بقلم: عبد السلام كمال أبو حسن
عاشت تركيا القديمة فترة تحكمت فيها وفي قراراتها الدولة العميقة، وكانت هي صاحبة اليد العليا في كل شيء، كانت تطرد وتحاكم من تريد تحت مسمى الرجعية، وكان هناك اتفاقاً بينهم على عدم ترك الدولة في أيدي حكومة تكون صاحبة توجه إسلامي أو تتبنى فكرة السياسة الإسلامية.
وكانت القرارات التي تصدر والأحكام التي تتخذ من قِبل هذه المجموعة تُسجل وتُحفظ في كتاب سمي بالكتاب الأحمر، وكان هذا الكتاب هو الدستور السري والفعلي للدولة التركية آنذاك، وقد نشأت هذه الدولة بعد سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا واستمر دورها ونشاطها في تركيا ولم ينقطع في فترة من الفترات.
وقد كنت أطالع اليوم مقالاً نشره مستشار وكاتب الرئيس رجب طيب أردوغان ونائب حزب العدالة والتنمية في مجلس الشعب “أيدن أونال” على أنَّ خطة القضاء على حركة الخدمة قد اتخذت قبل 15 سنة، أي أنَّ هذا القرار قد اتخذ قبل أنَّ يفوز حزب العدالة والتنمية برئاسة الحكومة فمن اتخذ هذا القرار في ذلك الوقت؟.
وبالنظر إلى الوثيقة رقم 481 التي خرجت من مجلس الدفاع الوطني التركي في 24 من أغسطس 2004؛ والتي كانت تنص على أنَّ المجلس وبحضور رئيس الوزراء أردوغان قد اتخذ قرارًا بالقضاء على حركة الخدمة التي تستمد فكرها من الأستاذ فتح الله كولن، وجماعات النّور التي تستمد فكرها من الشيخ سعيد النورسي مؤلف رسائل النور رحمه الله، -وبعد ظهور هذه الوثيقة للملأ قال رئيس الوزراء في ذاك الوقت: “إن هذه الوثيقة صحيحة؛ وإنّنا اضطُررنا للموافقة عليها ولكن لن تدخل هذه الوثيقة حيّزَ التنفيذِ”-.
وبالتأمل لِما قاله هذا النائب وما ورد في هذه الوثيقة وما يحدث على أرض الواقع يتضح لنا أنَّ هذا القرار قد اتخذ حتى قبل هذا التاريخ، إلا أنَّ هذه الدولة العميقة فضلت أن يكون المنفذُ لهذا القرار رجلاً ممن يحسبون على التيار الإسلامي حتى لا يقال: “إنّ هناك حرب على الإسلام الاجتماعي في تركيا”.
وقد يسأل سائل ويقول : “كيف سمحت الدولة العميقة بإنشاء حزب ذي توجه إسلامي في تركيا، المتمثل في حزب العدالة والتنمية مع أن مبادئَها لا تسمح بإنشاء مثل هذه الأحزاب؟
عندما ننظر إلى المشهد التركي إبان هذه الفترة ونقرأ الواقعَ قراءةً جيدةً، سنجد أنّ الشعبَ التركي كان محباً للإسلاميين ومحباً لأي حزب إسلامي وكان عنده خوفٌ من أي حزب يتبنى الفكر الكمالي أو أي فكر آخر غير الفكر الإسلامي، وبعد الانقلاب الناعم الذي حدث على أربكان في تسعينيات القرن الماضي، أيقنَ الغربُ والدولة العميقة في تركيا أن أي انتخابات قادمة سيفوز فيها الإسلاميون؛ لذا كان لابد من إنشاء بديل قوي يتبنى ظاهراً الفكر الإسلامي، يعمل هذا البديلُ على كسب أصوات الإسلاميين حتى لا يكون هناك أحزاباً إسلاميةً أخرى قويةً منافسةً في الساحة التركية، وحتى يكون الكلام موثَّقًا سأذكر شهادة بعض رجال السياسة المقربين من دائرة الحكم والحزب الحاكم في تركيا.
نقل الكاتب الصحفي والعالم التركي على بولاج في مقال نشره في جريدة الزمان في 22 من ديسمبر 2014 شهادةَ الكاتب الصحفي عبد الرحمن ديليباك المقرب من الرئيس رجب طيب أردوغان التي قال فيها: “إنَّ حزب العدالة والتنمية أسسته الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل كمشروع سياسي”.
وهذا الذي دفع أربكان باتهام أردوغان أكثر من مرة بأنّه مُعدٌّ من طرف الغرب، وفي نفسِ السياق ذكر الكاتبُ الصحفيُ محمد على بولوط في مقالته التي نُشرت في الموقع الإخباري للقناة السابعة التركية بتاريخ 11 يناير 2014 ، أنّ السيد محسن يازجي أوغلو الزعيم الراحل لحزب الاتحاد الكبير والذي لقي مصرعه في حادث طائرة، طلب من السيد رجب طيب أردوغان أن لا يعتمد على الغرب في سياسته وأن لا يبني سياسته على الدعم الأمريكي فقط، وكان رد أردوغان: “أننا سننفذ ما يطلبه منا الأمريكيون في البداية ثم نتبع السياسات التي هي لمصلحة الشعب”.
ولكن هل وثق أردوغان إلى هذه الدرجة في الأمريكيين والدولة العميقة وأنَّ من السهل الانسلاخَ منهم والتخلص منهم بسهولة؟ وهل تيقن أردوغان أنّه عندما يستعين برجال الجيش السابقين الذين قادوا الانقلابات السابقة على أربكان وأكثرهم من رجال الدولة العميقة ومن أذرعتها، وكانوا يريدون الانقلاب عليه قبل ذلك أنهم لن يفكروا في الانقلاب عليه أيضا مرة ثانية؟
إنَّ المتابع لتصريحات زعماء الأحزاب اليسارية يجدهم يصرحون بين الفينة والأخرى على أنهم نجحوا في القضاء على حركة الخدمة التي كانت تمثلُ ظهيرًا قويًا للإسلام الإجتماعي في تركيا، وأنّه حان الوقت للقضاء على أردوغان.
هل ما يحدث في تركيا حالياً من القتل والتفجير وسجن الإعلاميين والصحفين وتكميم الأفواه يومياً والممارسات الاستبدادية التي تقوم به الحكومة التركية، هو بداية الانقلاب الفعلي الذي ستقوم به الدولة العميقة في تركيا، والتى استطاعت قبل ذلك القضاء على كل الأحزاب الإسلامية عن طريق حزب العدالة والتنمية ولم يعد لهذه الأحزاب قوة على أرض الواقع، وتسعى في الوقت الحالي القضاء على الظهير الاجتماعي للإسلام في تركيا عن طريق القضاء على حركة الخدمة أكبر حركة للإسلام الاجتماعي؟
والذي يظهر لي من خلال سرعة الأحداث في تركيا أنَّ هذه الدولة العميقة ستقوم -بعد أن تصل لقناعة أنها قضت على حركة الخدمة- تدريجيّاً بنفض الظهير الشعبي من خلف أردوغان حتى يتسنى لها القضاء عليه وعلى حزبه، ووأد التجربه الإسلامية في تركيا سواء التجربة السياسة أو الاجتماعية، وذلك عن طريق خلق عدواة بين أردوغان وحزب العدالة والتنمية من جهة وبين الجماعات الدينية واحدة تلو الأخرى. لا شك أن الأيام القادمة حاملة لنا الكثير من الأخبار وستجيب على كل هذه الأسئلة وهذه الشبهات، ولكن في النهاية الذي سيخسر هو الشعب التركي الذي آمن بفكرة الإسلام السياسي والذي ربط فكرة نجاح المشروع الإسلامي بشخصية الرئيس رجب طيب أردوغان، وستخسر تركيا الشوط الذي قطعته في إرساء مفهوم الديموقراطية والدولة الحديثة.