تقرير: محمد عبيد الله
أنقرة (الزمان التركية) – التهديد الذي وجهه الزعيم اليساري العلماني المتطرف دوغو برينتشيك بداية عام 2014، عند خروجه من السجن مع الضباط والجنرالات المحكومين في إطار قضيتي تنظيم “أرجنكون” و”المطرقة” الانقلابيتين، قائلاً “سيرى الجميع أننا سنجتث كل الجماعات الإسلامية والطرق الصوفية من جذورها”، يترجمه الرئيس رجب طيب أردوغان إلى أرض الواقع بصورة تدريجية منذ أن سلّط جهاز الأمن التركي “السابق” الأضواء عليه وهو متلبس بجريمة الفساد والرشوة التاريخية.
من هو دوغو برنتشيك؟
على الرغم من أن دوغو برنتشيك؛ رئيس حزب العمال السابق رئيس حزب الوطن الحالي، لا تتجاوز نسبة دعم الشعب التركي لحزبه %1، إلا أنه يتمتع بنفوذ قوي في أجهزة الدولة، خاصة في أجهزة الأمن والقضاء والجيش، إنه لا يتبنى فكرًا معينًا ثابتًا وإنما يروج لأي فكر مهما كان، بحسب الظروف، فهو كان ماركسيًّا لينينيًّا ماويًّا في سبعينات القرن الماضي، وداعمًا للزعيم الإرهابي عبد الله أوجلان وحزب العمال الكردستاني في الثمانينيات، وقوميًّا علمانيًّا متطرفًا بعد التسعينيات.
عرف منذ القديم بعلاقاته مع بعض البؤر العميقة في الدولة التركية وجهاز المخابرات، وبتأثيره العميق في الأحداث ومسار الحكومات واتجاهاتها، وحكم عليه في إطار قضية “تنظيم أرجنكون” المسمى في تركيا بالدولة العميقة، مع نحو 400 شخص ما بين عسكري ومدني، بمن فيهم رئيس الأركان العامة آنذاك إلكار باشبوغ.
وفي أثناء تحقيقات الفساد الشهيرة انتشرت عشرات التسجيلات الصوتية والمصورة التي تكشف تورط أردوغان ونجله ودائرته الضيقة في الفساد والممارسات غير القانونية.
ادعى أردوغان حينها أن حركة الخدمة هي التي تنصتت على مكالماته ونشرت هذه التسجيلات بعد تزويرها وفبركتها، وهذا الادعاء شكّل أساس كل اتهامات أردوغان ضد حركة الخدمة فيما بعد، إلا أن الفيديو الذي نشره موقع “الزمان التركية” الأسبوع الماضي أزاح الستار عن حقيقة هذا الأمر، حيث اعترف برينتشيك بشكل علني بأنه من تنصت على مكالمات أردوغان ونشر التسجيلات الصوتية، فضلاً عن أنه لا يزال بحوزته كثير من تلك التسجيلات الصوتية والمصورة، وغني عن البيان أنه يستخدم هذه التسجيلات للضغط والابتزاز!.
وسبق أن قال برينتشاك في تصريحات أدلى بها لمجلة “نقطة” الإخبارية الأسبوعية إن الرئيس أردوغان تم الاستيلاء عليه من جانب “القوى الوطنية”، وهو يقصد بعبارة “القوى الوطنية” قادة وأنصار التيار القومي العلماني المتشدد (Ulusalcılar)، الذين ينتمون إلى حزب الوطن بصورة أساسية، والذين يعتبرون أنفسهم ورثة مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية الحديثة.
واضطر أردوغان إلى الإفراج عن برينتشيك في 2014، مع مئات الشخصيات المدنية والعسكرية المحكومة عليها في إطار قضية “أرجنكون” بعد ظهور فساد حكومته، والتحالف معه في تنفيذ “خطة القضاء على حركة الخدمة” التي أعلن برينتشيك مرارًا أنه من وضع هذه الخطة وليس أردوغان.
وكان برينتشيك صرخ في وجه الكاميرات عقب خروجه من السجن قائلاً: “سيرى الجميع أننا سنقتلع قريبًا جذور هادمي الجمهورية التركية، بمن فيهم الرئيس أردوغان و(الرئيس السابق) عبد الله جول وفتح الله كولن وكل الجماعات الإسلامية”.
وقال خلال حوار تليفزيوني على قناة “Akit Tv” المقربة من أردوغان “إن مشروع القضاء على حركة الخدمة لم يضعه أردوغان، بل نحن من وضعناه وهو ينفذه، لم نكن نحن من ذهب إليه، بل هو من جاء إلينا، لقد أوكلوا إليه مهمة القضاء على الثورة “الكمالية” في تركيا؛ إلا أنه ارتمى في أحضان الفكر الكمالي”، على حد قوله.
قانون جديد لتصفية الجماعات الأخرى
أصدرت الحكومة، بأمر من أردوغان بطبيعة الحال، مواد جديدة تتعلق بالجرائم الخاصة بالموظفين الرسميين في إطار مراسيم حالة الطوارئ، تصنف التقرّب من أي جماعة أو منظمات مجتمع مدني “جريمة” تكفي للطرد من العمل، بمعنى أن أردوغان سيضفي بهذه المواد الشرعية على خطة برينتشيك للقضاء على كل الجماعات الإسلامية.
فبعد أن نفذ أردوغان حملات ضد حركة الخدمة منذ بدء تحقيقات الفساد والرشوة والانقلاب المسرحي، يقبل الآن إلى إتباع الطريقة ذاتها مع الجماعات ومنظمات المجتمع المدني الأخرى، حيث حولت مراسيم الطوارئ الأربعة، فالمادة التاسعة من المرسوم رقم 682 التي تحمل عنوان “الفصل من الوظيفة” تنص على أن المشاركة في أية فعاليات تضر باستقلال البلاد، وتحطم وحدتها، وتهدد أمنها القومي، أو الانضمام لأي وقف أو حركة أو جمعية أو تشكيل مشابه أو تكتل يمارس الفعاليات السابقة ذكرها أو مساعدتها أو الاتصال بها ضمن أسباب الفصل من الوظيفة.
حليف أردوغان الجديد: خرجنا من السجن كالسيوف المستلة من أغمادها!
أكد برينتشيك عقب خروجه من السجن بفضل التعديلات القانونية والقضائية التي أجراها أردوغان أنه يقف إلى جانب الأخير في جهوده الرامية إلى اجتثاث حركة الخدمة من جذورها.
وسبق أن أطلق برينتشيك تهديدا بعد تخطّيه عتبات السجن بأمتار قليلة قائلاً “خرجنا من السجن كالسيوف المستلة من أغمادها، وسنقضي على كل الجماعات والطرق الإسلامية في تركيا وسنجتثها من جذورها، كما سنهدم الحكومة التي تريد تقسيم تركيا، وسنمزق سلطة أردوغان وسلطة عبد الله جول وفتح الله كولن” على حد قوله، وذلك في بداية عام 2014.
ولأنه كشف بهذه التصريحات عن خطتها النهائية في هذا الصدد شعر بضرورة تعديلها، فقال في حوار له مع صحيفة “يني عقد” الموالية لأردوغان “لا بد من اجتثاث منظمة فتح الله كولن الإرهابية من جذورها، ومن يسعى إلى تحقيق ذلك فنحن معه ونؤيده بكل إمكانياتنا”، زاعمًا أنه أخطأ عندما هدد كل الجماعات الإسلامية في تركيا حين خروجه من السجن، مدعياً أنه تراجع عن هذا الخطأ بإرشاد زملائه، وأنه قصد “جماعة فتح الله كولن” فقط في تصريحاته المذكورة، وأنهم لا يرغبون في تدمير الجماعات الإسلامية جميعها إلا جماعة فتح الله كولن (!).
ورحب بيرنتشيك بحركة التصفية التي أطلقها أردوغان في صفوف الكوادر الأمنية والقضائية والكوادر الأخرى، معلنا دعمه الكامل لجهود أردوغان المتمثلة في القضاء على حركة الخدمة، وقال بالحرف الواحد: “إننا سنعمل مع أردوغان على اجتثاث حركة كولن من جذورها، لأنه لا يمكن أن يصبح من ينتمي إلى هذه الحركة شرطيا أو قاضيا أو موظفا عاما، وهذا ليس بعنف ولا انتهاك للقانون، بل ذلك مقتضى القانون”، على حد زعمه.
كما اعترف برينتشاك، الذي تصفه سجلاتُ المحكمة التركية المكلفة بالنظر في قضية أرجينيكون بـ”fabricator”، أيْ “صانع أحداث مزورة لإثارة الفوضى والبلبلة في البلد الذي يعيش فيه لصالح دولة أخرى”، بأن عمليات التصفية في صفوف الجيش التركي جرت وفق قوائم أعدها حزبه.
بيرنتشيك: أنا من أصلحت علاقة أردوغان مع بوتين والقادم هو الأسد
كما أن برينتشيك بات يتصرف وكأنه وزير خارجية أردوغان منذ خروجه من السجن، حيث ادعى أنه من قام بإصلاح علاقة أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين بعد تدهورها بسبب إسقاط الطائرة الروسية، إذ توسط في إجراء رجال أردوغان مفاوضات مع رجال بوتين، ثم أثمرت هذه المفاوضات إزالة البرودة وترطيب العلاقات بين الطرفين. ثم قال برينتشيك في تصريحاته لقناة روسيا اليوم “إن الدور أتى على إصلاح العلاقات بين أردوغان والرئيس السوري بشار الأسد”، وأكد أن تحسين العلاقات بين تركيا وروسيا سيمهّد الطريق للتعاون مع سوريا أيضاً.
هل سيتخلى برينتشيك عن أردوغان بعد استغلاله
يبدو أن ما تنبأ به برينتشيك أو بعبارة أصح، ما خطط له، بات حقيقة بفضل أردوغان، إلا أن برينتشيك يزعم الآن أن تركيا ستشتعل نارًا في شهر مارس المقبل! ، فقد قال ذلك خلال برنامج تليفزيوني على قناة أولوسال تي في “Ulusal TV”، في إطار تعقيبه على تصريحات الكاتب الصحفي بصحيفة “آيدنليك” اليسارية عصمت أوزتشليك الذي قال “يرى حزب العدالة والتنمية أن الوقت ليس في صالحهم، والتطورات الأخيرة تفرز نتائج لا يرغبها، لذلك فهو في عجلة من أمره، ويفكر في عرض التعديلات الدستورية المتضمنة للنظام الرئاسي على البرلمان، والتصويت عليها خلال 15 يوما، ثم طرحه للاستفتاء الشعبي خلال شهر مارس المقبل”.
كانت نبرة صوت برينتشيك عندما زعم أن “تركيا ستحترق نارا في شهر مارس المقبل” واثقة، وكان يعني ما قال.
من الواضح أن هذه التصريحات تهديد موجه لحزب العدالة والتنمية الحاكم، أو بعبارة أصح، للرئيس أردوغان، الأمر الذي يعني أن التحالف الذي عقد بين حزب العدالة والتنمية والدولة العميقة المتمثلة في “تنظيم أرجنكون” بعد فضح وقائع الفساد والرشوة في 17/25 ديسمبر لعام 2013 قد بدأ يتصدع بصورة صارخة، إذ تشهد الساحة التركية صراعا ملحوظا منذ فترة بين طرفي هذا التحالف، كما تقود امتدادات الطرفين في وسائل الإعلام حربا طاحنة، ورأينا أن الكتاب الموالين لأردوغان بدأوا يصفون مجددا تنظيم أرجنكون بـ”الإرهابي”، بعد أن كانوا يتجنبون استخدام هذا الوصف خلال فترة التحالف الماضية.
أسباب تصدع التحالف بين برينتشيك وأردوغان
ولكن ما الذي حدث حتى بدأ يتداعى هذا التحالف القائم على منطق “لنسدل الستار على جرائم وخبائث بعضنا البعض” بين حزب أردوغان وتنظيم أرجنكون؟ جواب هذا السؤال يكمن في تصريحات برينتشيك نفسها حيث قال: “نحن نرى النظام الرئاسي نظاما يطمع في انتزاع الصلاحيات من الشعب وجمعها في شخص واحد فقط، وسيؤدي إلى سيطرة عصابات المافيا على البلاد ومقدراتها”. بمعنى أن فريق أرجنكون لا يريد لأردوغان أن يسيطر على جميع السلطات في البلاد وتكون الكلمة الأخيرة له في كل صغيرة وكبيرة. ذلك لأن هذا سيفضي بالتأكيد إلى اختلال موازين قوى هذا التحالف.
لا يثق فريق أرجنكون في أردوغان أبدا، بل يفكرون أنه من الممكن أن يبيعهم حينما تأكد أنه بات الأقوى وصار مالك زمام كل شيء. إذ يعرف حلفاؤه جيدا أنه باع كل من تحالفوا معه حتى اليوم إذا ما شعر بأنه أصبح في غنى عنهم، لذلك من المحتمل أن يبيعهم أيضا.
بناء على ذلك، فإنه من الممكن أن يوظف فريق أرجنكون كل الإمكانيات والوسائل التي يحوزونها في إشعال فتيل الفوضى في جميع أنحاء تركيا حتى موعد الاستفتاء الشعبي على النظام الرئاسي. ومن المحتمل أن يحرقوا البلاد فعلا كما أعلنوا صراحة، ويرتكبوا اغتيالات سياسية لإحداث الاضطراب والبلبلة في كل مكان كما سبق أن فعلوا في الفترات الماضية.
قد يكون هناك من يستبعدون حدوث ما يزعم فريق أرجنكون في تركيا، غير أنهم يمتلكون فعلا القوة الكافية للقيام بمثل هذه الأعمال، حيث إنهم لم يكونوا أقوياء ومنفذين في أجهزة الاستخبارات والأمن إلى هذه الدرجة في أي وقت مضى، بعد أن تعرض هذان الجهازان لعملية “تطهير” شاملة بحجة تصفية المنتمين إلى حركة الخدمة، عقب بدء تحقيقات الفساد والرشوة عام 2013 والانقلاب المسرحي منتصف عام 2016.
هل سيقول أردوغان في النهاية: أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض؟!
وهنا لا بد أن نتذكر أن الكاتب والمفكر المتخصص في الفكر الإسلامي والحركات الإصلاحية علي بولاج المعتقل حالياً في إطار تحقيقات الانقلاب المسرحي، كان قال بُعيد نشوب خلاف بين حركة الخدمة وأردوغان “إن مرحلة إنهاء الوصاية والدولة العميقة التي بدأت سنة 2002 بدأت تتحول اليوم إلى الاتجاه المعاكس. فـ”البؤرة البيرقراطية العميقة” أو الدولة العميقة التي تدّعي ترتيب الكيان الموازي مؤامرة ضدها عبر قضايا أرجينيكون وباليوز وجيتام، تحيك اليوم “مؤامرة حقيقية” لكل الجماعات والحركات الإسلامية وبمهارة فذة. الهدف الأول هو “حركة الخدمة” باعتبارها لقمة صعبة، ثم يليها حزب العدالة والتنمية نفسه بقيادة أردوغان، ثم يعقبه الجماعات الإسلامية الأخرى واحدة تلوى الأخرى، باعتبارها لقمة سهلة. صدقوني، ولا يساوركم أدنى شك في ذلك، فإنه سيتم أكل الثور الأصفر أولاً، ثم الثور الأبيض، ثم الثور الأسود”.
فيا ترى فهل سيضطر أردوغان في الأيام القادمة إلى القول: “أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض؟”، أم أنه لا يملك هذه الشجاعة على الاعتراف بعد كل ما فعل؟