بقلم إدريس الكنبوري
تركيا توجد في ملتقى طرق بين الاختيار الديمقراطي الذي يفسح المجال أمام المعارضة لتمارس دورها، وبين التوجه الاستبدادي إذ أراد أردوغان استثمار ما حصل للانتقام من خصومه.
ما حدث في تركيا يوم 15 يوليو وأوقف أنفاس العالم وحوّل الأنظار من مدينة نيس الفرنسية إلى إسطنبول وأنقرة التركيتين، يعتبر أقصر محاولة انقلابية عسكرية في تاريخ البلاد، في أسرع عملية لإفشالها. فبعد أزيد من عقدين على آخر انقلاب شهدته البلاد، ودخول تركيا مناخ الديمقراطية مع المحاولات المتكررة لحسم الاختيار ما بين نزعات الهيمنة الناتجة عن الثقافة السياسية التي كرستها الانقلابات السابقة منذ عام 1960، وبين التطلع إلى بناء ديمقراطية فعلية تسمح بالاعتراف المتبادل بين الشركاء، تأتي المحاولة الانقلابية الأخيرة في ظروف شديدة التعقيد وتطرح التساؤلات حول التوقيت والإخراج والتنفيذ؟
المفارقة أن هذه المحاولة الانقلابية الأخيرة هي أكثر عمليات الانقلاب التي حصلت في تاريخ تركيا الحديث ارتباكا، ذلك أن الأمر كان يتعلق بانقلابين اثنين وليس بانقلاب واحد، فهو من ناحية كان انقلابا من داخل المؤسسة العسكرية، حيث عمد منفذو المحاولة إلى اعتقال رئيس هيئة الأركان العامة وعدد من الجنرالات، ومن ناحية ثانية كان انقلابا على الحكومة المدنية. وإذا سلمنا بأن الأمر كان يتعلق بمحاولة انقلاب عسكرية خالية من أي طابع سياسي، يكون الانقلابيون قد ارتكبوا خطأ قاتلا بمحاولة ضرب هدفين في وقت واحد، وتكون هذه المحاولة أكثر المحاولات الانقلابية غباء في تاريخ الانقلابات العسكرية؛ إذ من الطبيعي أن يحصل تقارب ما بين القيادة العسكرية والقيادة السياسية فتكون الخسارة مزدوجة بالنسبة إلى الانقلابيين، وهذا ما حصل في تركيا.
عاشت تركيا خلال الفترات الماضية أجواء متوترة على الصعيدين الداخلي والخارجي، على خلفية ما يجري سياسيا وعسكريا في سوريا. وقد بدا أن حزب العدالة والتنمية سعى إلى استثمار كل التطورات الإقليمية من أجل التمكين لنفسه بشكل أكبر، في أفق إزاحة خصومه والمعارضين من مختلف الأطياف، حتى بدا واضحا أن النظام الحاكم وظف الشرعية الانتخابية من أجل تقنين نوع من الاستبداد الديمقراطي المغلّف بالقانون والإجماع. وخلال الأسبوع الماضي أحدث رجب طيب أردوغان تحولا شبه جذري في السياسة الخارجية لتركيا، مدفوعا بالتحولات الحاصلة في المسرح السوري، حيث مد يده إلى موسكو وإسرائيل، وبدأ يغير موقفه إزاء تنحية بشار الأسد، وكان من المقدر لهذا التحول أن ينعكس سلبا على الوضع السياسي الداخلي بحيث يضع العدالة والتنمية في موقع المساءلة. ولأجل ذلك، فإن المحاولة الانقلابية الأخيرة قد تشكل نافذة للخروج من الأزمات بالنسبة إلى أردوغان وحزبه، فالأمر لم يكن إفشالا لمحاولة انقلابية فحسب، بقدر ما كان تجديدا للمشروعية السياسية وتغطية على الأخطاء السياسية.
الرغبة في استثمار المحاولة الانقلابية بدت واضحة منذ الساعات الأولى. فبعد أن ظهر أردوغان أمام مؤيديه هادئا وهو يلقي كلمة لا يميّزها عن الكلمات التي يلقيها في التجمعات الانتخابية إلا التوقيت، كانت أول الإجراءات هي اعتقال ما يربو على ثلاثة آلاف عسكري وجنرال من مؤسسة الجيش، وهو رقم كبير إذا قورن بالخطاب الرسمي الذي تحدث عن “طغمة” صغيرة معزولة كانت تخطط للانقلاب، ويشير إلى أن هناك نية في تصفية المؤسسة العسكرية من الخصوم الذين يوجدون على رأس لائحة المطلوبين لحزب العدالة والتنمية. وفي تقاليد العلاقة بين السلطة السياسية والمؤسسة العسكرية في أي بلد، فإن الوسيلة الوحيدة لكي تتدخل الأولى في شؤون الثانية، هي صنع محاولة انقلاب ثم التداعي إلى خطاب الشرعية.
سارع أردوغان ورئيس الوزراء التركي إلى مطالبة الولايات المتحدة بتسليم زعيم حركة الخدمة الذي يعيش في بنسلفانيا، فتح الله غولن، بالرغم من أن التحقيقات لم تباشر بعد، ودلت هذه السرعة في الإدانة على أن أردوغان يسعى إلى توظيف المحاولة الفاشلة للزجّ بغريمه الرئيسي في الأزمة. لكن المثير أن طلب تسليم غولن تم تبريره بـ”الصداقة” التي تجمع واشنطن بأنقرة، وهو تبرير يبدو غير منطقي في العلاقات الدبلوماسية ويتعارض مع خطاب الديمقراطية ودولة القانون، لأنه كان منتظرا أن تقدم أنقرة أدلة تفيد بتورط غولن في العملية، والاتكاء على مبرر الصداقة دليل على فشل النظام الحاكم بتركيا في تدبير مرحلة ما بعد المحاولة الانقلابية.
مخاطر كبيرة تحيط بمستقبل تركيا بعد ما حصل يوم 15 يوليو، فالبلاد توجد في ملتقى طرق بين الاختيار الديمقراطي الذي يفسح المجال أمام المعارضة لتمارس دورها، وبين التوجه الاستبدادي إذ أراد أردوغان استثمار ما حصل للانتقام من خصومه وفي هذه الحالة سيكون الانقلاب العسكري فشل لكن سينجح الانقلاب السياسي.
موقع العرب