إسطنبول (الزمان التركية) – مَنْ قام بمحاولة الانقلاب في تركيا؟ ولصالح مَنْ؟ ولماذا؟.. هذه بعض الأسئلة التي وجهتها وسائل الإعلام العالمية إلى الأستاذ فتح الله كولن في السابع عشر من شهر يوليو/ تموز الجاري عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، التي سارع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وكبار المسؤولين في الحكومة التركية إلى اتهامه بالوقوف وراءها.
ونواصل هنا نشر الحوارات واللقاءات التي أجريت مع كولن والتصريحات التي أدلى بها حول هذه المحاولة الفاشلة واتهامه بالضلوع فيها:
السؤال من مراسل
وقعت انقلاباتٌ شتّى في تركيا؛ منها انقلابات تقليدية ومنها انقلابات ناعمة مثل انقلاب “ما بعد الحداثة” في الثامن والعشرين من شباط/فبراير (1997م)، فماذا كان موقفكم وردُّ فعلِكم من هذه الانقلابات؟
ثانيًا: قُتل العديد من الأبرياء في محاولة الانقلاب الأخيرة، ورغم أنكم كنتم تعلنون عن موقفكم الرافض من العنف الذي تمارسه الجماعات الإرهابية مثل منظمة داعش فإننا نراهم الآن يُقحمون اسمكم دون وجه حقٍّ بين أسماء المتورطين في هذه المحاولة، فهل كان لهذا الأمر أثرٌ في زيادة مشاعر الاستياء والحزن لديكم؟
الجواب:
عايشتُ كثيرًا من الانقلابات في تركيا، أما بداية عهد الجمهورية فلم أعاصره، إلا أن الضغوط التي كانت تمارسها الإدارة التركية آنذاك كانت تهدف إلى ترسيخ واستمراريّة عملية الاستقلال.
وعندما وقع انقلاب السابع والعشرين من مايو عام (1960م) كنت أبلغ من العمر ما بين عشرين إلى اثنين وعشرين عامًا، وعانيتُ حينها في “أدرنه” نوعًا من الضغوط والتضييق عليّ، ومن المحتمل أنني قد أخذت منذ ذلك الوقت أتعوّد شيئًا فشيئًا على مثل هذا التضييق والضغوط. وفي انقلاب الثاني عشر من مارس (1971م) زجّوا بي في السجن، فلبثت في غياهب السجون العسكريّة ما بين ستة إلى سبعة أشهر، فشدّ هذا من عزيمتي، وعوّدني على الأشدّ منه، ولما حدث انقلاب الثاني عشر من سبتمبر/أيلول (1980م) تجولتُ لمدة ست سنوات في كل أنحاء تركيا ولم يستقر بي مقام، حتى جاء عهد “طورغوت أوزال” ورئاستِه للوزراء، فقبضوا عليّ، إلا أن “طورغوت أوزال” تدخّل في الأمر بكل قوته، وأرسل لي وزراءه، وبعد ذلك أغلق ملفّ القضية، ونجوت هذه المرة أيضًا، ولا داعي لأن أسرد عليكم أسباب اعتقالي ومقاضاتي، فقد كانت أسبابًا تافهة، مثل: نشر الدين، وتحديث الناس عنه، ومحاولة جعل الشباب متدينين، والحديث عن تجليات اسم الله القدوس، وما يحمله هذا الاسم من النزاهة والطهر والتقديس… إلخ.
أجل، لقد رفعتْ هذه الانقلابات من درجة مقاومتي، إلا أن الانقلاب الأخير كان أشدَّها، وأكثرها تجاوزًا ووقاحة؛ حيث إنني لم أشهد عُشْرَ هذه الإساءة والوقاحة وقلة الحياء حتى عندما قبض عليّ العسكر قديمًا.. وأعتقد أنني ما تعرَّضتُ مع أصدقائي من قبلُ لمثل هذه الصفاقة وقلة الحياء، وإنما كانوا يُعاملون معاملة إنسانية، بل إن العسكر كانوا ينظرون إلى وجوهنا أحيانًا ويقولون: “هل يمكن لهذه الوجوه أن تأتي بفعلٍ قبيح؟”.
ولكن كما رأيتم منذ بضع سنوات عمومًا، وفي السنتين الأخيرتين خصوصًا، وبعد هذه الحادثة أخذوا يعاملونني معاملة السفاحين من أمثال “ماكسميليان روبسبيار”.
كانوا يتفنّنون في التضييق علينا وإثارة الأزمات حولنا وافتعال المشاكل معنا اعتمادًا على مبدإ الاتهام الظنّي، مثل قولهم: لِمَ تنظر إلينا شزرًا هكذا؟ إن نبرة صوتكم تثير اشمئزازًا وحساسيةً لدينا… إلخ. ولكن كل هذه الانقلابات كانت ولله الحمد تأهيلًا من الله تعالى لنا، ولذا استطعنا أن نتحمل ونصبر.. هذا جانبٌ من المسألة.
أما الجانب الآخر فهو أننا إذا ما نظرنا إلى ما لحقَ بالرسل السابقين من أذًى وإيذاء من قِبَلِ قومهم سنجدُ أنهم وأتباعَهم قد تعرّضوا للإساءة نفسها من قبل المستبدّين في عصرهم.
إن إنجاز أيّ شيءٍ في شرق العالم وغربه من أجل خدمة الإنسانية وتوجيهها إلى السعادة الأبدية لَيُسبب إزعاجًا وقلقًا لدى هؤلاء المستبدين إن كان لا يتفق مع أفكارهم ورُؤاهم.
حيث إن جنون القوة والعظمة، وانعقادَ الآمال على الحياة المستقبلية، والحياة المرفهة، واختلال التوازن الناجم عن الانتقال من العشوائيات إلى القصور الفاخرة؛ كل هذا من شأنه أن يشكّل آثارًا سلبية لدى هؤلاء المستبدين.
من أجل ذلك ارتفعت حدّة التضييق اليوم وزادت جرعتها، ولكن الحمد لله الذي عوّدنا من خلال ما مضى على تحمّل مثل هذا التضييق والأذى، والصبر على ما نحن فيه الآن.
ليس من الصحيح أن أقول إنني لا أشعر بأي شيء، لكنني أقول بلسان أحد الشعراء:
أنا لا أملُّ من الجفاء فهو نور عيني
لكن على كل حال فالروح تحزن من الجفاء
بمعنى أننا بشر، خُلقنا من لحم وعظم، لدينا مشاعر وأحاسيس، وكرامة إنسانية وإسلامية، فلا يمكن لأحد أن يقول إنه لا يتأذّى إذا ما جُرحت كرامته.
وأصدقائي المقرّبون مني يعرفون قدر حزني وأسفي من مثل هذه الأمور؛ إنهم يعرفون كيف أظلّ نصف ساعة أبكي أمام موت نحلة، وكيف تكون سعادتي عند إنقاذي لنملة، ودفعها إلى ساحة الحياة مرة أخرى، وكيف يكون شعوري وكأنني أنقذت إنسانًا من الموت إذا ما ألقيتُ بفراشة إلى الخارج وشاهدتها وهي تطير في الآفاق بعد أن كانت تتخبط وتتلوى!
هذا حدّ شفقتي أمام أدنى المخلوقات، فكيف بقتل الناس، وتخريب الديار، وجرح الكرامة الإنسانية، لا يمكنكم أن تتصوروا مدى تأثُّري وحزني العميق أمام هذه الـمَشَاهد المؤلمة!
قديمًا كنت أشاهد التلفاز فتعرفت على بعض الجنرالات الذين اعتقلتهم قبل عدّة أعوام هذه الإدارةُ المستبدّة؛ الإدارة التركية الحالية ذاتها.. وذلك مثل “طومان باشا”، لم ألتق به، ولكن تعرّفت به من خلال أحد الأصدقاء، كان قائدًا عامًّا لشرطة الدرك، وكان يعمل من قبل مديرًا عامًّا للمدارس الحربية، لمّا شاهدته مقبوضًا عليه وهو في هذا السنّ والمقام لم أتمالك عبراتي.
والأصدقاء هنا يعرفون قدر تأثري وحزني لما ألقي القبض أيضًا من قبل على “إلكر باشبوغ” رئيس الأركان السابق، فهذا الرجل مهما كان فكره الذي نختلف معه فيه لا تليق به مثل هذه المعاملة.. هذا ما أشعر به إزاء الناس.
أما مشاهدة قتل الأبرياء من خلال التلفاز فقد كان أمرًا فوق طاقتي، كيف أقدر على تحمُّل مشاهدة قتل هؤلاء الأبرياء، وتخريب بيوتهم، وتشريدهم!
لا تتجاوز مشاهدتي للتلفاز أكثر من خمس إلى عشرة دقائق، وبعدها كنت أستسمح الأصدقاء في غلق التلفاز لعدم قدرتي على مشاهدة المزيد.
بناءً على ذلك يمكنكم أن تدركوا إلى أي مدى بلغت الحساسيةُ مني ذروتها من جراء هذه الأحداث.
إنني لا أفكر في شخصي وحالي، ولو كنت أفكر هكذا لَمضيتُ إلى غرفتي مستغفرًا الله تعالى ومتوجهًا إليه قائلًا: ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، إلا أن سحقَ وإبادةَ من أعرفهم أو من تربطهم بنا علاقة يُؤثِّر في أعماق قلبي وكأنني أنا من يُفعل بي ذلك.
إن الكلمات الجارحة التي يُخاطب بها هؤلاء، والمعاملة السيئة التي يلاقونها تشبه الحربة التي انغرزت في أحشائي؛ ولكن
أستسلم لقضاء الله وقدره في السرّ والعلانيّة
ولا أخضع للمنحطين من أجل دنيا دنيّة.
هذا ما أعلنتُه من قبل وأعلنه الآن مرة أخرى.
لن نفزع ولن نتخلى عن قضيتنا، وأوصي جميع أصدقائنا بألا يفزعوا أو يتضجروا.. وليكن الله في عوننا جميعًا.
كولن يرد على الاتهامات: أرحب بالتحقيق الدولي (1)
كولن يرد على الاتهامات: من دبروا الانقلاب هم المستفيدون منه (2)
كولن يرد على الاتهامات: لا أخشى إلا الله (3)
كولن: لا أتصور تخلي محبي الخدمة عن عطائهم للإنسانية (4)
كولن يرد على الاتهامات: لم أفكر في اللجوء لأمريكا (5)
كولن يرد على الاتهامات: أردوغان يريد البقاء رئيسا للأبد (6)
كولن ردا على الاتهامات: وقاحة الانقلابيين معي لم تبلغ ما تعرضت له بعد محاولة الانقلاب الفاشلة (7)