في ظل تلاطم أمواج الحياة المادية ومغرياتها، اختلط الحابل بالنابل حتى أصبح الحليم حيرانا في هذه الأيام. فرغم المكانة المرموقة التي احتلها العلم والعلماء في علوم الدنيا فهي في علوم الدين عظيمة وفي الإسلام أعظم. تلك هي المكانة التي قررها كثير من الباحثين في حق الأستاذ المجدد والمفكر العبقري فتح الله كولن.
وتتمة لما تواتر نقله عن الباحثين والدارسين من الأكاديميين حول فكر وفقه هذا الرجل، أقف اليوم عند بحث جديد قد يلخص مكانة الأستاذ كولن بين العلماء وعند الناس وهو تحت عنوان:”فقه التنزيل عند الأستاذ فتح الله كولن”. قسمته صاحبته إلى فصول ثلاثة. الأول: الأستاذ محمد فتح الله كولن، جوانب من حياته الشخصية والعلمية. الثاني: أسس وأهداف فقه التنزيل عند الأستاذ كولن. الثالث: نماذج من فقه التنزيل عند الأستاذ محمد فتح الله كولن. ومما جاء في خاتمة البحث: (…إن الأستاذ محمد فتح الله كولن، وهو بصدد تطبيق فقهه علي أرض الواقع انطلق من أسس قوية تتمثل في القرءآن الكريم والسنة النبوية وفق منهج حكيم، وبواسطة خطاب بسيط وعميق في نفس الوقت حيث أن خطابه خطاب لا يتلون بألوان السياسة ولا بألوان الجماعات الحزبية. ففقه الأستاذ يراعي فقه المآلات وظروف الواقع الذي ينطلق منه ليعود إليه، ولعل هذا -إلي جانب تدينه وإيمانه العميق- ما جعل العديد من القلوب تهوى فكره وقناعاته بل تضع أيديها في يده من أجل الإتحاد وتحقيق الأهداف النبيلة التي يرمي إليها…وليس مجال التربية وحده المجال الذي اهتم به فقط، فقد شمل فقهه مجالات عديدة جدا مثل مجال الاقتصاد والتعليم والحوار والتسامح الذي خاض فيه تجارب ومشاريع قل مثلها اليوم…)
لست أدري من أين أبدأ الكلام؟ هل أفصل القول لأبين بعض الجواهر في فكر وفقه الأستاذ كولن؟ أم ألتفت إلى التنويه لما يروج هذه الأيام من اتهامات وتضليل حول هذا العالم الجليل. ففي الوقت الذي يتزاحم الباحثون والمفكرون على دراسة فكر وفقه هذا الرجل ومعرفة أسباب النجاحات المتوالية والمشرفة للمسلمين والتي حققها في كل بلدان العالم و في جميع مجالات الحياة، تتداعى حفنة من السياسيين باسم العلم والعلماء لتضليل الناس وتشويه هذه الصورة المشرقة لهذا العالم الكبير. و رحم الله الشيخ النورسي لما سطر لنا مقولته الذهبية حين قال:” أعوذ بالله من الشيطان والسياسة”.
لقد حُكي أن أحد علماء السلف “تكلَّم على أمير المؤمنين بما لا يُعجبه ويرضيه أمام الرعية، فأمر حاشيتَه أن يعزلوه عن وظيفته، قالوا: ليس له وظيفة يا أمير المؤمنين، قال: أحرموه من العطايا، قالوا: لا يأخذ عطايا، قال: إذًا أوقفوا عنه الهبات، قالوا: لم يأخذ هبةً قط، قال: امنعوا عنه الأموال من بيت مال المسلمين، قالوا: لا يأخذ شيئًا يا أمير المؤمنين، فاستشاط غضبًا وقال: إذًا كيف يأكل! قيل له: لديه حِرفة يكسب منها”. وكذلك هو الأستاذ فتح الله كولن يحارَب لأنه رفض الوقوف على أبواب السلاطين، لأنه دائم الوقوف أمام باب الكريم الذي لا تنفد خزائنه.
نحن على يقين تام بأن كثيرا من العلماء الذين طُلب منهم الاجتهاد في كتابة شيء للطعن في الأستاذ كولن، لم يجلسوا معه قط بل قد يكون منهم من لا يعرفه أصلا وإنما يسمع به أو من خصومه. و أتساءل باسم الملايين الذين يعرفونه: هل الذين اجتمعوا للتنقيب عن شيء يتهمون به الأستاذ كولن، علماء أم سياسيون؟ فإن كانوا من أهل السياسة فلا يضُرنا ذلك ولا نتعجب منه، لأن التاريخ مليء بالعلماء الذي قدموا ثمن مواقفهم وعدم مسايرتهم لرغبات السلاطين. أما إن كانوا من العلماء، فمن هم وما هي مؤلفاتهم في العلوم؟ وما هي آراؤهم فيما تعيشه الأمة من محن ونكبات؟ وما هي اجتهاداتهم والحلول التي قدموها للإنسانية الضائعة اليوم، كما فعل الأستاذ كولن؟ قال ابن الجوزي رحمه الله: (ومن صفات علماء الآخرة أن يكونوا منقبضين على السلاطين، محترزين عن مخالطتهم..).
نعم هل المسلمون اليوم في حاجة إلى من يحقن دمائهم ويصون أعراضهم وكرامتهم ويدافع عن حقوقهم وحرياتهم؟! أم أن الأولوية لتحقيق النزوات ومطاردة الساحرات؟ ثم إن الباحثين في أقصى الأرض وغربها لم يعرفوا عن الأستاذ كولن إلا فقهه الإسلامي التجديدي الأصيل، و لم يروا منه إلا مؤلفاته المعتمدة على الكتاب والسنة، وحبه النادر – في هذا الزمن- لسيرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ومشاريعه البديلة التي زاحمت كثيرا من الناجحين في العالم، ولم يضاهيه في ذلك أحد. ثم لو كان للرجل ما قيل لهؤلاء العلماء من أخطاء ومساوئ، لماذا لم يقدمها السياسيون الذين يملكون كل الوسائل والإمكانات، ويفضحوه أمام العالمين؟ ثم إن عجز السياسيون عن وجود دليل مقنع ضد الأستاذ كولن، فهل يليق بمن يدعي العلم أو الدين، أن يتصدى لهذه المهمة القذرة و يطعن في عالم جليل سكن عقول وقلوب الملايين من الناس في كل أنحاء العالم؟ ثم هل من المعقول أن يخدع الأستاذ كولن كل هذه الملايين، ولا يعرفون هذه المساوئ التي يروج لها، وجلهم من الباحثين المدققين والعلماء المقتدرين.
ولايفوتني في هذا المقام، وأنا أتقطع أسفا على المستوى الذي وصل إليه بعض علماء أمتنا، التذكير بقول العالم الجليل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حين سئل عن ذم عموم العلماء فما بالك بالمجتهدين والمجددين أمثال الأستاذ كولن، قال رحمه الله: (…وقد قررنا فيما مضى، أن الذم لا يلحق المجتهد، حتى إنَّا نقول: أن محلل الحرام أعظم إثماً من فاعله. ومع هذا فالمعذور معذور فإن قيل: فمن المعاقب؟ فإن فاعل هذا الحرام، إما مجتهد، أو مقلد له، وكلاهما خارج عن العقوبة. قلنا: الجواب من وجوه: …. الثاني عشر: أن نصوص الوعيد، من الكتاب والسُّنَّة كثيرة جداً، والقول بموجبها واجب على وجه العموم والإطلاق، من غير أن يعين شخص من الأشخاص. فيقال: ((هذا ملعون)) أو ((مغضوب عليه)) أو ((مستحق للنار)). لا سيما إن كان لذلك الشخص فضائل وحسنات. فإن من سوى الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – ، يجوز عليهم الصغائر والكبائر، مع إمكان أن يكون ذلك الشخص صديقاً أو شهيداً، أو صالحاً، لما تقدم أن موجب الذنب يتخلف عنه بتوبة ، أو استغفار ، أو حسنات ماحية ، أو مصائب مكفرة ، أو شفاعة ، أو بمحض مشيئته ورحمته. فإن قلنا بموجب قوله صلى الله عليه وسلم: “لعن الله من شرب الخمر”… أو “من استحل مال امرئ مسلم بيمين كاذبة فقد أوجب الله له النار وحرم…واعلم أن هذه السبيل هي التي يجب سلوكها…فإن ما سواها طريقين خبيثين: أحدهما: القول بلحوق الوعيد لكل فرد من الأفراد بعينه. ودعوى أن هذا عمل بموجب النصوص.وهذا أقبح من قول الخوارج المكفرين بالذنوب، والمعتزلة وغيرهم.وفساده معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وأدلته معلومة في غير هذا الموضع.).
فهل يمكن وصف من قام بكيل التهم والأباطيل وإلصاقها بالأستاذ كولن بالعالم؟ أم أن ذلك دليل واضح على عجز السياسيين عن وجود طريق يعاقبون به هذا الرجل الذي سلك طريق العلماء الربانيين من قبله أمثال سعيد ابن المسيب وسعيد بن جبير و الإمام أحمد والإمام مالك بن انس رحمه الله الذي عُذب وضُرب حين رفض أن يفتي بما أراد الخليفة. ومما رواه الطبري (أن أبا جعفر نهى مالكاً عن حديث: (ليس على مستكره طلاق)، وهو أن طلاق المكره ليس بشيء؛ لأنه يقاس على ذلك أن بيعة المكره ليست بشيء، فلو أكره إنسان على مبايعة إمام معين فإن هذه البيعة تكون غير شرعية. وحكى بعض أصحاب ابن وهب أن مالك بن أنس لما ضُرب حلق وحمل على بعير، فقيل له: ناد على نفسك، فقال: ألا من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي وأنا أقول: طلاق المكره ليس بشيء، قال: فبلغ جعفر بن سليمان أنه ينادي على نفسه بذلك، فقال: أدركوه، أنزلوه).