بقلم: أمينة أروغلو
قال سعيد بن سلم الباهلي: “صلى بنا الخليفة العباسي الهادي صلاة الغداة، فقرأ: “عم يتساءلون”، فلما بلغ قوله تعالى: “ألم نجعل الأرض مهاداً” أُرتِج عليه فرددها، ولم يجسر أحد أن يفتح عليه لهيبته، وكان أهيب الناس، فعلم ذلك فقرأ: “أَلَيْسَ مِنكُم رَجُل رَّشِيدٌ”، ففتحنا عليه”.
أحياناً تستوقفكم عبارة معينة فيذكرها لسانكم تكراراً ومراراً. أما أنا فأكرر في هذه الأيام الآية التالية:
أَلَيْسَ مِنكُم رَجُلٌ رَّشِيدٌ؟!
فبينما يهاجمون على المؤسسات التعليمية، وينهبون أموال الناس الحلال، ويصفون المنح الدراسية والأضحيات التي قدمها رجال الخير من رأس مالهم لاستخدامها في أعمال الخير وبناء المؤسسات التعليمية بغية تربية أجيال المستقبل، والتي كان أصحاب السلطة الحاكمة يقدمونها أيضاً في الأيام الخوالي، بوصمة “دعم الإرهاب”، ويصرخ أحد مدرِّسي “مادة الدين” الذي يبلغ من العمر 56 عاماً، والذي لم يؤذِ في حياته حتى نملة قائلاً: “إنهم اعتقلوني بتهمة الإرهاب، رغم أنني لا أقدم حتى السكين لزوجتي في المنزل مبرزاً طرفه الحادّ خشية أن أثير لديها الخوف والهلع! بمعنى أنك تستيقظ يوماً فتجد نفسك قد أصبحت إرهابياً! لكنك لا تعرف شيئاً عن الإرهاب. لا يمكنني أن أكون إرهابياً، فأنا عاجز عن ممارسة الإرهاب بواقع فطرتي”… وعندما ينتهكون حقوق الأيتام ويبعدون أناساً عن وظائفهم رغم عيالهم، ويقتلون الأبرياء، ويداهمون المنازل منتصف الليل فيتركون الشيوخ الركع والأطفال الرضع بلا معيل ولا نصير…
أَلَيْسَ مِنكُم رَجُلٌ رَّشِيدٌ يوصي بالحق والعدل؟!
طالما أننا متفقون جميعًا على أن الذين لا يوصون بالحق في خسران وضلال مبين… ألن تقولوا في وجه هؤلاء الظلمة: “إن هذا كذب وافتراء لا تقولوه”، “هذا افتراء لا تُقبلوا عليه”، “هذا ظلم لا ترتكبوه” “لا تعتدوا الحدود”.
متى تخليتم عن توصية الظالم بالعدل، والعادلِ بالرحمة، فرُحْتم تقولون للمظلومين “الوضع ليس كما تعتقدون، أنكروا انتماءكم إلى حركة الخدمة، وإلا سيحِل الدور عليكم كذلك”، واعتبرتم قول هذا من ضروب التوصية بالحق؟
تذكروا إذ يقول مولانا جلال الدين الرومي: “إن لم ترَ الأفعى إنساناً أربعين عاما تنقلب تنيناً”، بمعنى أن الأفعى إن لم تُخرِج السمّ الكامن في جوفها من خلال لدغ شخصٍ ما لمدة طويلة ستتحول إلى وحشٍ”. فإذا لم يستطع الإنسان تزكية نفسه بالخير يتحول كيانه تماماً إلى شر محض مثل هذه الأفعى. فهل أنتم تركتم من كانوا ينصحونكم بالخير فأصبحتم لا تنصحون بالخير أبداً؟
يقول الإمام الغزالي: “إن انقطع المؤمن عن التعلّم وقراءةِ الكتب ثلاثة أيام متتالية، فحياته المعنية والقلبية تتدهور دون أن يشعر”. هل سكوتكم عن هذا الكمّ الهائل من الجور والظلم نابعٌ عن خلوّكم حتى من خردل من هذا العلم والعرفان؟
وكذلك يقول الإمام أحمد السرهندي: “لا تدفعوا الجهلاء ليطيلوا ألسنتهم إلى العظماء والكبار”. هل باتت ألسنتكم لا تستطيع النطق بالخير والتعبيرَ عن الحق لأنكم حرّضتم الجهلاء على إطالة ألسنتهم إلى العظماء والكبار، فغدوتم تصفّقون وتجللون من يوصون بالشر وتضعونهم على رؤوسكم؟ بالله عليكم ماذا حدث وحلّ بكم؟
أَلَيْسَ مِنكُم رَجُلٌ رَّشِيدٌ؟!
تعرفون الرجل المؤمن من آل فرعون، هو نموذج لشخصية معينة… إنه “رجل عاقل حكيم” بين الذين تجاوزوا حدودهم… إنه بطل حقيقي استعاذ بالله تعالى وأوصى بالحق في أوساط من ركعوا وخضعوا لقوة السلطة وانبهرت عيونُهم بسحرها الجذاب…
قصة هذا الرجل لا ترِدُ في التوراة والتلمود، وإنما هى هبة القرآن لتاريخ الإنسانية أخرجها من قبر التاريخ ليحفرها ويخلّدها في الأذهان.. وعلى وجه الخصوص في أذهاننا نحن المسلمين. لذلك سأعيد ذكرها كي تكون ذكرى وعبرة لقلوبنا مرة أخرى:
(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ: أَتَقْتُلونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ. وَإِنْ يَكُ كاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ صادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ. يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا؟ قالَ فِرْعَوْنُ: ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى، وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ)” (28-29 من سورة غافر/المؤمن)
إذ كان فرعون يخطط لقتل سيدنا موسى عليه السلام أخرج الله أمامه ذلك البطل من قصره وعائلته ورجاله. يبدو أن هذا البيان الذي يدعو الناس إلى الاعتدال والاتزان لم يؤثر في فرعون. غير أن رسالة الصدع بالحق والنطق بالصدق لهي تنطوي على قيمة كبرى عند الله سبحانه وتعالى بحيث سمى هذه السورة المباركة بـ”سورة المؤمن” إضافة إلى ذلك البطل المجهول.
إذا أمعنتم النظر وأعملتم الفكر فسترون أن هذا البطل يفضّل استخدام لغة محايدة بعيداً عن العاطفية، فيؤكد ضرورة تفكير الناس في احتمالية نزول بعضٍ من المصائب التي يعد بها موسى لهم ويحذرهم منها. يخاطبهم قائلاً: “تتهمون إنساناً بالكذب وأنتم تعلمون صدقه. فلا يمكن أن يجتمع هذان الوصفان المضادان في شخص واحد، نظراً لاستحالة جمع الضدين. لو كان موسى كاذباً، لما أيّده الله عزّ وجلّ بالآيات والبراهين. وإن يكُ كاذباً حقاً فلا موقع ولا مكانة له في المجتمع بلا شكّ. فلا داعي لخوفكم. وإن يكُ صادقاً فأنتم كذابون سفّاكون للدماء، ولن يوفقكم الله في تحقيق أهدافكم المشؤومة، بل ستعود كل مخططاتكم وبالاً وبلاءً عليكم”. ثم يدعو قومه إلى الخير وإن اتفقوا على الشرّ قائلاً: “يا قَوْمِ!”.
والآن أعود وأسائلكم مرة أخرى:
أليس بينكم رجلٌ مؤمنٌ مثل مؤمن آل فرعون ليقول هذه الجملة القرآنية من جديد:
يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِين َفِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا؟