تقرير: ياوز أجار
ألمانيا (الزمان التركية) اعتقلت القوات الأمنية في تركيا يوم الجمعة (17.02.2017) القاضي السابق دورسون علي جوندوغدو والمدعيين العامين عدنان تشيمان وصدر الدين ساري كايا اللذين أشرفا على أهم التحقيقات في السنوات الأخيرة، وذلك في إطار تحقيقات حركة الخدمة.
وكان المدعي العام عدنان تشيمان يشرف على التحقيقات في إطار قضية “التجسس الإيراني” من خلال أعضاء تنظيم “السلام والتوحيد” التابع لجيش القدس الإيراني؛ في حين أن صدر الدين ساري كايا كان ينظر قضية “اتحاد المجتمعات الكردستانية”، الذي يعد الهيئة الإدارية العليا لحزب العمال الكردستاني الإرهابي، لكنه اشتهر أساسًا بحادثة “استدعاء رئيس المخابرات هاكان فيدان” إلى النيابة العامة.
ومن سوء المعاملة الذي تعرضوا له أثناء اعتقالهم ونقلهم إلى مركز الأمن، نفهم أن السلطات الأمنية ستمارس التعذيب على أعضاء جهاز القضاء لانتزاع إفادات من أفواهم تريدها. ومع أن المدعي العام ساري كايا دعا فيدان لتبادل المعلومات حول عناصر اعتقلوا لارتكابهم أعمالا مسلحة باسم العمال الكردستاني، لكنهم زعموا أثناء التحقيق معهم أنهم تابعون للمخابرات، ثم جاء رجال المخابرات وأفرجوا عنهم، وتكررت هذه الحادثة أكثر من مرة؛ إلا أنه من المؤكد أن الأبواق الإعلامية التابعة لأردوغان ستنطلق لنشر أخبار تزعم أن المدعي العام ساري كايا كشف عن أسماء رجال المخابرات المندسين بين الإرهابيين، ما تسبّب في عجز القوات الأمنية من منع الهجمات الإرهابية في وقت لاحق، وذلك في مسعىً منها للربط بين العمال الكردستاني الإرهابي و”حركة الخدمة”.
دولت بهتشالي يتهم أردوغان بالاتفاق مع أوجلان!
ألم يكن أردوغان من ساوم مع العمال الكردستاني مقابل دعمه النظام الرئاسي تحت مسمى مفاوضات السلام الكردي؟ ألم يقل الزعيم الإرهابي المسجون عبد الله أوجلان “من الممكن أن نتفق مع أردوغان على أساس النظام الرئاسي.. وعندها لن يبقى هناك لا سجن ولا إقامة جبرية، وإنما سنكون مع جميع الزملاء أحرارًا”، كما نشرته صحيفة “ملّيَتْ” بتاريخ 28 فبراير 2013؟ ألم يكن أردوغان من أطاح بطاولة مفاوضات السلام عندما رفض الأكراد دعم النظام الرئاسي؟ أليس أردوغان من اعتقل زعيم حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش مع 12 من زملائه النواب انتقامًا منهم لأنهم حطموا حلمه في النظام الرئاسي ورفضوا المساومة السرية بينه وبين أوجلان؟ وألم يعترف كبار المسؤولين، وعلى رأسهم أردوغان، على الشاشات التلفزيونية، بأنهم تغاضوا عن جمع العمال الكردستاني الأسلحة في فترة ما يسمى بعملية السلام ومن ثم حول المناطق الشرقية بهذه الأسلحة إلى بحيرة دماء؟ ألم يكن هو من أشعل الفوضى والأعمال الإرهابية عبر افتعال حرب بين عناصر داعش والعمال الكردستاني، ما أسفر عن مقتل الآلاف من المواطنين الأكراد وأفراد الأمن وتدمير منازلهم في المناطق الشرقية؟ لا يمكنكم أن تخدعونا يا سيادة الرئيس، لقد عرفنا جميع ألاعيبكم!
بل الحقيقة هي أن أردوغان، وكذلك “كاتم أسراره” هاكان فيدان، يحاولان الانتقام من المدعيين العامين ساري كايا وعدنان تشيمان، لأنهما أزاحا الستار عن “المساومة السرية” بينهما وبين الزعيم الإرهابي أوجلان، وبين حزب العدالة والتنمية وحزب العمال الكردستاني.. وكشفا القناع عن علاقتهما العميقة مع إيران؛ بينهما الثاني بعبارة أردوغان. بل جهاز الأمن “القديم” توصل إلى وثائق ومعلومات تثير شبهات حول عمل هاكان فيدان لصالح إيران بالاسم الحركي “أمين”.
وهنا لا بد أن نذكر بأن زعيم الحركة القومية دولت بهتشالي، مع أنه اضطر إلى التحالف مع أردوغان على أساس النظام الرئاسي مؤخرًا، بسبب إطلاعه على عوراته وسوآته، إلا أنه كان يتهم علنًا أردوغان وفيدان عام 2015 باتفاقهما مع العمال الكردستاني على منح الحكم الذاتي للأكراد والإفراج عن زعيمه أوجلان والعفو العام عن مليشياته الإرهابيين.
الاتهامات الموجهة إلى المدعيين العامين
يزعم أردوغان أن المدعي العام ساري كايا “استدعى” رئيس مخابراته لـ”أخذ إفاداته” لمشاركته في “مفاوضات أوسلو” التي كانت تسعى لإقامة السلام الكردي، وذلك استعدادًا للانقلاب عليه عبر محاسبة “السياسة” التي اتبعها في التفاوض مع تلك المنظمة الإرهابية، لكن الواقع هو أن ما قام به المدعي العام ساري كايا لا يمكن وصفه بـ”الاستدعاء” بل هو “دعوة”، ذلك لأنه يجري أولاً مكالمة هاتفية مع فيدان، ويدعوه للتباحث والتشاور حول انخراط بعض عناصر المخابرات في صفوف حزب العمال الكردستاني والمشاركة معهم في أعمال إرهابية، إضافة إلى إطلاق سراح رجالٍ اعتقلوا على أنهم إرهابيون بحجة أنهم رجال المخابرات، ثم يتخذ الطرفان قراراً بعقد لقاء لبحث الموضوع، ويحددان موعدًا فعلاً، أي الأمر عبارة عن دعوة رئيس المخابرات من أجل تبادل المعلومات التي يحوزها بشأن منظمة إرهابية، أو بعبارة أخرى هو تشاور بين جهازين تابعين للدولة ذاتها، لكن نظراً لأنه كان هناك استعدادات لإيجاد أرضية وإطارٍ لتنفيذ خطة مشؤومة، فإن هذا الموضوع يتم تسريبه إلى الموقع الإلكتروني لجريدة “حريت”، حيث نشر خبراً قبل يومٍ واحد من اللقاء يدعي فيه أن “رئيس المخابرات فيدان كان سيعتقل لو استجاب لدعوة المدعي العام”، ومن ثم أخذوا يحيكون مؤامرة وفقاً لهذا الزعم.
فضلاً عن أن البيان الذي نشره مساعد النائب العام في إسطنبول آنذاك “فكرت سجان” يكشف أن سبب دعوة فيدان ليس إجرائه مفاوضات مع العمال الكردستاني، ولا “محاسبة أردوغان” على سياسته في هذا الصدد، حيث يقول في بيانه: “إن دعوة فيدان لتبادل المعلومات لا تستهدف، لا من قريب ولا من بعيد، الجهودَ التي تبذلها، أو السياسةَ التي تتبعها السلطة التنفيذية (الحكومة) من أجل إنهاء فعاليات الإرهاب، لكن الهدف هو أن النيابة العامة في إسطنبول حصلت على دلائل ووثائق أثناء تحقيق معين بخصوص منظمة (KCK) التي تعد “الجناح المدني” و”العقل المدبر” لمنظمة العمال الكردستاني تثبت أن عدداً من رجال المخابرات انتهكوا نطاق المهام الموكلة إليهم وخرجوا عليها، وذلك عن طريق المساهمة الفعلية في تنفيذ فعاليات المنظمة الإرهابية، الأمر الذي أثار شبهات قوية حولهم”.
والدليل القاطع على أن النائب العام ساري كايا لم يدعُ فيدان لمحاسبته على سياسة السلطة الحاكمة تجاه العمال الكردستاني هو أن النيابة العامة في أنقرة كانت تنظر فعلاً دعوى رفعها النائب البرلماني من حزب الشعب الجمهوري المعارض تانجو أوزجان حول مفاوضات “أوسلو” مع العمال الكردستاني، ولا يمكن فتح تحقيقات جديدة حول الموضوع ذاته تقنيّاً بينما يستمر التحقيق المذكور، مما يبطل دعوى محاسبة فيدان بسبب مفاوضات أوسلو وسياسة الحكومة في هذا المضمار.
فضلاً عن كل ما ذكرنا أعلاه، فإنه لم يكن من الممكن اعتقال أردوغان من الناحية التقنية، إذ من المستحيل أن يعتقل أيُّ مدعٍ عامّ رئيس الوزراء بإعداد لائحة اتهام بحقه، وليس بإمكانه، في أي حال من الأحوال، أن يعزله من منصبه ومهمته، وهذا لسبب بسيط، لأن رؤساء الوزراء، وكذلك النواب البرلمانيون، لا يمكن عزلهم من مناصبهم ومحاكمتهم ما لم تكن موافقة برلمانية وإحالة إلى محكمة أمن الدولة العليا، ولكن لما رفض فيدان الاستجابة لدعوة النائب العام، عمد هذا الأخير إلى تطبيق الإجراءات الرسمية، فطالب النيابة العامة في أنقرة بأخذ إفاداته حول الموضوع المذكور، ومن هنا اندلعت الأزمة المذكورة، ووظفها أردوغان في تنفيذ عملية تصفيات كبيرة من جانب، وتعيينات من جانب آخر، في الأجهزة البيروقراطية للدولة، خاصة في جهازي الأمن والقضاء، إضافة إلى إجراء تعديلات قانونية وفرت درعاً قانونياً لعناصر المخابرات ربط إمكانية محاكمتهم قانونياً بإذن رئيس الوزراء مهما كانت التهم الموجهة إليهم.
ونظرًا لما سبق، فإن أمكن الحديث عن وجود مخطط انقلابي في هذه الحادثة، فهو الانقلاب الذي أحدثه أردوغان حينئذٍ ضد كل “الكوادر الوطنية” في مؤسسات الدولة وتسليمها لأنصار التيار الإيراني في تركيا، فهو وظف هذه الحادثة في منع تطهير المخابرات من عناصرها المرتبطة بـ”الدولة العميقة” التي تدير الشعب التركي عن طريق تنظيم “أرجنكون”، والشعب الكردي من خلال تنظيم “حزب العمال الكردستاني” منذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة عقب سقوط الدولة العثمانية.
هل التنصت على جواسيس إيران تنصت على أردوغان؟!
أما المدعي العام عدنان تشيمان فكان يشرف على التحقيقات في إطار قضية التجسس الإيراني في تركيا، إذ كشفت السلطات الأمنية عام 2000 الغطاء عن تنظيم إيراني يقوم بأنشطة استخباراتية في البلاد تحت اسم “تنظيم السلام والتوحيد” التابع لجيش القدس الإيراني، وأصدرت ثلاث محاكم عليا “ثلاث قرارات حتمية” في أعوام 2002 و2006 و2014 بأن تنظيم السلام تنظيم إرهابي ويزاول أنشطة مخابراتية وتجسسية لصالح إيران.
كما أن رئاسة شعبة مكافحة الإرهاب أدرجت اسم هذا التنظيم في المرتبة الـ11 في قائمة المنظمات الإرهابية الناشطة في البلاد، وكذلك ثبت بموجب قرارات قضائية أن هذا التنظيم هو الذي يقف وراء العديد من عمليات اغتيال كثير من الشخصيات السياسية والفكرية والإعلامية الشهيرة مثل أوغور مومجو، وأن”الوسطاء” أو”العملاء” الذين استخدمتهم إيران في تنفيذ عمليات التجسس والاغتيال لا يزالون حاليا (2016) يقبعون في السجون التركية لقضاء عقوبتهم.
في عام 2011، كانت أجهزة الأمن عثرت على أجهزة تنصت في غرفة أردوغان، أي قبل عامين من بدء تحقيقات الفساد في نهاية عام 2013، وبالتالي قبل أي حديث عما يسمى بالكيان الموازي، ثم فتح المدعي العام، بأمر أردوغان، تحقيقاً حولها، لكن عقب بدء تحقيقات الفساد، بعد انتظار مدة عامين دون إجراء أي تحقيق، ليستخدمه في اتهام ما سماه بـ”الكيان الموازي” بالتنصت عليه، ويعتقل مجموعة من قيادات ورجال الأمن المزعوم تورطهم في هذا الأمر، بمن فيهم حرسه الشخصي.. قيادات الأمن الذين كانوا في الحقيقة يتابعون ويطاردون الجواسيس الإيرانيين وأعضاء تنظيم السلام والتوحيد الإيراني.
لكن أردوغان قدم التنصت على جواسيس إيران وكأنه تنصت عليه، للتمويه على القضية وإغلاقها وإنقاذ الجواسيس الإيرانيين، إلى جانب توظيف ذلك في الاتهامات الموجهة ضد الكيان الموازي المزعوم. إلا أن المحكمة أصدرت في شهر يوليو عام 2015 قرارًا بتبرئة ساحة ثمانية من هؤلاء المتهمين، وعلى رأسهم حسن بالاز، نائب الرئيس السابق لهيئة الأبحاث العلمية والتكنولوجية التركية توبيتاك (TÜBİTAK) ورئيس الحرس الخاص بأردوغان زكي بولوت، لتنهار كل مزاعم أردوغان.
إلا أن المثير هنا هو أن وثائق المحكمة كشفت أن رجل الأعمال الإيراني ذا الجنسية التركية رضا ضراب، المتهم “رقم واحد” في قضية الفساد والرشوة في تركيا عام 2013، والذي وصفه أردوغان بـ”رجل الأعمال الخير”، هو أحد شركاء الشركة التي وفّرت أجهزة التنصت التي عثر عليها في مكتب أردوغان!
إنقاذ الفاسدين وجواسيس إيران وأرجنكون معا
وبعد أن أغلق محاكم الجزاء الثقيلة التي كانت تعمل في البلاد منذ عقود، وأسس مكانها محاكم الصلح والجزاء الحالية، وعين فيها القضاة ومدعي العموم من أنصاره والموالين لإيران ومجموعة “أرجنكون” الإجرامية الانقلابية، بعد ظهور فضائح الفساد والرشوة الشهيرة في عام 2013، بادر أردوغان إلى إسناد مهمة النظر في ملفات الفساد إلى مدعي العموم إسماعيل أوتشار وعرفان فيدان وفضولي آيدوغان، وسحب ملفات “التجسس لصالح إيران” في إطار قضية “السلام والتوحيد” المذكورة من مدعي العموم الأصليين، بينهم عدنان تشيمان، وإسنادها إلى المعينين من طرفه، وهم بدورهم قاموا بواجبهم وأصدروا قرارًا بتبرئة جميع المتهمين بـ”الفساد” و”التجسس” و”الانقلاب”، ليتم أخيرا إطلاق سراح جميع الجنرالات والضباط المتهمين في إطار قضايا “أرجنكون” و”باليوز” (المطرقة) و”جيتام” (مخابرات الدرك) الانقلابية بموجب تعديلات قضائية أجراها أردوغان عام 2014.
واللافت أن أجهزة الأمن “الجديدة” كانت قد أطلقت عملية ضد القياديين الأمنيين القدماء في 22 يوليو (2014)، أي في اليوم نفسه الذي أغلقت فيه قضية تنظيم السلام والتوحيد التي يتهم أعضاؤه بالتجسس لصالح إيران من قبل المدعي العام عرفان فيدان ذاته.
وبعد إنقاذ “الفاسدين” و”جواسيس إيران” وأركان “الدولة العميقة”، بدأت عمليات التصفية والإقالة الموسعة في كل أجهزة الدولة بحجة تطهيرها من أعضاء ما يسمى بـ”الكيان الموازي” ولا تزال تستمر اليوم هذه العمليات بحجة الانقلاب المسرحي.
ملخص القول: أردوغان وهاكان فيدان ينتقمان من المدعيين العاميين عدنان تشيمان وصدر الدين ساري كايا، لأنهما كشفا “العلاقات المحرمة” بينهما وبين إيران والتنظيمات الإرهابية.