دول الاتحاد الأوروبي هو إصرار حزب “العدالة والتنمية” الحاكم بتركيا على تنظيم تجمعات جماهيرية للمواطنين الأتراك في الدول الأوربية الذي يبلغ عددهم 9 ملايين نسمة معظمهم لهم حق المشاركة في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، بغية شرح مضمون التعديلات الدستورية لهم قبل إجراء استفتاء بشأنها في 16 أبريل المقبل، وهذه التعديلات من شأنها أن تحول نظام الحكم بتركيا من نظام برلماني لجمهوري وتركز كافة الصلاحيات بيد منصب رئيس الجمهورية (وهو رجب طيب أردوغان).
بيد أن الدول الأوربية رفضت إقامة مثل تلك التجمعات لأنه عمل يخالف القواعد الحقوقية فيها، وذلك وفق المادة 10 من اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية التي تسمح بحظر أي حملات دعائية سياسية تابعة للدول الأخرى على الأراضي الأوروبية، فتنظيم تجمعات جماهيرية للمواطنين أوروبيين من أصول تركية هو أمر سيعمل على إحداث فرقة مجتمعية داخل المجتمعات الأوروبية التي تقوم على أساس المهاجرين فهم مواطنون أوروبيون وليسوا أتراكا والدول الأوروبية لا تسمح بذلك لأي دولة أخرى ولن تكون تركيا استثناء من ذلك، وقد كانت أولى الدول الرافضة هي ألمانيا، ثم هولندا ثم رفضت الدانمرك والسويد ثم النمسا.
وقد بدأت الأزمة مع ألمانيا، بعدما شبه “أردوغان” تصرفات الحكومة الألمانية على خلفية حظر برلين إقامة تجمعات انتخابية للجالية التركية بها لشرح مضمون التعديلات الدستورية “بالتصرفات النازية”، بينما احتفظت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” برباطة الجأش وطلبت منه “الهدوء والتعقل” وأكدت أنها لن تستجيب لاستفزاز “أردوغان” لها.
بيد أن الأزمة بشأن التعديلات الدستورية بين أنقرة وبرلين كانت قمة جبل الثلج الذي يخفي أكثر مما يظهر، لأن التوتر الحقيقي بين الطرفين بدأ بعد الكشف عن فضيحة “تجسس الأئمة” الأتراك في ألمانيا، حيث كشفت أجهزة الأمن الألمانية تورط أكثر من 100 من الأئمة الأتراك المنتمين للهيئة الدينية التركية التي توفدهم أنقرة في أنشطة تجسس ضد الجمعيات والمؤسسات التابعة لحركة “الخدمة” وارتكبهم مخالفات تتعارض مع القانون الألماني مما دفع برلين لترحيلهم لتركيا.
ثم اعتقلت أنقرة اثنين من المواطنين مزدوجي الجنسية (يحملون الجنسية التركية والألمانية) وهم مراسلي صحف ألمانية وتم سجنهم بتهم الترويج لتنظيم إرهابي وتحريض المواطنين على الكراهية والحقد، مما أثار استياء برلين.
وتصاعدت حدة التوترات بين البلدين عقب إلغاء السلطات الألمانية الاجتماع الترويجي للتعديلات الدستورية لوزير العدل التركي “بكر بوزداغ” ووزير الاقتصاد التركي “نهاد زيبكجي”. مما دفع “بوزداغ” لإلغاء لقائه بنظيره الألماني والعودة لأنقرة.
ثم تفاقمت الأزمة كثيرًا بين تركيا وهولندا، بعد رفض أمستردام استقبال وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” على أراضيها لحضور أحد الفعاليات الجماهيرية التركية ثم ترحيل وزير الأسرة التركية “فاطمة كايا” فور وصولها أمستردام إلى ألمانيا، ما اعتبرته أنقرة إهانة دبلوماسية لها وتصرفًا غير مألوف وهو كذلك بالفعل، الأمر الذي أستغله “أردوغان” سياسيًا لمصلحته ولمصلحة حزبه الذي يسعى لاجتياز الاستفتاء المقبل على التعديلات الدستورية وهو ما يعوله عليه “أردوغان” كثيرًا فهي خطوة تهدف لتكريس جميع السلطات والصلاحيات السياسية في يده كرئيس للدولة التركية بعد تحويل نظام الحكم من نظام برلماني لرئاسي، ولذا نجد التصعيد السياسي للأزمة من قبل أنقرة قد اتخذ أبعادًا غير مسؤولة ربما تتضرر منها أنقرة فيما بعد، فإذا عقدنا مقارنة بسيطة بين تعامل الحكومة التركية مع أزمات دبلوماسية سابقة مثل الأزمات مع روسيا وإيران واليونان، سنجد أن تركيا تعمدت تصعيد الموقف سياسيًا ودبلوماسيًا وإعلاميًا لتحقيق أفضل استفادة ممكنة منه قبل موعد الاستفتاء، ولذا فمن الجائز أن تهدأ حدة ذلك التصعيد في النصف الثاني من أبريل 2017 أي بعد انتهاء الاستفتاء على التعديلات الدستورية بتركيا والذي من المقرر وفق استطلاعات الرأي أن يجتازه “أردوغان” ويحصل على نسبة (51-52%) ما يؤهله لتعديل الدستور التركي وفق ما يراه.
الموقف الهولندي كان دبلوماسيًا وفق القواعد الأوروبية ولكنه لم يخل من التصعيد السياسي المقصود والذي أتى بثماره في الانتخابات البرلمانية التي جرت مؤخرًا بالمملكة حيث فاز حزب رئيس الوزراء “مارك روتيه” فيها متقدمًا على أحزاب اليمين المتطرف بفضل استغلاله الأمثل لتلك الأزمة، وقد أتضح ذلك من خلال تصريحات “روتيه” بتفهمه غضب تركيا بيد أنه أنتقد تصريحات “أردوغان” التي وصف فيها هولندا “بالنازية”، ولذا ربما تسعى أمستردام الآن بعد اجتياز الاستحقاق الانتخابي فيها بتهدئة الأوضاع مع تركيا وفق القواعد الدبلوماسية في هذا الشأن، وهو ما ظهر خلال ما ذكره بصفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” والتي تمثل فرصة لإنهاء الأزمة حيث أكد على أن الحكومة الهولندية “تسمح لكافة الهولنديين من أصل تركي بالتصويت في الاستفتاء على تعديل الدستور التركي، ليس للحكومة الهولندية أي اعتراض على التجمعات في بلادنا لإطلاعهم عليه، ولكن هذه التجمعات يجب ألا تسهم في التوترات في مجتمعنا وكل من يريد أن يعقد تجمعاً ملزم بإتباع التعليمات التي يصدرها أولئك القائمين على الأمور من أجل ضمان (استتباب) النظام العام والسلامة”. كما كشفت حكومة أمستردام أن أنقرة لم تطلعها على هدف زيارة وزير الخارجية التركي “أوغلو” ووزيرة الأسرة “فاطمة كايا” وعندما تأكدت أمستردام أن زيارتهما بغية الدعاية للدستور الجديد رفضت دخولهما الأراضي الهولندية.
أما عن الموقف التركي وكدأبه دائما تجاوز “أردوغان” في وصف الدول والزعماء الأوروبيين حيث وصفهم بأنهم “فلول للنازيين والفاشيين”، ومثل هذه التجاوزات اللفظية والتسرع في اتهام الآخرين لا نجدها سوى في قاموس الرئيس التركي، ثم طالبهم بالاعتذار له وهو ما وصفه رئيس الوزراء الهولندي بالأمر المستحيل، فقد تناسي “أردوغان” أنه يتعامل مع دول الاتحاد الأوروبي ككل وليس مع دولة محتلة كإسرائيل التي طالبها بالاعتذار من قبل أو دولة من العالم الثالث، كما هددت أنقرة بفرض عقوبات اقتصادية وسياسية صارمة على هولندا وهو أمر يصعب تنفيذه.
مما سبق نستنتج أن كافة الأطراف التركية والأوروبية قد استغلت الأزمة جيدًا لتحقيق مصالح سياسية داخلية خاصة بالاستحقاقات الانتخابية كلا وفق دولته، كما أن الخطابات السياسية التي استدعت الروح القومية والشوفينية من قبل القيادة السياسية الأوروبية والتركية لم تكن موجهة للخارج بل موجهة للرأي العام الداخلي بغية استقطابه واستمالته في الصراع الانتخابي الأوروبي الحالي وكذلك الحال بالنسبة لتركية مما فاقم الأزمة كثيرًا، ومن جهة أخرى فان حالة الاستنفار الدبلوماسي والسياسي التي أعلنها “أردوغان” والغضب العارم الذي اجتاحه عقب تلك الأزمة التي كان ممكن معالجتها بطرق دبلوماسية شتى تتجنب الاصطدام المباشر مع دول الاتحاد الأوروبي، إن دلت على شيء تدل على خوفه الشديد من خسارة فرصه في تعديل الدستور التركي لصالحه وخوفه من خسارة ما يقرب من 9 ملايين صوت تركي متواجدين بالدول الأوروبية ربما يصوتون لصالح التعديلات الدستورية، فحتى مع محاصرة المعارضة التركية في الداخل والقضاء على ما تبقي منها بذريعة تأييد الانقلاب العسكري المزعوم مازال “أردوغان” يتخوف من نتائج الاستفتاء.
ثانيا : أسباب التوتر التركي الأوروبي غير المعلنة:
لم يكن منع تنظيم اجتماعات انتخابية للتعريف بالتعديلات الدستورية الجديدة هي السبب الوحيد في توتر العلاقات التركية الأوروبية، بيد أنه السبب المعلن أو “القشة التي قصمت ظهر البعير”، فهناك العديد من الملفات العالقة غير المعلنة التي تعد هي الأساس في توتر العلاقات بين الطرفين ولن يتم تطبيع العلاقات بشكل كامل بينهما دون إيجاد حلول لها، ولذا فإن الأزمة ستطول حتى وإن تم احتوائها على السطح نظرا لرغبة الطرفين في عدم إطالة فترة التوتر بعد انتهاء الاستحقاقات الانتخابية في الدول الأوروبية وتركيا حفاظًا على المصالح الإستراتيجية والأمنية والاقتصادية بين الطرفين وهي مصالح متبادلة، ولا يمكن للطرف التركي أو الأوروبي الاستغناء عن الآخر لحلها، ومن بين القضايا العالقة بين الطرفين التي تسبب احتقانا مستترًا في العلاقات بينهما ما يلي:
*تغير أولويات السياسة الخارجية التركية: حيث إنه من الملاحظ مؤخرًا وجود تقارب تركي روسي بلغ حد التعاون العسكري ولا أدل على ذلك من صفقة الصواريخ “S400” التي تتعاقد أنقرة حاليًا على شرائها من موسكو لتكون الدولة الأولى في الشرق الأوسط التي تمتلك تلك الصواريخ، بالتزامن مع ذلك هناك تقارب تركي متصاعد مع الأقطاب الآسيوية الصاعدة كالصين والهند وكوريا الجنوبية التي باتت تتخذ مكانة متقدمة في السياسة الخارجية التركية في ظل تراجع واضح في العلاقات التركية الأوروبية التي تكاثرت عليها الخلافات والمشكلات بفضل التوجهات التركية في أكثر من ملف شرق أوسطي مشترك مع الدول الأوروبية بما يخالف هوى الأخيرة وأبرزها ملفات مكافحة الإرهاب وتدفق اللاجئين والقضية الكردية، وهو ما لا ترغب به الدول الأوروبية، فهي الآن بحاجة لاستعادة الدور التركي الذي قامت به أنقرة أبان الحرب الباردة حيث كانت تركيا بمثابة حائط الصد الأول الذي يفصل بين أوروبا الغربية الليبرالية المتقدمة عن دول الإتحاد السوفيتي الشيوعية، والاتحاد الأوروبي الآن يرغب في استمرار تلك العلاقة يرغب في بقاء تركيا كحائط صد يفصل بين دوله ودول الشرق الأوسط بكل ملفاتها الشائكة.
*تعثر مفاوضات انضمام أنقرة للإتحاد الأوروبي: بالتزامن مع الأزمة أوقف الاتحاد الأوروبي مساعداته المالية لتركيا بعد فشلها في تحقيق تقدم في الملفات المطلوبة ضمن مفاوضات حصولها على عضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي، خاصة في الملفات الحقوقية المطلوبة ضمن مفاوضات حصول تركيا على عضوية كاملة بالاتحاد الأوروبي، حيث قدم الاتحاد لأنقرة مساعدات مالية بقيمة 167 مليونا و300 ألف يورو حتى الآن، من أصل مساعدات كانت مقررة بنحو 4 مليارات و450 مليون يورو في الفترة بين عامي 2016-2020، لمساعدة تركيا على توفيق ملفاتها الحقوقية بما يتناسب مع عضوية الاتحاد الأوروبي كدولة مرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي فتركيا لا تحرز أي تقدم باتجاه الاتحاد الأوروبي وتبتعد عن أوروبا، ولذا أعلنت بروكسل أن مفاوضات انضمام تركيا للإتحاد الأوروبي توقفت بشكلٍ فعلي نتيجة عدم فتح أي ملفات جديدة.
*المخاوف الأوروبية من طموح “أردوغان” بالسلطة: حيث يعمل الرئيس التركي على تحويل تركيا لنظام حكم شمولي ويرسخ لحكم الحزب الواحد وحكم الفرد، وأصبحت الأحزاب المعارضة التركية هي “أحزاب كرتونية” ليس لها قواعد انتخابية فاعلة ولا تؤثر كثيرًا نتيجة لبعثرة كتلتها التصويتية بل وانحيازها للحزب الحاكم كما فعل حزب “الحركة القومية” وحزب الوطن” مؤخرا، ولذا استنكر الاتحاد الأوروبي بدوله ومؤسساته منذ منتصف يونيو 2016 حملات أنقرة على المعارضة وقمع الحريات ومحاربة حرية التعبير، خاصة في ظل تصاعد الحملات التي ترتكبها الحكومة التركية ضد مؤسسات حركة “الخدمة” وكل ما له صلة بالمفكر الإسلامي “فتح الله غولن” الذي اتهمته بتدبير الانقلاب دون أي دليل على ذلك، الأمر الذي دفع “مجلس خبراء أوروبا” في 12 مارس 2017 إلى إصدار تقريرًا يتضمن مخاوفهم من إنشاء “نظام حكم الفرد” في تركيا بعد التعديلات الدستورية لأنها “خطوة خطيرة إلى الوراء للديمقراطية”.
وهذه التعديلات من شأنها أن تزيل ضوابط وتوازنات ضرورية في هوية النظام التركي وطبيعة العلاقة بين مؤسساته وهياكله، كما دعت لجنة “المتابعة لدى الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا PACE”، إلى وضع تركيا “تحت التدقيق رسميا”، وهو الوضع الذي يمهد لضمها لقائمة الدول غير الديمقراطية، حيث أكدت اللجنة في تقريرها أنه تم اعتقال وفصل نحو 25% من القضاة وأعضاء النيابة العامة، و10% من قوات الشرطة و30% من الدبلوماسيين و5 آلاف أكاديمي في تركيا بعد محاولة الانقلاب الفاشل دون اللجوء للقضاء مما يعد تدهورًا خطيرًا فى عمل المؤسسات الديمقراطية في تركيا.
*الخلاف حول اتفاق تدفق اللاجئين: فور اشتعال الأزمة هدد الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بإلغاء اتفاق مُبرم مع الإتحاد الأوروبي لكبح الهجرة غير الشرعية وتدفق اللاجئين لأوروبا كما هدد بترحيل 400 ألف لاجىء شهريًا لأوروبا، وكان الاتفاق قد وقع في مارس 2016، بين الطرفين بموجبه ستحصل أنقرة على ما يقرب من ستة مليارات دولار، وإعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرة الدخول إلى البلدان الأوروبية مقابل حل مشكلة اللاجئين وتوطينهم داخل حدودها، بيد أن الاتفاق منذ ذلك الحين لم ينفذ بدقة، وتم انتهاكه من قبل الطرفين فلم يقدم الإتحاد الأوروبي المساعدات المالية المتفق عليها ولم تتمكن أنقرة من منع هجرة اللاجئين بشكل كامل، وتعد تلك القضية هي أكثر القضايا الملحة التي تضغط على الإتحاد الأوروبي، حيث إن استمرار تدفق اللاجئين من دول الشرق الأوسط للقارة العجوز سيعمل على إحداث تغيير ديمغرافي بمجتمعاتها كما أن هناك نسبة من هؤلاء اللاجئين ينتمون لجماعات إرهابية مما يهدد الأمن القومي الأوروبي ككل، ولذا يتعمد “أردوغان” استخدام اللاجئين كورقة ضغط على الأوروبيين يلوح بها كلما أمكن، وهذا ما يستفز الدول الأوربية التي تستشعر بخطر حقيقي على أمنها القومي بالمدى القريب والمتوسط.
*الخلاف حول الدعم الأوروبي للأكراد: لا يخفي على متابع أن القضية الملحة لتركيا خارجيًا هي إنشاء كيان كردي على حدودها،ولذا تتهم الدول الأوروبية لاسيما ألمانيا بتقديم دعم لوجيستي لحزب العمال الكردستاني الذي يتواجد له قواعد سياسية وإعلامية بالدول الأوروبية،ومنذ الانقلاب الفاشل تشن أنقرة حملة بلا هوادة ضد كل ما هو كردي وتفرض حصارا خانقا على مدن جنوب شرق تركيا ذات الأغلبية الكردية لاتهامهم بدعم الانقلاب، ونتيجة للمطالب التركية المتعددة بوقف الدعم الألماني للأكراد أصدرت برلين قرارًا بحظر شعارات (حزب العمال الكردستاني، ومنع نشر صور زعيمه عبدالله أوجلان) في التجمعات الكردية بألمانيا، وجدير بالذكر أنّه على الرغم من تصنيف ألمانيا “حزب العمال الكردستاني” كمنظمة إرهابية منذ عام 1993، إلا أنّها تسمح لعدد كبير من القنوات الإعلامية والمراكز البحثية والأحزاب الكردية بالتواجد والعمل على أراضيها نصرة للقضية الكردية وللمواطنين الأكراد الذين يتعرضون لانتهاكات جمة لحقوقهم في تركيا وإيران.
*استياء حلف “الناتو” من السلوك التركي بالداخل والخارج: تركيا عضو بحلف شمال الأطلسي “الناتو” منذ عام 1952، وقد عبر مسؤولو الحلف عن استيائهم من حملات الاعتقالات العشوائية وحملات التنكيل التي تمت ضد قيادات وضباط الجيش التركي عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة، والتي تؤثر بشكل غير مباشر على عمل الحلف، نظرًا لأن الجيش التركي بقوامة الذي يبلغ مليون جندي عامل هو أكبر جيش بالحلف من حيث عدد الجنود وكانت علاقته دائما متوازنة بالحلف بيد أن بدأ يتغير بعد الانقلاب المزعوم. وفيما يخص علاقات تركيا الخارجية فقد دعا أمين عام “الناتو” “ينس ستولتنبرغ” كلاً من تركيا وهولندا بتخفيف حدة التوتر بينهما لأن البلدين أعضاء في الحلف .. الذي يتبنى عقيدة عسكرية مفادها أن الدول الديمقراطية لا تحارب بعضها البعض ولذا فالتصعيد المستمر بين أعضائه ليس من مصلحة الحلف في شىء بل أنه يمثل تهديدًا له. بيد أن أنقرة لم تصغي لتلك المطالبات، وعمدت على التصعيد ضد الحلف نفسه، حيث أوقفت أنقرة التعاون مع دول شريكة في الحلف وهي “النمسا” ردًا على إلغاء فينا اجتماعا لوزير تركي، مما أثار غضب مسؤولي الحلف الذين أكدوا على أن القرار التركي بوقف التدريب العسكري لن يمسّ النمسا فحسب، بل سيطاول دولاً أخرى ليست أعضاء في الحلف، ودعوا تركيا والأطراف الأوربية لحل خلافاتهم سريعًا حتى لا يتأثر العمل داخل الحلف. وتعد تلك المرة الأولى التي تفتعل فيها أنقرة مشكلات مع حلف “الناتو” تدفع مسؤولية لتوجيه انتقادات حادة لأنقرة.
ثالثا: مستقبل العلاقات التركية الأوربية:
مازالت الأزمات الدبلوماسية والسياسية تتصاعد بين تركيا والدول الأوربية فالتلاسن اللفظي بين “أردوغان” والقيادات السياسية الأوروبية مستمر يوميًا، والطرفين يهددون بتبادل فرض العقوبات الاقتصادية، ويتجاهلون كافة الدعوات الداخلية والخارجية لإحتواء الأزمة والحؤول دون تفاقمها، وفي سياق المعطيات السابقة نجد أن هناك ثلاثة سيناريوهات لمستقبل العلاقات التركية الأوربية التي تواجه أحد أكبر الأزمات الدبلوماسية في تاريخها، وهي:
السيناريو الأول: انتهاء الأزمة بعد منتصف أبريل 2017 أى بعد انتهاء الاستفتاء على التعديلات الدستورية بتركيا، وهو علي الأرجح ما سيحدث لأن الدافع الأول للتصعيد سيكون قد أنتهي في الدول الأوروبية وتركيا، بعد انتهاء الاستحقاقات الانتخابية.
السيناريو الثاني: انتهاء الأزمة الحالية واستمرار الخلافات والملفات العالقة بين الطرفين، حيث إن تلك الملفات جميعها محل خلاف بينهما، ومن الصعب بمكان التوصل إلى حلها جميعًا خاصة وان الخلافات حولها تتفاقم يوما بعد يوم.
السيناريو الثالث: احتواء الأزمة بفعل الجهود الفرنسية لتقريب وجهات النظر بين تركيا والدول الأوروبية وضغط حلف الناتو والقوى الكبرى التي لا ترغب في تصعيد الأزمات بين طرفي الأطلسي أكثر من ذلك حتى لا تؤثر سلبا على الملفات المشتركة بينهما في الشرق الأوسط. خاصة وأن أوراق الضغط المتبادلة بين الطرفين متعادلة. فأنقرة تضغط على دول الإتحاد الأوروبي في ملفات عدة ومنها (الإرهاب، اللاجئين). والدول الأوروبية تضغط على تركيا اقتصاديا وسياسيًا عبر الانتقادات المستمرة لأنقرة. وهذا أيضًا السيناريو الأقرب لحل الأزمات بين الطرفين، لأن ملفات الشرق الأوسط الشائكة لا تحتمل مزيدًا من التأزم، كما أن استمرار الأزمات ليس في مصلحة تركيا التي تواجه اتحاد كامل وليس دولة واحدة، والدليل على ذلك تصريحات رئيس الوزراء التركي الأخيرة “بن على يلدريم” بعدم رغبة بلاده في قطع العلاقات مع هولندا تماما.
وأخيرًا، فإن الأزمات التركية الأوروبية ستنتهي مثل كل أزمة دبلوماسية أفتعلها “أردوغان” لأسباب سياسية، بيد أن تلك الأزمات كشفت عن حجم الاستياء الأوروبي من السلوك التركي الداخلي والخارجي، فقد غيرت القارة العجوز رؤيتها لتركيا خاصة بعد إظهار “أردوغان” رغبة في تعديل الدستور لتكريس السلطة بيده وتحويل الحكم بالبلاد لحكم شمولي فردي، يشابه حكم سوريا في عهد “بشار الأسد” والعراق بعهد “صدام حسين”، مما يمثل تهديدا على الأمن القومي الأوروبي على المدى القريب والمتوسط وهو ما لم تقبله أوروبا أو تصمت عليه طويلًا.