بقلم: يافوز أجار
يستمر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع أنصاره وحلفائه في إعادة تصميم كل أجهزة الدولة وفق هواه من خلال المفتاح أو “المصباح السحري” المسمى بـ”الكيان الموازي”. فمنذ أن زعم أن هناك كياناً موازياً في جهازي الأمن والقضاء يريد الإطاحة بحكمه عبر توظيف تحقيقات الفساد والرشوة التاريخية في نهاية عام 2013 ظهرت عملية “إعادة تصميم تركيا” إلى السطح بعد أن كانت تجرى بشكل خفي.
هذه النية المبيتة كانت موجودة حتى قبل وصول أردوغان إل الحكم. ثم جدد أعضاء مجلس الأمن القومي مشروع تدمير “تركيا الديمقراطية المدنية الحرة” في الاجتماع الذي عقد عام 2004 ووقع عليه مسؤولو السلطة السياسية، بمن فيهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في تلك الفترة عبد الله جول وأردوغان. وهم لم ينكروا ذلك وإنما زعموا أنهم اعتبروه في حكم العدم. ثم ظهرت علاماتٌ جديدة في عام 2007 دلت على أن المشروع سارٍ وراء الستار، إلى أن طفا على السطح جلياً بحلول عام 2014.
يمكن تلخيص مراحل مشروع إجهاض تركيا الديمقراطية المدنية الحرة وهي في مهدها،كما يلي:
إعادة تصميم الأمن والقضاء:
- عزل وإقالة عشرات الآلاف من القادة والضباط الأمنيين المخضرمين والمتخصصين في مكافحة التنظيمات الإرهابية خاصة، وتعيين عناصر جديدة من أنصار أردوغان وحلفائه تتلقى الأوامر منه مباشرة، بحجة تطهيرهما من الكيان الموازي.
- إغلاق جميع المعاهد الشرطية التي كانت تخرج عناصر مدربة ومتخصصة لمراكز الأمن في كل أنحاء تركيا.
- إجراء تعديلات جذرية في جهاز القضاء والمجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين، نُقِل وشرّد بموجبها آلاف من القضاة والمدعين العامين وعين مكانهم الموالون والمبايعون لأردوغان.
- إغلاق محاكم العقوبات الثقيلة (الجنايات) العاملة في البلاد منذ عقود، وتأسيس محاكم الصلح والجزاء الحالية بدلاً عنها والتي وصفها أردوغان نفسه بأنها “مشروع”، وتعيين القضاة والمدعين العامين من أنصاره وحلفائه بدلاً عنهم.
وبذلك انتهى أردوغان من إعادة تصميم الأمن والقضاء وفق هواه. ثم قدم الأمن والقضاء المعاد تصميمهما لأردوغانَ وأنصاره وحلفائه عديداً من الخدمات الجليلة، نذكرها منها ما يلي:
تحويل الأمن والقضاء إلى أداة للتعتيم
- إغلاق كل الملفات الخاصة بتحقيقات الفساد والرشوة التي تورط فيها وزراء أردوغان ورجال أعمال مقربون منه، وعلى رأسهم رضا ضراب التركي من أصل إيراني، بل تورط فيها أردوغان نفسه ونجله بلال أيضاً. وكان أردوغان رفض كل الدعوات المطالبة بتشكيل لجنة دولية محايدة للتحقيق في الاتهامات الموجهة إليه، وكذلك في التسجيل الصوتي المشهور المنسوب إليه وابنه، والذي يكشف عن تعليماته له بإخفاء الأموال الهائلة في منزله بعد بدء تحقيقات الفساد.
- إغلاق جميع الملفات المتعلقة بقضية تنظيم السلام والتوحيد الإيراني الإرهابي، بالتوازي مع إغلاق ملف الفساد، رغم أنه متهم بالتجسس لصالح إيران ويقف وراء عديدٍ من الاغتيالات السياسية التي غيرت مجريات الأمور وأحدثت الفوضى والإيقاع بين الفئات المختلفة في تركيا.
- إخراج جميع الضباط والجنرالات الكبار من السجن بعد أن أدانتهم المحكمة بتهمة التخطيط للانقلاب على حكومات أردوغان المتتالية حتى عام 2007، وذلك في إطار قضايا “أرجينيكون” و”المطرقة” و”جيتام” الانقلابية و”كا جي كا” (KCK) الخاصة بمنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابي.
لقاء لأردوغان سيبقى سراً حتى موته!
- وإذا علمنا أن “إدريس بال”؛ النائب البرلماني من صفوف حزب أردوغان “العدالة والتنمية” سابقاً تقدم إلى رئاسة البرلمان بطلب الردّ على الادعاءات التي تقول إن رئيس هيئة الأركان الأسبق الجنرال ياشار بويوك آنيط أظهر لأردوغان، في لقاء ثنائي، عديداً من الملفات الخاصة به، ثم هدّده وطالبه بتنفيذ “المشروع” الذي سيطرحه، تحت إشراف “فريق خاص” مكون من الخبراء؛ اللقاء التاريخي الذي جرى عام 2007 في قصر “دولما بهتشه” في إسطنبول، والذي أجاب أردوغان عن التساؤلات الواردة حول مضمونه بأنه “سرّ لن أكشف عنه حتى يأتيني اليقين“…
- وإذا وضعنا نصب أعيننا أن هذه الحادثة أحدثت تغييراً كاملاً في نظرة أردوغان وموقفه من القضايا المذكورة التي انطلقت في العام نفسه…
- وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن بويوك آنيط أعلن بنفسه أنه الاسم الذي أعدّ نصوص “التحذير العسكري الإلكتروني” الموجَّه لحكومة أردوغان في العام ذاته (2007) عندما تم ترشيح عبد الله جول لرئاسة الجمهورية…
سنستنتج بسهولة أن أعداء أردوغان القدامى من الجنرالات الانقلابيين المنتمين إلى شبكة أرجينيكون الموصوفة بـ”الدولة العميقة” تحالفوا مع “التيار الإيراني” في تركيا، ودفعوا بأردوغان إلى عالم الجرائم، من أجل إنقاذ عناصرهما في السجون، وتنفيذ مشروعهم للانتقام من القادة والضباط الأمنيين المشرفين على هذه التحقيقات، والأهم من ذلك من الجيش التركي الذي دعم هذه القضايا لتطهير نفسه من العناصر الإجرامية والانقلابية، إضافة إلى المؤسسات الإعلامية ومنظمات المجتمع المدني، وفي مقدمتها حركة الخدمة.
عالم جرائم أردوغان تمثل في ملفين رئيسين:
- ملف الفساد الذي ورّطته فيه إيران عن طريق امتداداتها الداخلية في تركيا من أمثال رضا ضراب المعتقل حاليا في الولايات المتحدة بتهمة خرق العقوبات المفروضة على إيران عبر شبكة “تبييض أموال” دولية عملاقة. إيران تنفست اقتصادياً بفضل هذه الشبكة، لكن أردوغان أصبح متهماً بالفساد وغسيل الأموال الإيرانية السوداء في الحمام التركي.
- ملف الإرهاب الذي ورّطته فيه شبكة أرجينيكون من خلال جناحها الإسلامي (الأرجينيكون الأخضر) الذي وظّف طموحات أردوغان في قيادة تركيا والعالم الإسلامي كله لدفعه إلى ركوب أمواج ثورات الربيع العربي وتحدّي إسرائيل وسوريا. ولما عجز عن ذلك بحكم قوة تركيا المحدودة نصحه بالتعاون مع جماعات متطرفة وتنظيمات إرهابية مثل داعش. ثم تلقى أردوغان لطمة صادمة من كل من إسرائيل في مياه البحر المتوسط وإيران في سوريا، دون أن يحقق أياً من طموحاته، بل بات اليوم مضطراً إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل بل حتى مع سوريا.
مراحل مشروع الانتقام:
- عندما تمكنت شبكة أرجينيكون من الحصول على ورقتي “الفساد والإرهاب”، راحت تضغط على أردوغان بسهولة وتنفذ مشروع الانتقام من الأمن والقضاء والجيش؛ الأجهزة التي دعمت تلك القضايا الإجرامية والانقلابية، أو بعبارة أصحّ مشروع “إسقاط تركيا” برمتها، لصالح إسرائيل وإيران. أليس من الغريب أن تؤدي السياسة الخارجية التي تتبعها تركيا بقيادة أردوغان منذ 7 أعوام إلى تضييق الخناق عليها وفتْح الطريق أمام كل من إسرائيل وإيران اللتين تتظاهران بالعداوة في العلن وتتعاونان في الخفاء؟
- نفذ الأمن والقضاء الجديدان، من الألف إلى الياء، عملية ضد قيادات الأمن القديمة ممن أشرفوا على تحقيقات قضايا الفساد والتجسس الإيراني وأرجينيكون وحزب العمال الكردستاني أسفرت عن اعتقال المئات، بعد طرد وعزل عشرات الآلاف منهم في وقت سابق.
- أعادت الإدارة الجديدة “المقنعة” بالقناع الأردوغاني تصميم الإعلام التركي عبر سياسة الجزرة أو العصا، فخضعت بعض وسائل الإعلام طوعاً، وبعضها كرهاً، فيما أبى بعضها إلا أن يكون حراً محايداً، فدفع ثمن ذلك باهظاً، حيث أغلقت جميع مؤسساته، بما فيها شركة “فضاء” الإعلامية التي تضم صحيفة “زمان” الأكثر مبيعاً في البلاد، ومجموعة “إيبك” الإعلامية، وقنوات “سامانيولو”، إلى جانب اعتقال عشرات الصحفيين.
- أطلقت هذه الإدارة المقنعة حملة شعواء وعملية “مطاردة السحرة” ضد محبي حركة الخدمة ومؤسساتها المختلفة بحيث أغلقت جميع المدارس الموجودة في تركيا، إلى جانب مؤسساتها الأخرى.
- وأخيراً جاء الدور على إعادة تصميم الجيش أيضاً، بعد أن رصد وسجّل وسرّب تورُّط أردوغان في التعاون مع الإرهاب، بدليل استيقاف شاحنات المخابرات المحملة بالأسلحة والمرسلة إلى داعش على الطريق بين أضنة ومرسين أول عام 2014، وبعد أن رفض الخضوع لإرادة أردوغان في إعلان الحرب على سوريا. إذ هبّ هذا التحالف الثلاثي لتدبير محاولة انقلابية محفوفة بـ”الفخاخ” حتى تبوء بالفشل لكي يحصل على الذريعة التي تسوغ عملية التصفيات والانتقام من الجيش الذي هو اليد الحقيقية التي كانت تقف وراء عملية تنقية القوات المسلحة من العناصر الانقلابية والإجرامية. بعد هذه المحاولة المراد لها أن تفشل، تعرض كثير من القادة العسكريين للتصفية حتى وإن لم يشاركوا فيها، ليأتي بدلاً عنهم الجنرالات المحكوم عليهم سابقاً في القضايا الانقلابية والإجرامية، فضلاً عن إغلاق المعاهد العسكرية مثل المعاهد الشرطية سابقاً.
ولعل العنوان الرئيس المثير لصحيفة “سوزجو” العلمانية المتطرفة يلخص القصة: “الضباط المحكومون في إطار قضية المطرقة (باليوز) أصبحوا جنرالات!”، ثم أضافت: “انقلبت المرحلة في الاتجاه المعاكس…فبحلول تاريخ 15 يوليو/ تموز (ليلةا لانقلا بالفاشل) تغيّر سير تصفية الحسابات… دارت الأيام وجاء الوقت الذي ظهرت فيه قيمة الضباط الأتاتوركيّين في أعقاب المحاولة الانقلابية لمنظمة فتح الله كولن الإرهابية – على حد وصفها – إذ تمت ترقية 13 ضابطاً في مجلس الشورى العسكري الأعلى، بعد حبسهم بمؤامرة نصبت ضدهم”.
هل جاء الدور على المخابرات لإعادة هيكلتها؟
مع أن رئيس المخابرات هاكان فيدان رفض وجود عناصر الكيان الموازي في جهازه، إلا أنه يبدو أن هذا التحالف المكون من اللصوص والانقلابيين والإرهابيين مقبلٌ على إعادة تصميم جهاز المخابرات أيضاً، حيث صرح نائب رئيس الوزراء نعمان كورتولموش أنهم يعتزمون إجراء تعديلات جذرية في هيكلة المخابرات بهدف جمْع كل الأجهزة والوحدات الاستخباراتية والقوة المسلحة في “يد واحدة”.
بالله عليكم.. هل وعدنا أردوغان في بداية مشواره السياسي بهذه الدولة المخابراتية!
لقد حوّل تركيا إلى سوريا بينما كان أنصاره ينتظرون منه أن يحول سوريا إلى تركيا!
باتت تركيا على شفا حفرة من النار بسبب عدوه الوهمي المسمى بالكيان الموازي الذي يزعم أن أعضاءه منتمون إلى حركة الخدمة، لكننا نرى أن الذين يستهدفهم يوجد بينهم أناس من كل الألوان والأشكال والأعراق حتى الأديان، كما سبق أن أعلن أحد رجال الأمن المشاركين في تحقيقات الفساد اعتقله أردوغان قبل ثلاث سنوات أنه منتمٍ إلى فكر “عزيز نسين” الإلحادي، وأعلن أحد الدكاترة بعد حبسه أمس أنه ملحد!
ترى متى سيتوقف أردوغان عن كذبة الكيان الموازي ويقلع عن تدمير تركيا بحجة مكافحة هذا الشبح؟!