بقلم: مصطفى عبدالله الونيسي
أجرى الشّعب البريطاني استفتاء للبقاء ضمن الاتحاد الاوروبي أو الانفصال عنه. يوم الجمعة 25 جوان 2016
في الصّباح الباكر استيقظ البريطانيون على زلزال (الخروج من الاتحاد الأوروبي ” البريكسيت”) و هو يوم لن يُمحى بسهولة من ذاكرة الشّعب البريطاني. حدث تاريخي لأوّل مرّة يعرفه الاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه . فالاتحاد يخسر واحدا من أهمّ أعضائه، كقوة اقتصادية و سياسية، و يمر من 28 عضوا إلى 27 عضوا. فما أنواع آثار هذا الزلزال على المملكة المتحدة أوّلا، و على الاتحاد الأوروبي ثانيا ؟
الشّعب البريطاني شعب عريق في الدّيمقراطية، و عرف دائما كيف يستفيد من خلافاته السّياسية دون المساس بمصالح بلده الأساسيّة. وبالعودة إلى التّاريخ، إلى سنة 1973 بالضبط لم يكن دخول المملكة المتحدة إلى تكتل الاتحاد الأوروبي إلاّ لجني المنافع الكثيرة التي كان يمثلها السّوق الاقتصادي الواسع والواعد لأوروبا ما بعد الحربين العالميتين.
وبعد 43 سنة من دخول المملكة المتحدة هذا التّكتل الاقتصادي الكوني يتجه البريطانيون نحو الخروج من الاتحاد بـ 51,9 من الأصوات، فمثّل هذا الحدث يُعدّ زلزالا مُدويّا و صدمة لم يكن يتوقعها حتّى أولئك” الأوروفوبيون ” المستمسكون بالسّيادة الوطنية والحالمون بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي الذي يرون فيه السبب الرّئيسي لمآسيهم الاجتماعية والسّيادية.
فالأسواق المالية إلى آخر لحظة من الاستفتاء لم تكن تصدق بالحقيقة المخيفة “للبريكسيت” فانهارت العملة في البورصات المالية، وخاصة في لندن وباريس وفرانكفورت ونيويورك، فالحدث كان كونيا تجاوزت آثاره حدود المملكة المتحدة . والتّوتر السياسي أثناء الحملة الانتخابية للاستفتاء بين أنصار البقاء ضمن الاتحاد والخروج منه كان على أشدّه إلى درجة أنه انتهى بدراما اغتيال النّائبة من حزب العمّال “جوـ كوس”.
اختلطت الأوراق سياسيا، فأحزاب تسقط، وأخرى تصعد ولكنها لا تعرف ماذا تصنع بنجاحها.
الجميع يعترف بصعوبة الوضع العام . فرئيس الوزراء “دافيد كامرون” قرر تقديم استقالته من مهامه التي تدخل حيز التنفيذ بعد انتهاء هذه الفترة الانتقالية حوالي شهر سبتمبر 2016. كما أنّ زعيم المحافظين ” بوريس جونسون” عميد مدينة ” لندن ” سابقا، الّذي دفع إلى تنظيم مثل هذا الاستفتاء وجد نفسه في وضع سياسي جدّ حرج قد لا يستطيع تحمل نتائجه في المستقبل، ومبادرته عند البداية لمثل هذا الاستفتاء لم تكن في الحقيقة إلا للضّغط على عاصمة الاتحاد الأوروبي “بروكسال” وابتزازها الدّائم من ناحية، و المزايدة على حزب “متشائمو أوروبا” “السّين فايين “المعروف بـ “إيكيب” بزعامة “كاري أدامس” الّذي استعمل بكثافة شعارات شيطنة الاتحاد الأوروبي.
لم تعرف بريطانيا انقساما لشعبها مثلما عرفته في هذا الاستفتاء. نجد من ناحية سكان لندن واسكتلندا و إيرلندا الشّمالية يصوتون بكثافة للبقاء في الاتحاد الاوروبي، ومن ناحية ثانية نجد شكان شمال انكلترا وبلاد “الغال” يصوتون بكثافة للخروج من الاتحاد.
فالمستمسكون بالسيادة الوطنية والمحافظون وخاصة من كبار السّن الّذين يتمنون الثأر من أوروبا ويحنون إلى الرّجوع ببريطانيا إلى ما قبل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي نجدهم في جهة، و التقدميون وخاصة منهم الشباب وأنصار الاندماج الأوروبي نجدهم في ناحية ثانية.
ويمكن تقسيم المصوتين سوسيولوجيا إلى قسمين: أنصار الاستقلال عن الاتحاد، وهم
– سكان الأرياف 55 100 /ــ
– المسنّون 57 / 100 ــ
– البطّالة 58 /100
– الّذي لا شهائد لهم 64 100/
– أنصار البقاء ضمن الاتحاد، وهم :
– سكّان المدن 57/ 100
– أصحاب الشهائد العليا 71 / 100
– الشباب 58 / 100
-الاسكتلنديون ( سكان اسكتلندا ) 62 100 /
بعض ردود الأفعال، و الآثار السّلبية “للبريكسيت” على الاتحاد الأوروبي
ونتيجة لهذا الاستفتاء تضاعفت المبادارات على”النت ” ومختلف شبكات التواصل الاجتماعي المطالبة بإعادة الاستفتاء، و لكن بريطانيا بلد عريق في الدّيمقراطية، والسيادة فيه للشّعب، فقد قُضِي الأمر الّذي فيه يستفتي الفريقان، وانتهى فـ”البريطانيون قد أخذوا قرارا واضحا”، هكذا علّق رئيس الوزراء على الحدث. أمّا الرئيس الفرنسي فقد قال: “هذا الاستفتاء يضع أوروبا أمام امتحان عسير، ولا يمكنها أن تستمر كما كانت قبل الاستفتاء” . أمّا فاليري جيسكار داستان فقد علّق على الحدث على قناة فرنسا واحد ( ت . ف . 1 ) بقوله: “لقد صنعنا نظاما ليس في مقدوره أن يشتغل ولن يشتغل، و أوروبا 28 كان بناءها مُرتجلا “. فالمطروح على أوروبا 27 الآن ، حسب زعمائها السياسيين، هو إحياء الحلم الأوروبي وإبعاد شبح العَدْوى، وإمكانية أثر حجر لعبة “الدومينو” عن اتحادهم، فالخوف كلّ الخوف إن استمرت الأمور على ما هي عليه أن تستيقظ الشّعوب الأوروبية غدا على ” فريسيت ” أو إيطيليسيت” كما استقيقظت ذات يوم على زلزال “بريكسيت”.
فخصوم أوروبا من أحزاب اليمين الوطني المتطرف لا يحلمون إلا بانتهاء الاتحاد الأوروبي ووضع حدّ لحكومته المركزية في”بروكسيل”، وقد علّق زعيم الحزب اليميني الايرلندي المتطرف ” كيرت ويلدرز ” الذي يعمل من أجل خروج إيرلندا من الاتحاد :”أعتقد أنها نهاية الاتحاد الأوروبي، وأنّ الرّجوع إلى الوراء مستحيل. أمّا زعيم اليسار الرّاديكالي الفرنسي ” جبهة اليسار ” ” جون ليك ميلونشون ” فقد صرّح :”إن الاتحاد الأوروبي، إمّا أنْ نُغَيِّرَهُ أو نُغَادِرَهُ”. و كذلك زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي “الجبهة الوطنية” “ماري لوبان” التي ما فتئت تنادي باستفتاء شعبي منذ 2013 حول الخروج من الاتحاد الأوروبي فقد وجدت مادّة مهمة في هذا الاستفتاء لخوض حملتها الانتخابية في رئاسيات 2017
آثار” البريكسيت “على المملكة المتحدة
ولئن كان لزلزال البريكسيت صدى كوني، فإن أثره المباشر و السريع على الوضع العام، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، سيكون بليغا وعميقا وواضحا، ففي المستوى الاقتصادي: كلّ المؤسسات البريطانية والدّولية حذرت من مغبة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي الّذي سوف يؤدي بالضرورة إلى انهيار ” الإسترليني ” و ارتفاع الأسعار وانخفاض المقدرة الشرائية للمواطن وتقهقر مستوى الدخل الفردي بنقطتين إلى أربع نقاط وارتفاع منسوب البطالة . كما أنّ نقص الدّخل للعائلات، حسب بعض الخبراء في الاقتصاد، قد يصل إلى حدود 3500 أورو في العام على امتداد خمسة عشر سنة . كما أثر الزلزال على سوق الصّرف كان عنيفا إلى درجة أن المملكة عرفت تأخرا كقوة اقتصادية من المرتبة الخامسة إلى المرتبة السّادسة بحسب بعض الملاحظين في الشؤون المالية والاقتصادية.
أما على المستوى السّياسي: ستعرف المملكة تقلبات وأزمات سياسية متتالية . فرئيس الحكومة (دافيد كاميرون) وضع حدّا لمهامه مباشرة بعد ظهور نتائج الاستفتاء بإعلانه استقالته التي ستدخل حيز التنفيذ نهاية المرحلة الانتقالية في شهر سبتمبر 2016، ليفسح المجال لخلفه المحافظ ليعالج المشاكل العويصة والأشواك الكثيرة المترتبة عن هذا الطّلاق من الاتحاد الأوروبي
أما على صعيد الوحدة الوطنية : فمن الآثار السّلبية لـ” البريكسيت ” المباشرة على الوحدة الوطنية للمملكة المتحدة توجه ” إسكتلندا ” ، التّي صوتت مساء الخميس 24/6/ 2016 بكثافة للبقاء ضمن الاتحاد الأوروبي، نحو استفتاء ثان ولكن هذه المرة للانفصال عن المملكة والالتحاق بالاتحاد الأوروبي من جديد، فقد صرحت الوزيرة الأولى للحكومة المحلية لـ “اسكتلندا” السّيدة ” نيكولا ستارجون ” ” إن إسكتلندا ترى مستقبلها ضمن الاتحاد الأوروبي” . كذلك الشأن بالنسبة لـ ” إيرلندا الشّمالية “فقد صوتت لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، و هو ما أوحى لتيار “السين فايين” اليميني الانفصالي بفكرة أجراء استفتاء لتوحيد “إيرلندا” و “إيرلندا الشمالية” ، و هو ما قد يعني على المدى البعيد والمتوسط انتهاء المملكة المتحدة في شكلها وحجمها الحاليين . ولكن تلك هي سيادة الشّعب و إرادته الّتي ينبغي على الأنظمة أن تستمع لها و تخضع
. مـــاسي / بـاريس 26/6/2016 أ . مصطفى عبدالله الونيسي