بقلم: منى سليمان
القاهرة (الزمان التركية) منذ الإعلان عن فشل محاولة الانقلاب العسكري المزعوم في تركيا منتصف يوليو 2016، والقيادة السياسية للبلاد ممثلة في الرئيس رجب طيب أردوغان وأعضاء حكومته وحزبه يكيلون الاتهامات للمفكر الإسلامي التركي “فتح الله جولن” ويتهمونه بتدبير الانقلاب، وهو الأمر الذي نفاه “جولن” أكثر من مرة بل وطالب بتشكيل لجنة تحقيق دولية موسعة للتحقيق في أحداث تلك الليلة.
ومنذ ذلك التاريخ تشن الحكومة التركية حملة استهداف شرسة لمحاربة “جولن” وملاحقة كل من له صلة به من مؤسسات خيرية تطوعية وأفراد وسط استنكار دولي واتهامات متكررة لأنقرة بانتهاكات حقوق الإنسان إثر عمليات الأعتقال والفصل التعسفي من العمل والمحاكمات الوهمية، ونكرر للمرة الألف أن ذلك يتم دون أدلة قانونية ملموسة يمكن الأخذ بها، بل على العكس حيث برزت في الآونة الأخيرة أدلة عديدة تفند صحة الاتهامات ضد “جولن”، وضد حركة “الخدمة”. فما هى تلك الأدلة؟ ومن هو “جولن” وما هى طبيعة حركته التي يتهمها “أردوغان” منذ أربع سنوات بالسعي للانقلاب على حكمه؟ .. هذا ما سنسعى للإجابة عليه:
أولا: أدلة تفند تورط “جولن” بالانقلاب:
بدأت عدد من الصحف ووسائل الإعلام التركية مؤخرا في نشر مضمون نتائج التحقيقات التي أجريت مع عدد من العسكرييين الأتراك المتهمين بتدبير وتنفيذ الإنقلاب العسكري المزعوم في 15 يوليو 2016، وقد حملت من المفاجآت الكثير وربما تفوق في صدمتها أخبار “الانقلاب المزعوم”، فقد نفى كافة الضباط المتهمين خلال محاكمتهم علاقتهم أو صلتهم بأي شكل بالمفكر الإسلامي التركي “فتح الله جولن”، بل أكدت إفادتهم أنهم لم ينفذوا أي انقلاب ولم يكن لديهم أي معلومات عن ذلك بل أن كل ما نفذوه هو تعليمات صدرت لهم من رئاسة الأركان التركي وقاموا بتنفيذها كما هى وفق القواعد العسكرية المتبعة دائما، وكان من بين هؤلاء الضباط “علي صاري باي” الضابط بسلاح الضفادع البشرية المتهم بمحاولة اغتيال “أردوغان” في فندقه بمدينة “مرمريس” (كان متواجدا بها خلال أحداث الإنقلاب)، الذي نفى الاتهامات الموجهة إليه كلها، كما نفى استخدامه برامج “بايلوك – Bylock” عبر التليفون المحمول هو وزملاؤه للتنسيق بينهم قبل الانقلاب، بل أنه لم يسمع عن هذا التطبيق إلا داخل محبسه بعد اعتقاله.
وطالب المحكمة بالعثور على هاتفه الذي فقده وفحصه في الجهات المختصة. وأوضح أنهم نزلوا من طائرة مروحية في “مرمريس” وتوجهوا بواسطة سيارة إلى عنبر للسلاح، وتلقوا أوامر بالحصول على المعدات والسلاح اللازم، دون التوقيع على أي مذكرات استلام بمخالفة القواعد العسكرية المتبعة، ثم تم إعلامه بوقوع انقلاب عسكري. وطلب منه المشاركة في إنقاذ شخصية مهمة متواجدة في المدينة (المقصود بها “أردوغان”)، أي أن الضباط الذين توجهوا للفندق “بمرمريس” كان مقصدهم هو إنقاذ “أردوغان” وليس قتله.
وما يثير للإعجاب في إفادتهم هى صلابتهم وقوة ثباتهم في التحقيقات رغم أنهم يواجهون تهما تصل عقوبتها للإعدام ورغم ما واجهوه من تنكيل متعمد بهم وبأسرهم وبالمؤسسة العسكرية المنتمين لها.
وبالتزامن مع ذلك .. أصدر مركز مخابرات الاتحاد الأوروبي في نهاية فبراير 2017، تقريرا يفند الرواية التركية حول “الانقلاب المزعوم”، حيث أكد التقرير أن أردوغان كان ينوي القيام بعملية “تطهير” شاملة لقوى معارضة داخل مؤسسة الجيش قبل أن يتعرض لمحاولة الانقلاب الفاشلة، ورجح التقرير أن محاولة الانقلاب دبرها عسكريون معارضون “لأردوغان” داخل الجيش التركي، من العلمانيين والانتهازيين واستبعد التقرير أي علاقة “لجولن” في هذا الأمر.
والدليل الثالث كان خلال العام الماضي حيث نشر تقرير للمخابرات البريطانية يكشف أنها تابعت المكالمات الهاتفية والبريدية المشفرة لكبار مسؤولي الحكومة التركية منذ اللحظة الأولى من بدء أحداث محاولة الانقلاب، أظهرت أنهم اتفقوا على اتهام “جولن” كمدبر ومحرض على الانقلاب لاتخاذ ذلك ذريعة بغية تصفية حركة “الخدمة” في تركيا بشكل شامل. والأخير هو شهادة مؤسس تطبيق “بايلوك” “ديفيد كينز” خلال حواره مؤخرا مع صحيفة “حرييت” التركية الذي أكد فيه أن التطبيق الذي أكدت الحكومة التركية أن أعضاء حركة الخدمة من المدنيين والعسكريين استخدموه للتنسيق فيما بينهم قبل وبعد الانقلاب لأنه تطبيق سري، قد تم إيقافه في يناير 2016 فكيف سيتم استخدامه بعد ذلك بستة أشهر في يونيو خلال الانقلاب؟.
وحال عقد مقارنة بسيطة مع مضمون إفادات التحقيق ومضمون التقارير الدولية وأحاديث “جولن” التي نفى فيها أيضا تحريضه على أي انقلاب ضد الحكم أو صلته بأي من القيادات العسكرية التركية نجد أنها متطابقة، ونستنتج أن الانقلاب لم يكن سوى “مسرحية متقنة الإخراج” نفذتها جهات نافذة في الحكومة التركية والنخبة الحاكمة لتحقيق عدة أهداف أهمها هو تصفية حركة الخدمة والتخلص من المعارضين بالمؤسسة العسكرية.
ثانيا : من هو “جولن” وما هى أفكاره؟
هناك الكثيرون في الدول العربية من النخب الحاكمة والمثقفة بل والباحثين المتخصصين في مجال العلوم الاجتماعية، لم يعرفوا “جولن” وحركة “الخدمة” قبل اتهام “أردوغان” لهم بالوقوف وراء الانقلاب المزعوم، ويرجع ذلك إلى أن الأستاذ جولن والحركة ذائعي الصيت في الدول الغربية بعكس الدول العربية التي مازالت تسعى للتعرف عليهم وقد برز ذلك جليا خلال معرض الكتاب بالقاهرة في يناير 2017 حيث شهد جناح كتب الأستاذ “جولن” إقبالا كبيرا رغبة في التعرف على شخصه وفكره، .. و”محمد فتح الله جولن” هو مفكر إسلامي تركي مقيم بولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، ولد في 27 أبريل 1941 في قرية صغيرة تابعة لقضاء “حسن قلعة” بمحافظة أرضروم، وهى قرية “كوروجك” ونشأ في عائلة متدينة.
كان والده (رامز أفندي) شخصا مشهودا له بالعلم والأدب والدين، وكانت والدته (رفيعة هانم) سيدة معروفة بتدينها وبإيمانها، وقامت بتعليم القرآن لابنها وهو لم يتجاوز الرابعة من عمره، حيث ختم القرآن في شهر واحد. وكان بيت والده مضيفا لجميع العلماء والمتصوفين المعروفين في تلك المنطقة لذا تعود محمد فتح الله مجالسة الكبار والاستماع إلى أحاديثهم. وقام والده بتعليمه اللغة العربية والفارسية. درس “جولن” في المدرسة الدينية في طفولته وصباه، وكان يتردد على (التكية) أيضا، أي تلقى تربية روحية إلى جانب العلوم الدينية التي بدأ يتلقاها أيضا من علماء معروفين من أبرزهم “عثمان بكتاش” الذي كان من أبرز فقهاء عهده، حيث درس عليه النحو والبلاغة والفقه وأصول الفقه والعقائد. ولم يهمل دراسة العلوم الوضعية والفلسفة أيضا.
وفي أثناء أعوام دراسته تعرف على كتاب “رسائل النور” وتأثر بها كثيرا، فقد كانت حركة تجديدية وإحيائية شاملة بدأها وقادها العلامة “بديع الزمان سعيد النورسي”.
وتقدم “جولن” في العمر وازدادت مطالعاته وتنوعت ثقافته وتوسعت فاطلع على الثقافة الغربية وأفكارها وفلسفاتها وعلى الفلسفة الشرقية أيضا وتابع قراءة العلوم الوضعية كالفيزياء والكيمياء وعلم الفلك وعلم الأحياء…إلخ. وعندما بلغ العشرين من عمره عين إماما في جامع (أُوج شرفلي) في مدينة أدرنة حيث قضى فيها مدة سنتين ونصف سنة في جو من الزهد ورياضة النفس. وقرر المبيت في الجامع وعدم الخروج إلى الشارع إلا لضرورة. ثم بدأ عمله الدعوي في “أزمير” في جامع (كستانه بازاري) في مدرسة تحفيظ القرآن التابعة للجامع. ثم عمل واعظا متجولا، فطاف في جميع أنحاء غربي الأناضول.
وكان يجوب البلاد طولا وعرضا كواعظ متجول يلقي خطبه ومواعظه على الناس في المقاهي لأنه لاحظ إحجام الشباب على الذهاب للجوامع. فكان يرتب مع أصحاب المقاهي في المدن التركية لإلقاء المحاضرات العلمية والدينية والاجتماعية والفلسفية والفكرية خلال جلوسهم فيها.
وفي الأيام الأولى لتلك التجربة الفريدة تعجب الكثيرون من هذا الإمام الواعظ المتواجد في المقهى ثم مع مرور الوقت زادت أعداد المستعمين له وكذلك زاد أعداد المتواجدين بالجامع وذاع صيته في كل مدينة يذهب إليها، حيث كان يعقد الندوات واللقاءات الخاصة التي يجيب فيها على الأسئلة الحائرة التي تجول في أذهان الناس والشباب لاسيما في ظل عهد تم التضييق فيه على كل ما له صلة بالإسلام بعد تطبيق القوانين العلمانية الصارمة بتركيا منذ 1923.
وفي عام ١٩٧٧، سافر “جولن” إلى دول شمال أوروبا، لإلقاء المواعظ للجاليات التركية ولتوعيتهم حول القيم والتعليم وتشجيعهم على أخلاقيات الخدمة والعمل الإيجابي. وشجعهم على الحفاظ على قيمهم الثقافية والدينية وفي نفس الوقت الاندماج مع المجتمعات الذين يعيشون معها. وعندما بلغ (36) من العمر أصبح واحدا من الدعاة الثلاثة المعترف بهم على نطاق واسع في تركيا. وعلى سبيل المثال، في عام ١٩٧٧ دعى للمسجد الأزرق (مسجد السلطان أحمد) في إسطنبول لإلقاء خطبة صلاة الجمعة بحضور رئيس الوزراء.
وفي عام ١٩٧٩، بدأت جمعية المعلمين التي يرأسها بنشر مجلة شهرية خاصة باسم “سيزينتي” وأصبحت تلك المجلة الأعلى مبيعا في تركيا. وكانت هذه المجلة مشروعا رائدا، لكونها مجلة للعلوم والإنسانية والدينية معا، وكان الهدف منها هو إظهار أن العلم والدين لا يتعارضان وكلاهما ضروري للنجاح في الحياة. وكان “جولن” يكتب لها الافتتاحية كل شهر يشرح فيها قسما من الجوانب الروحية والداخلية في الإسلام والتصوف ومعنى الإيمان في الحياة الحديثة.
وفي فبراير ١٩٨٠، سجلت أول سلسلة محاضرات “لجولن” حول رفض العنف والفوضى والإرهاب على “أشرطة كاسيت”، وكان يحضر هذه المحاضرات الآلاف من الناس يلقيها عليهم في الجوامع. وذلك على الرغم من أجواء الترهيب في أعقاب الانقلاب العسكري الذي وقع عام ١٩٨٠ على يد الجنرال “كنعان أفرين”، وبين عامي (١٩٨٩ – ١٩٩١) ألقى “جولن” مواعظه في أكبر المساجد في اسطنبول كل يوم جمعة وأيام الأحد في اسطنبول وأزمير. وحضر خطبه حشود مكونة من عشرات الآلاف وأرقام قياسية لم يسبق لها مثيل في التاريخ التركي منذ 1923. وتم تصوير هذه الخطب وبثها تلفزيونيا أيضا.
وفي بداية عقد التسعينيات الماضي، كشفت الشرطة التركية عددا من المؤامرات لاغتيال “جولن” من قبل إسلاميين متشددين وجماعات هامشية أيديولوجية صغيرة. كما وضعت هذه الجماعات أناسا ليقوموا بالتحريض والتخريب في المناطق المحيطة بالمساجد الذي يخطب بها لإثارة الإضطراب عند تفرق الحشود بعد خطبه لإبعاد الناس عنه فقد كان ينتقد من قبل الجماعات العلمانية لأنه ينشر الإسلام وكذلك ينتقد من قبل الجماعات الدينية المتشددة لأنه ينشر الإسلام الوسطي فعلى سبيل المثال كانت الحكومات التركية تمنع الفتيات المحجبات من دخول الجامعة وكان للأستاذ “جولن” رأيا في ذلك حيث أنه عد التعليم ضرورة ويمكن ذهابهن بلا حجاب ثم ارتدائه مرة أخرى.
وفي عام ١٩٩٢،سافر “جولن” للمرة الأولى للولايات المتحدة الأمريكية، والتقى بالأكاديميين الأتراك وقادة المجتمع وكذلك قادة الطوائف الدينية الأمريكية الأخرى. الذين أبدوا إعجابهم الشديد بشخصه وأفكاره لأنه يقدم رمزا للمفكر المسلم المعاصر المجدد الذي يجمع بين الدين والدنيا، وابتداء من عام ١٩٩٤، عرف “جولن” كرائد في الحوار بين الأديان ونظمت منظمة “الصحفيين والكتاب” التي كان رئيسها الفخري سلسلة من الاجتماعات التي تضم قادة من الأقليات الدينية في تركيا مثل البطريرك الرومي الأرثوذكسي والبطريرك الأرمني الأرثوذكسي و ممثل الفاتيكان في تركيا “الحاخام الأكبر” وغيرهم للتقريب بين الأديان. وقد حققت جهود “جولن” للتقريب بين الأديان أهدافها من خلال الاجتماع الذي تم عقده في الفاتيكان بين “كولن” وبين بابا الفاتيكان إثر دعوة البابا له عام 1998.
وفي 18 يونيو 1999، اتهمت الحكومة التركية “جولن” بالتعاطف مع انقلاب عام 1997 ضد رئيس الوزراء الأسبق “نجم الدين أربكان” وقد أسفرت التحقيقات عن براءته من كافة التهم المنسوبة إليه، ثم غادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية واستقر في المركز الإسلامي التركي بولاية بنسلفانيا وهو مقيم هناك منذ ذلك التاريخ لا يغادر مقره إلا لتلقي العلاج في أحد المستشفيات القريبة منه، ويقضي وقته وحيدا في غرفته المتواضعة فهو لم ينجب ولم يتزوج في حياته، ويعمل حتى في أشد أزماته الصحية من خلال تأليف الكتب ولقاء تلامذته من الباحثين والكتاب. وهناك العديد من الفيديوهات المنتشرة لخطبه وأحاديثه بمختلف وسائل ومواقع التواصل الإجتماعي الالكترونية.
وقد ألف الأستاذ “جولن” خلال الأربعين عاما الماضية أكثر من 60 كتابا أكثرها حول السيرة النبوية الشريفة، ومن بين كتبه (النور الخالد، البيان، التلال الزمردية، ونحن نقيم صرح الروح)، كما يشرف على إصدار مجلة شهرية معنية بالدراسات الإسلامية والإجتماعية باللغتين التركية والعربية هى مجلة “حراء” – وكان آخر الجوائز التي حصل عليها هى جائزة “غاندي” للسلام عام 2015 من الولايات المتحدة الأمريكية ويعد أول عالم مسلم من الشرق الأوسط يحصل عليها وتمنح الجائزة للعلماء الذين يدعون للسلام والمحبة بين شعوبهم ولهم تاثير ونجاحات بارزة في هذا المجال.
ويمكن القول إن “جولن” هو أحد مجددي الدين الإسلامي خلال المائة عام الماضية، وأنه يتمتع بصفات شخصية متفردة قلما تتكرر في أي عالم أو مفكر ديني، ومنها التواضع الشديد وحب العلم والزهد في الدنيا والتدين السمح الوسطي الذي لا يعرف الغلو والتشدد، ويعرفه المتخصصين بدراسة فكره بأنه “شخصية ربانية من طراز رفيع”، يتميز بشغفه الشديد للمعرفة سواء في العلوم الإسلامية أو الإنسانية, كما أنه في ذات الوقت أديب شاعر – كما يتميز بنظرته المتفردة إلى الدولة التي تخالف أبجديات رؤى سائر الحركات الإسلامية في العالم حيث سائر الحركات الإسلامية تبني أيديولوجيتها على عداء الدولة ووجوب تغير نظامها من العلمانية إلى الإسلامية، وهذا لم يسع إليه “جولن” قولا أو فعلا بل أنه تكيف مع الدولة التركية بمؤسساتها ونظامها العلماني. وقد تعرض “جولن” لحملات متلاحقة وتشويه ليس فقط بهدف النيل من شخصه الكريم، وإنما أيضا بهدف النيل من فكرته، التي تعتمد على دعوته في اقتران “القول بالعمل”، وأن يجد ويجتهد أبناؤها في بناء صرح الروح وصرح الحضارة معا.
ثالثا: ما هى حركة الخدمة؟ :
ألهم الأستاذ “جولن” بفكره تأسيس حركة واسعة الانتشار لا تحمل اسما محددا، وإنما توافق أغلب الباحثين والأكاديميين المعنيين بها على تسميتها باسم “حركة الخدمة” نظرا للخدمات الجليلة التي تقدمها للمجتمعات التي تتواجد فيها. هذه الحركة تستلهم أفكاره وتحولها إلى مشروعات ومؤسسات وبرامج متنوعة تصب – رغم تنوعها- باتجاه تحقيق الخير للإنسان وللإنسانية، دون النظر لدينه أو عرقه أو موطنه. ولذا تتواجد تلك الحركة في 170 دولة بالعالم.
ولكن كيف بدأت الخدمة عملها؟ نشأت الحركة في أواخر الستينيات من القرن العشرين في تركيا كمبادرة تطوعية من أفراد المجتمع لخلق فرص تعليمية عبر توفير سكن للطلاب ومدارس ومراكز للدروس الخصوصية. وعلى مدى أربعة عقود منذ ذلك الوقت نمت وتطورت الحركة لتصبح حركة تعليمية ثقافية تربوية إغاثية ويبلغ عدد المتطوعين بها حاليا ملايين الأشخاص في كل بقاع المعمورة، وتتآلف الحركة من مئات المؤسسات والشركات والجمعيات الخيرية.
بدأت الحركة بإجابة من الأستاذ “جولن” على أحد الأسئلة الواردة إليه في دروسه التي كان يلقيها على مسامع الناس؟ وكان السؤال ماذا نفعل بأموال الزكاة هل نبني مسجدا؟ فكانت إجابة الأستاذ “ابنوا مدرسة فالجوامع كثيرة وفارغة ونحن بحاجة للمدارس” .. هذه كانت الإجابة وقد كانت الاستجابة سريعة وفي عام ١٩٨٢، أسست أول مدرسة ثانوية خاصة بجهود ذاتية من المتطوعين في محافظة أزمير باسم “يمانلار كولجي”. ثم بدأ المتطوعون من رجال الأعمال والمدرسين وأهل الخير في إنشاء المدارس في الأماكن النائية التي تحتاج لخدمات تعليمية مناسبة، وذلك كله بلا مقابل وبلا تكلفة على عاتق الدولة بل كلها جهود ذاتية. ثم في عام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفيتي سأل الأستاذ “جولن” مرة أخرى ماذا نفعل بأموال الزكاة؟ فكانت الإجابة توجهوا لدول آسيا الوسطى .. حيث عانت تلك الدول من شتى أنواع الأزمات الإقتصادية والتعليمية، وقد كان حيث بنيت أول مدرسة تركية خارج الحدود في عام 1992 في آسيا الوسطى، وتولى البناء التطوعي الخيري حتى بلغ عدد المدارس الألاف في أكثر من 170 دولة، ثم تم إنشاء أكثر من جامعة في تركيا بجهود تطوعية أيضا، كانت الإجابة من الأستاذ كالنور الذي انتشر ليضىء ظلام الجهل والتشدد في كل دول العالم بمختلف تنوعاته في آسيا وأفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
تزامن مع بناء المؤسسات التعليمية والتربوية داخل تركيا وخارجها، انتشار عدد من المؤسسات الخيرية التطوعية أيضا ومنها جمعية “هل من مغيث؟” الخيرية التي تقدم معونات إغاثية من مأكل ومشرب وأدوية لكافة المناطق المنكوبة في أى دولة بالعالم ومنه (العراق، غزة، اليمن، الصومال، كينيا، غينيا، سوريا، ميانمار،… ) . ولا يقتصر نشاطها على ذلك بل يمتد إلى إقامة مراكز ثقافية خاصة بها في عدد كبير من دول العالم، وإقامة مؤتمرات سنوية حول فكر الحركة ومؤسسها في بريطانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بالتعاون مع كبريات الجامعات العالمية من أجل دراسة الحركة وتأثيرها وجذورها الثقافية والاجتماعية.
مبدأ الحركة الأساسي هو “الجميع يعطي” .. وهو مبدأ داخلها حيث يساهم الجميع بشئ من وقتهم ومواردهم المالية. فبالنسبة لرجال الأعمال، فيساهمون بـ 1% من أرباحهم وهذا قد يبلغ مقداره مليون دولار في السنة. كما يتم تشجيع رجال الأعمال للقيام بزيارات توعية لرجال الأعمال الآخرين وتعريفهم على مشاريع الحركة، أما بالنسبة للعمال فإن مساهمتهم قدرها خمسين دولارا في الشهر. وهذه التبرعات ليست إجبارية. وتحرر وتحفظ جميع التبرعات أو المساهمات في سجل المؤسسة التي تم التبرع إليها. بل أن بعض الأنشطة التي تقدمها الحركة هى تقديم “الأطباق الخيرية” التي تعدها السيدات في المنازل وتقدم للمحتاجين. والحركة ليس لها مقر رئيسي مركزي ولا رئيس بل تتم الأعمال كلها وفق التنسيق والتطوع بين المنتمين إليها، “فجولن” ليس له أي منصب رسمي أو شرفي ولا يتلق أي أموال مقابل مقالاته وكتبه ودروسه التي يلقيها منذ بدء عمله من أربعين عاما حتى الآن.
ختاما، يمكن القول إن الأستاذ “جولن” وحركة “الخدمة” قد قدما نموذجا إنسانيا فريدا ومتفردا في مجال حركات المجتمع المدني التطوعي، وهو نموذج ناجح بكل المقاييس وصالح للتطبيق في أي دولة وأي عصر، فالحركة التي يتجاوز المنتمون لها الملايين لا ترتبط بشخص “جولن” بل هى “أفكار” تجاوزت الحدود المكانية والزمنية ورسخت لحضارة إنسانية ترتقي بأي مجتمع على كافة الأصعدة.
والسؤال الحائر الذي لا يجد إجابة الآن هو هل يمكن لشخصية بفكر “جولن” أن تحرض على انقلاب عسكري؟ هل كل الأجهزة الأمنية والمخابراتية بكل دول العالم التي مازالت تعمل فيها المؤسسات التعليمية التابعة للخدمة تطوعا، عاجزة عن كشف حقيقة الحركة وحقيقة “جولن”؟ تلك الحقيقة التي اكتشفها “أردوغان” واتهمه بتبني فكر متطرف يسعي لقلب نظام الحكم عليه!.
إن حملة أنقرة الشرسة ضد “جولن” وحركة “الخدمة”، لن تنجح في القضاء عليهما لأن الفكر لا يموت ولا يحارب إلا بالفكر، فإذا كان “جولن” متهم بتدبير الانقلاب فأين ومتى حدث ذلك هل من دليل منطقي يمكن الاقتناع به؟.
إن الذنب الوحيد الذي ارتكبه الأستاذ “جولن” أنه أخلص لعمله ونجح وانتشر بشكل فاق توقعه هو نفسه، الذنب الوحيد أنه مثل نوعا من القوة الناعمة لانتشار الثقافة التركية في دول العالم وبدلا من شكره وتكريمه على جهودة المتواصلة منذ أربعة عقود يتم محاكمته لاتهامه بتدبير انقلاب عسكري! سأترك الإجابة على تلك الأسئلة للأيام القادمة فهى كفيلة بالكشف عما لا نعرفه ويخفيه “أردوغان”.
المراجع:
1- “إبراهيم البيومي غانم. “الخدمة” .. في خدمة عالمية الإسلام. مجلة “حراء” . السنة التاسعة. العدد ( 42)، 2014.
2- طارق عبد الجليل السيد . “الحركات الإسلامية في تركيا المعاصرة (دراسة في الفكر والممارسة)، دار جواد للنشر والتوزيع القاهرة- 2006.
*باحثة دكتوراة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، متخصصة بالعلاقات الدولية.