بقلم: منى سليمان*
رغم كثرة الملفات الإقليمية والدولية السياسية والأمنية التي تتزاحم على صانع القرار في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن الوضع في بلاد الأناضول مختلف فهناك ملف واحد يسيطر على المشهد السياسي التركي منذ بدء العام وهو الاستعداد للتعديلات الدستورية الجديدة. حيث صوّت البرلمان التركي يوم 9 يناير 2017 لصالح القراءة الأولى لمسودة الدستور الجديد المتضمن تغيير نظام الحكم في البلاد من النظام البرلماني القائم إلى النظام الرئاسي، وذلك بنسبة تتجاوز 50% حيث أيد التعديلات 138 نائبًا ورفضها 134 نائباً، ثم وافق البرلمان في القراءة الثانية على قانون التعديل الدستوري في 21 يناير 2017 ورفعه إلى رئاسة الجمهورية ليدرسه الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان“، وقد صادق بدوره عليها تمهيدًا لطرحها في إستفتاء شعبي من أجل إقرار التغييرات التي تتضمنها. والتعديلات تتضمن 18 مادة دستورية من دستور 1982 المعمول به منذ الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال “كنعان أفرين” في نفس العام، وكافة التعديلات تهدف لتغيير نظام الحكم من البرلماني إلى الرئاسي وتركيز مزيد من الصلاحيات في يد رئيس الدولة، وقد أثارت تلك التعديلات المزمع طرحها في استفتاء شعبي في منتصف إبريل القادم الكثير من الجدل داخل البلاد، كما انقسم على إثرها الرأى العام التركي .. فما هو مضمون تلك التعديلات والهدف منها وردود الفعل حولها هذا ما سنحاول توضيحه فيما يلي:
أولا : الإستعداد للإستفتاء:
قبيل مصادقة الرئيس التركي “أردوغان” على مشروع قانون التعديلات الدستورية، جند حزبه “العدالة والتنمية” 75 ألف شخصاً للإشراف على صناديق الاقتراع خلال إجراء الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية، وقام بتقسيمهم على شكل فرق للعمل ضمن الهيئات الانتخابية في كل محافظة أو مقاطعة، كما أنهت الحكومة التركية كافة الاستعدادات الخاصة بالبنية التحتية حيث تم تجهيز مراكز التنسيق الانتخابية التي سيتم إنشاءها لمتابعة وتنظيم عملية الإستفتاء، ومن ناحية أخرى بدأ الحزب بتحديد الموظفين الذين سيقومون بمهامهم على رؤوس صناديق الاقتراع. وسيتم خلال الاستفتاء إستخدام ورقة تصويت تضم اللونين البني والأبيض، حيث سيرمز الأبيض إلى الموافقة في حين سيرمز البني إلى الرفض. وهناك عدد من الإجراءات الجديدة التي سيتم تطبيقها في تنظيم الإستفتاء لأول مرة في البلاد ومنها .. سيتم تعيين أعضاء من كل حزب سيدلون بصوتهم في الاستفتاء، كما سيتم فصل ستة مناطق بتركيا عن المركز العام وتعين رئيس لكل منطقة، وسيذهب رؤساء هذه المناطق قبل 20 يوما من موعد الاستفتاء ليتفقدوا ما إذا استكمل موظفو الصندوق أعمالهم أم لا، ويقومون بإكمال النواقص إن وجدت. بالتزامن مع ذلك بدء “أردوغان“ حملته الدعائية لمصلحة النظام الرئاسي بقدرته الفائقة والمعروفة في حشد الجماهير عبر خطاباته الرنانة حيث أنه يستغل كل تجمّع يحضره خلال أى نشاط رئاسي داخل البلاد كافتتاح مؤسسات حكومية جديدة أو افتتاح مؤتمرات لحث الجماهير على قبول التعديلات الدستورية التي تصب لصالحه أولا وأخيرًا. الأمر الذي أثار حفيظة المعارضة واتهمته باستغلال منصبه لتحقيق مصالحه وما ما يتعارض مع الدستور والقانون التركي. ويعتمد “أردوغان” في خطابه دائما على تخويف الجماهير وترهيبهم حيث يؤكد على أهمية التعديلات ويتهم من يرفضها بالتعامل مع الجماعات الإرهابية.
ولم تنته حملة “أردوغان” عند هذا الحد بل أنه سيقوم بنفسه بجولات ميدانية في المحافظات التركية البالغ عددها 81 محافظة لشرح مضمون التعديلات الدستورية للشعب، وذلك بمشاركة منظمات المجتمع المدني ومختلف أطياف وفئات المجتمع. وكذلك سيفعل رئيس وزرائه “بن على يلدريم” وبعض الوزراء الذين لا يتركون لقاء جماهيري دون الحديث عن التعديلات الدستورية، هذا فضلا عن أن حزب “العدالة والتنمية” قد أعد كتيببات تتضمن شرح لأهمية تحويل نظام الحكم من البرلماني للرئاسي وتتركز حجتهم في ضمان استقرار الحكم حيث إنه منذ عام 1961 حتى 2002 تأسست 33 حكومة تركية كان متوسط فترة حكم كلا منها عام ونصف، وهذا وفقا لكتيبات الحزب يخلق بيئة من عدم الاستقرار السياسي. بيد أن تلك الكتيبات قد تجاهلت التقدم السياسي والاقتصادي الذي استطاعت تركيا الوصول إليه في ظل النظام البرلماني خلال فترات مختلفة منذ اعلان الجمهورية على يد “كمال اتاتورك” في 1923.
ثانيا: ماهية التعديلات الدستورية:
كثر الحديث والجدل عن التعديلات الدستورية دون معرفة حقيقتها فما هي تلك التعديلات وما هو مضمونها وما العائد على الشعب التركي حال إقرارها؟
التعديلات الدستورية تتضمن تعديل 18 مادة في الدستور التركي الحالي، بغية تحويل نظام الحكم من نظام برلماني لنظام حكم رئاسي، حيث سيتم نقل كافة صلاحيات السلطة التنفيذية من رئيس الوزراء لرئيس الجمهورية، وتعد تلك التعديلات ثان أهم تعديلات منذ تولي حزب “العدالة والتنمية” الحكم في2002 حيث أجريت أولى التعديلات الدستورية الموسعة في عام 2007، وقد سمح بموجبها بانتخاب رئيس الجمهورية مباشرة وليس عن طريق التصويت في البرلمان كما كان معمول به من قبل، وكانت تلك التعديلات آنذاك هي أولى الخطوات نحو تحول تركيا من النظام البرلماني للرئاسي.وهذا يقودنا الى سؤاله هام ما هو الفرق بين النظام الرئاسي والبرلماني في الحكم؟ النظام البرلماني يمنح رئيس الدولة مسؤوليات شرفية وبسيطة بينما يكون رئيس الوزراء هو رئيس السلطة التنفيذية والحاكم الفعلي للبلاد وقد كان “أردوغان” رئيسا للوزراء وتمتع بكافة صلاحياته الواسعة خلال 12 عام منذ (2002-2014) حتى تم انتخابه رئيسًا للبلاد في 2014، ومنذ ذلك الحين وهو يتجاوز صلاحيات ومسؤوليات الرئيس التركي المنصوص عليها بالدستور حيث يقوم في معظم الأحيان بدور رئيس الوزراء ورئيس البلاد، لذا حال إقرار التعديلات الدستورية بعد الموافقة عليها في الاستفتاء ستكون بمثابة “إقرار وتشريع” للواقع الفعلي بتركيا. كما أن مشروع القانون بالتعديلات الدستورية المقدم من الحكومة التركية للبرلمان قد تجاوز هذا الحد وألغى منصب رئيس الوزراء بالرغم من وجود هذا المنصب في معظم الدول الرئاسية وشبه الرئاسية وأناط بالسلطة التنفيذية بالكامل بموجب المادة 104بشخص الرئيس الذي سيصبح بمقدوره إتخاذ قرارات غير متعارضة مع الدستور أو القوانين التي تسنها السلطة التشريعية، ومنحت التعديلات الرئيس الدولة صلاحيات مطلقة منها:
-
الجمع بين سلطات رئيس الدولة ورئيس الوزراء مع عدم إمكانية محاسبته في البرلمان فعليًا كيف سيتم ذلك وحزبه (العدالة والتنمية) يملك الأغلبية البسيطة في البرلمان فلن تتم مسألته مستقبلا
-
الحق في تعيين الوزراء منفردًا دون الحاجة لموافقة البرلمان عليهم
-
إعلان حالة الطوارئ مدة ستة شهور وكذلك تمديدها دون الحاجة للرجوع للبرلمان عند حدوث خطر يهدد البلاد كالحرب أو انقلاب عسكري، ودون سقف زمني محدد اى انه يمكنه تمديدها لسنوات دون مسالة من البرلمان
-
السماح للرئيس بزعامة حزبه السياسي في الوقت الذي يجبر الدستور الحالي رئيس الجمهورية على التخلي عن عضوية الأحزاب بصورة مطلقة لعدم تعدد المناصب او تضارب المصالح واعمالا بمبدأ “الفصل بين السلطات“
-
عقد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في يوم واحد. وهذا قد يؤدي إلى هيمنة الحزب الذي ينتمي إليه الرئيس على البرلمان مما يخل بالتوازن بين الحكم والمعارضة، حيث ينصب الإهتمام على الإنتخابات الرئاسية وليس البرلمانية مما سيؤدي لتهميش دور البرلمان في الحياة الديمقراطية
-
يعطي للبرلمان الحق بإقرار انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة بعد موافقة 60 % من أعضائه. وهذا غير ممكن فعليا لان حزب الرئيس دائما سيكون له الاغلبية في البرلمان.
-
المادة الثانية عشرة تمكن الرئيس من تعطيل البرلمان وتمكن البرلمان من تعطيل ذاته وتعطيل دور الرئيس
-
لرئيس الجمهورية تعيين عدد غير محدد من نواب الرئيس. وربما يؤدي هذا لاستقطاب شخصيات وقوى سياسية تتفق معه او تختلف معه لابعادها من المشهد السياسي
-
يعفي مشروع الدستور الرئيس من إطلاع البرلمان على سير البرامج والنشاطات السياسية والاقتصادية، فلن تتم محاسبة الرئيس امام البرلمان
-
الرئيس لا يصدر القوانين ولكنه له الحق في الاعتراض عليها وإلغائها، التداخل في الصلاحيات بين السلطات التي من المفترض أن تكون مفصولة عن بعضها.
مما سبق يتضح أن التعديلات الدستورية “معدة خصيصًا” للرئيس “أردوغان“ فهي تمنحه كل الصلاحيات التي يحلم بها، وحجة حزب “العدالة والتنمية“في إجراء التعديلات الدستورية هي أن دستور 1982 تم صياغته لتكون المؤسسة العسكرية ومؤسسة الرئاسة مسخرتين لحماية القيم العلمانية، وبعد أن أنهي “أردوغان” نفوذ المؤسسة العسكرية بطرد وفصل المئات منذ منتصف 2016 بذريعة تعاطفهم مع الانقلاب العسكري المزعوم، جاء الدور على مؤسسة الرئاسة التي يجب أن تخدم مشروعه الطموح في السيطرة على الحكم ليس ذلك فحسب بل أنه سيجعل الدستور التركي نفسه مسخر لخدمة مشروعه في البقاء بالحكم حتى عام 2029 عبر انتخابه أكثر من مرة رئيسا للبلاد وربما يبقي أكثر من ذلك، وهذا لا ينكر أن دستور 1982 به الكثير من الثغرات التي يجب معالجتها للحفاظ على القيم الديمقراطية ولكن ما ينوي “أردوغان” فعله ليس له علاقة بالديمقراطية بل هو انقلاب دستوري مدنيللاستيلاء على كل الصلاحيات والسلطات في البلاد.
ثالثا : الموقف الداخلي والخارجي من الاستفتاء:
يمكننا القول أن هناك إنقسام داخل المجتمع التركي بشأن الإستفتاء على التعديلات الدستورية، حيث انقسم المجتمع لفريقين .. الأول مؤيد للرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” الذي يضمن في أى إستفتاء أو إنتخابات الحصول على أكثر من 50% من النتيجة وهي النتيجة التي يحصل عليها منذ عام 2002 في أى إنتخابات برلمانية أو رئاسية أو إستفتاء يجريه نظرًا للشعبية الكبيرة التي مازال يتمتع بها داخل المجتمع التركي لاسيما في الطبقات الفقيرة والمتوسطة وطبقة رجال الأعمال الجديدة التي ظهرت في المجتمع مع ظهور حزب “العدالة والتنمية” في 2002 وتعاملت مع الحكومات التركية في العديد من المشروعات القومية العملاقة داخل تركيا وخارجها وارتبطت معها بعدد كبير من الإستثمارات الخارجية في عدد من دول العالم، وهذه الفئات هي التي يراهن عليه “أردوغان” بقوة ويحثهم للموافقة على التعديلات الدستورية، ومن المرجح أن التعديلات الدستورية ستمر خلال الاستفتاء الشعبي بدعم تلك الفئات لها.
والثاني الفريق المعارض وهو يقل عن نصف المجتمع التركي قليلا وتتراوح نسبته بين (48-49%) من المجتمع التركي بكل فئاته وأطيافه، بيد أن هذا الفريق يشمل بدوره عدد كبير من المعارضين على اختلاف انتماءاتهم وهوياتهم، والقسم الأول منها هي الأحزاب التركية السياسية المعارضة، وأبرزها حزب “الشعب الجمهوري“ الذي أعلن رئيسه “كليشدار أوغلو” رفضه للتعديلات الدستورية والتحول للنظام الرئاسي وأتهم أردوغان مباشرة بأنه دبر الإنقلاب المزعوم في 15 يوليو 2016 ليكون ذريعة تسمح له بإجراء التعديلات الدستورية، وثاني تلك الأحزاب هي حزب “الحركة القومية“ الذي أعلن رئيسه “دولت باهشتلي” الموافقة على التعديلات الدستورية ودعمها، إلا أن قاعدة الحزب شهدت انقساما فبعضها يرفضها بشدة وقد أثبت استطلاع للراى تم داخل الحزب برفض معظم أعضائه للتعديلات الدستورية، الأمر الذي أدى لحدوث مواجهات سياسية بين “باهشلي” وبعض أعضاء حزبه أسفرت عن فصلهم من الحزب ومنهم “ميرال أكشنار، وأوميت أوزداغ” بيد أن هذا لم يمنعهم من الإعلان عن رفضهم للتعديلات الدستورية وبدء كل منهم على حدى في شن حملة لتعريف الجمهور بحقيقة التعديلات ودعوا الجماهير لرفض النظام الرئاسي. ودشنوا حملة “لا للتعديلات الدستورية“.
هذا فيما يخص الأحزاب السياسية بالبرلمان، وهناك بعض النواب الذين يتحركون بشكل فردي ومنهم “لفينت غولتكين” وهو نائب انشقّ عن حزب“العدالة والتنمية” الحاكم بعد اندلاع الثورات العربية 2011، ويقوم بجولات ميدانية فردية في المحافظات التركية، لتحذير المواطنين من النظام الرئاسي، بعدما حُرم من الظهور على شبكات التلفزيون التركي بامر من الحكومة التركية.
ثم يأتي من يصفهم “أردوغان” بالتنظيمات الإرهابية وهم أبعد ما يكونوا عن ذلك، وهما حزب “الشعوب الديمقراطي الكردي“ وقد أعلن رئيسه “صلاح الدين دميرطاش” قبل اعتقاله رفضه للتعديلات الدستورية ودعا جماهير الحزب لرفضها، وحركة “الخدمة“ التي تستلهم أفكار المفكر الإسلامي “فتح الله جولن” التي يناصبها “أردوغان” العداء وهي لم تعلن رأيها صراحة حرصًا على عدم التدخل في الشأن السياسي، بيد أننا يمكن أن نستشف رأيها “فجولن“يناصر الديمقراطية منذ مباشرته العمل العام ولذا فمن البديهي أن يرفض مشروع التعديلات الدستورية التي تمنح الرئيس صلاحيات مطلقة وتقوض من صلاحيات المؤسسات القضائية والتشريعية بالدولة.
ويبق بالمجتمع التركي فئة أخيرة معارضة ورافضة للتعديلات الدستورية وهي النخبة المثقفة من الأكاديميين والكتاب والصحفيين والفنانيين، وأغلبهم لا ينضم داخل الأحزاب السياسية ويتحاشي الإعلان عن رفضهم صراحة لتجنب الدخول في صدامات مع الحكومة التركية، خاصة بعد عام 2013 الذي شهد دعم النخبة المثقفة لتظاهرات “ميدان تقسيم” ضد الحكومة التركية، وكان رد الأخيرة هو تحريك قضايا التهرب الضريبي والمخدرات ضد عدد كبير من الفنانيين والمثقفين المشاركين بتلك التظاهرات.
ورغم وجود هذا الانقسام داخل المجتمع التركي إلا أن الحكومة التركية والرئيس “أردوغان” يمارسان أعلى درجات “الإبتزاز السياسي” ضد المعارضة، من خلال التلويح باللجوء إلى انتخابات مبكرة حال فشل مشروع التعديلات الدستورية. أو إعادة الإستفتاء مرة أخرى حال فشل في المرة الأولى في كسب ثقة الجماهير. كما أنه مازال “يبتز” مشاعر الشعب التركي ويخوفه من حدوث انقلاب عسكري جديد وعمليات إرهابية جديدة، الأمر الذي يتطلب منح القيادة السياسية مزيدًا من الصلاحيات لتتمكن من مواجهة أى حدث يهدد أمن وسلامة واستقرار المجتمع.
وفيما يخص الموقف الخارجي من التعديلات الدستورية فإن “أردوغان” ومستشاريه يرون أن البيئة الإقليمية والدولية ملائمة تماما لتنفيذ ما يريد ..فعلى المستوى الإقليمي لا توجد دولة إقليمية منافسة لتركيا تتدخل في الشأن الداخلي التركي وتقلب المجتمع ضده أو تدعم حزب ضد آخر بعكس ما يفعله “أردوغان” طول الوقت عندما يتدخل في الشأن الداخلي للدول العربية أو إيران، كما أن كافة دول الشرق الأوسط مازالت تعان من عدم استقرار سياسي بعد ما عرف “بثورات الربيع العربي” التي مازلنا نعاني من تداعياتها حتى الآن، ودوليًا فكافة دول العالم تترقب ما سيقوله أو يفعله الرئيس الأمريكي الجديد “دونالد ترامب” بعد التصريحات المفاجئة التي يطالعنا بها كل صباح. وهذا لا ينفي رفض واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي وأعضاء حلف الناتو للتعديلات الدستورية بتركيا واستنكارهم لممارسات “أردوغان” الغير ديمقراطية ويتجلى ذلك من خلال تصريحاتهم المتكررة المناهضة لتلك الممارسات فهم يدركون تماما ما ينويه “أردوغان“، بيد أنهم يغطون الطرف عنه لأن خسائر استمراره بالسلطة أقل بكثير من خسائر رحيله فإذا رحل من البديل؟ فقد نجح “أردوغان” ببراعة على مدى حكمه في التخلص من كل خصومه العسكريين والمدنيين والقضاء على كل منافسيه المحتملين، ولم يبق في المشهد التركي غيره وواشنطن وحلفائها بالناتو لن يغامروا بعدم استقرار دوله بحجم وأهمية ووزن تركيا الإقليمي في ظل إستمرار التوترات السياسية في معظم دول الربيع العربي (سوريا، اليمن، ليبيا) فضلا عن المشكلات القائمة منذ عقود والمتمثلة في الملف العراقي والفلسطيني والنووي الايراني، بل على العكس تماما فالقوى الكبرى بحاجة لتركيا قوية ومستقرة لتساهم بوزنها الاقليمي وعلاقاتها المتشعبة في حل تلك القضايا والملفات العالقة ولذا لا يهم إن استحوذ “اردوغان” على السلطة بكافة الطرق الشرعية والدستورية والغير ذلك طالما كان حليفًا لهم في محاربة الإرهاب وجماعاته“كداعش” وداعما لهم ضد تصاعد النفوذ الايراني والروسي بالمنطقة.
وختاما، أن تركيا بعد الموافقة على التعديلات الدستورية لن تصبح تلك الدولة النموذج التي تمتلك رؤية سياسية ودور إقليمي فاعل مؤثر ورفاهية إقتصادية وعوامل جذب سياحي واستثماري، لن تعد تلك الدولة المثالية التي نجحت في تحقيق سلام مجتمعي عبر الدمج بين كل فئات المجتمع والمساواة بينهم عبر الدمج بين العلمانية والإسلام والقوميين والأكراد والمدنية والاصالة، لن تعد تلك الدولة التي نجحت في الموازنة بين علاقاتها الوثيقة بالإتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة .. فقد فقدت تلك العوامل الناجحة والجاذبة بفعل رغبة “أردوغان” الجامحة في تعزيز سلطته وإقصاء أعدائه التي بلغت حد هستيري حيث أصبح يقامر بكل النجاحات والمكاسب السياسية والإقتصادية التي حققها منذ توليه الحكم لضمان استمراره بالسلطة أطول فترة ممكنة وتحقيق حلمه في إعادة أمجاد الدولة العثمانية متناسيا أن عصر الإمبراطوريات قد انتهي بلا رجعة.
* باحثة دكتوراة متخصصة بالعلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة.