بقلم : ياوز أجار
إسطنبول (زمان التركية) – حاولت في مقالي السابق الذي حمل عنوان “تركيا.. من فاعل إلى أداة في الداخل والخارج” تلخيض العوامل التي حوّلت تركيا من “فاعل” إلى “أداة” في عبارات موجزة وكأنها “ملف مضغوط”، وكنت اختتمت بالقول “وللحديث بقية!”. لذلك سأسعى في هذا المقال لفتح هذا الملفّ المضغوط قدر الإمكان..
غياب “الأفق المستقبلي” أو “فقه التنزيل”
لن نجافي الحقيقة إذا قلنا إن حادثة “مافي مرمرة”، التي بدأ الرأي العام في تركيا والعالم يركّز عليها مجدداً عقب التقارب التركي – الإسرائلي الأخير، كانت بمثابة “نزع الفتيل” لعملية “محاصرة تركيا وإعادة تصميمها”، أو بعبارة أخرى “تحويل تركيا من فاعل إلى إداة”، عبر تفعيل نظرية “الفوضى الخلاقة”.
ولاشكّ في أن التوقع بمسار الأحداث في المستقبل، قبل أن تولد وهي أجنّة في بطن الزمن، يتطلب نظرة ثاقبة شاملة لـ”السنن الإلهية” التي تنظّم ازدهار الأقوام والأمم أو انهيارها، انتصارها أو هزيمتها، وقراءةً كلية لـ”العاقبة” الإيجابية أو السلبية التي تعرّضت لها طيلة التاريخ. ولذلك يرى الإسلام أن لمآلات الأفعال اعتباراً مهماً في استنباط الأحكام وتنزيلها على واقع الحياة؛ لما ينبني عليه من سد للذرائع والأضرار وتحقيق للمقاصد والمصالح.
عودة تركيا إلى المربع الأول: الناتو وإسرائيل
وإذا طبّقنا هذا المبدأ على نموذج حادثة مافي مرمرة، نجد أن تركيا في ظلّ حكم حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان لم تدرس ولم تتوقع النتائج المحتملة التي ستتمخض عنها حادثة مافي مرمرة، التي كان “الهدف المعلن” لها هو رفع الحصار المفروض على قطاع غزة، وإنما تطوّرت الأحداث على عكس المرغوب فيه والمخطّط له تماماً. إذ هذه الحملة وكل الحملات اللاحقة لم تؤدِّ إلا إلى فتح الطريق أمام كل من إسرائيل وإيران اللتين تظهران العداوة في العلن وتتعاونان في الخفاء، ومنْعِ تركيا من استكمال عملية الانفتاح على المنطقة والعالم بأجنحة الاقتصاد وحسن الجوار.
ونرى اليوم أن تركيا قد عادت إلى المربع الأول وحاضنتها الأصلية كدولة أطلسية، بعد تجارب عديدة، فيها قدر من المغامرة والابتعاد عن دقة الحسابات، وباتت مضطرة لإقامة علاقات مع إسرائيل وتفعيلِ اللغة الدبلوماسية معها، بعد أن رفضت استخدامها قبل 5 سنوات. بل إن المشجّعين لأردوغان، وكأنهم مشجّعون لفريق كرة قدم، كانوا يعتبرون كل صوت معارض أو مختلف معهم في هذا المضمار “عداوة لفلسطين” و”موالاة لإسرائيل”، ويتهمون كل الشخصيات البارزة التي انتقدت “الطريقة” المتبعة في كسر حصار غزة بـ”الخيانة لكل من تركيا وفلسطين”، في مقدمتها الأستاذ فتح الله كولن. مع أن ما اعترض عليه كولن وأمثاله لم يكن منصبّاً على التعاون مع فلسطين وبذل الجهود لمساعدة غزة، بل كانوا يؤكّدون على ضرورة إيصال المساعدات الإنسانية إليها، بصورة أو أخرى، مع تجنّب اللجوء إلى أسلوب لا يعتدّ ولا يبالي بسلطة الاحتلال الإسرائيلي، ويريدون حلّ القضية عبر الوسائل والقنوات الدبلوماسية دون خوض غمار الصراع والحرب، إلا أنهم عمدوا إلى تقديم هذه التحذيرات والمخاوف وتصويرها للرأي العام وكأنها دعوة إلى الاعتراف بالسلطة الإسرائيلية!
أين فضيلة العودة عن الخطأ وتقديم الاعتذار؟!
ألا يجب عليهم أن يخجلوا ويقدموا اعتذاراً للأستاذ كولن بعد أن رأوا ما رآه هو قبل خمس سنوات! إنهم لا يخجلون أبداً، بل بدأت الآلة الإعلامية الموظفة لتبرير أفعال أردوغان مهما كانت تبحث عن حيل شرعية (!) لتخفيف وطأة التعاون مجدداً مع إسرائيل والتخلّي عن قطاع غزة على الشعب التركي والعربي والإسلامي. حيث بدؤوا يقولون إن “تركيا المتصالحة مع إسرائيل” أنفع للقضية الفلسطينية وخير من “تركيا المتصارعة معها”! وإذا ما سافر أردوغان إلى غزة بعد الحصول على إذن من “السلطة الإسرائيلية” للاستعراض والحديث للعرب عن المشاريع التي نفذها فيها فإن الشرعية ستكتمل!
ما العبرة الكامنة في تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل؟!
والعبرة التي يجب أن نستخلصها من العودة إلى الصداقة مع إسرائيل بعد العداوة “الظاهرة” معها هي الاعتقاد الجازم بأن القضايا الإسلامية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ليست إلا “أداة” في أيدي السياسيين، يركبون عليها ليحققوا مكاسب سياسية ويحصلوا على دعم الجماهير التي تنخدع بالمظاهر والأقوال المزخرفة بسهولة. كما ينبغي بعد ذلك التريث والتأكد من مصداقية هؤلاء السياسيين عندما يطلقون الأوصاف جزافاً، من قبيل “إن فلاناً أو مجموعة فلانية عميل وخائن للقضية الفلسطينية وموالٍ لإسرائيل!”؛ لأنهم يطلقون هذه الأوصاف على كلِّ من يختلفون معهم أو يعترضون على آرائهم ليس لأسباب موضوعية، وإنما بسبب المواقف السياسية فقط… وعندما تتغير المواقف والظروف فسرعان ما تتبخر مبادئهم ويتغيرون كلياً! فهم يدورون حيث تدور مصالحهم! ولا غرو في ذلك في ظروف الساسية الراهنة! بل الغرابة تكمن في المشجعين الذين يظنّون الأحزاب جماعاتٍ، وزعماءها قادةً إسلاميين! بل يرون حزبهم نوعاً من الدين، وزعيمه واحداً من الرسل – حاشا وكلا -. لقد رأينا هذا الإفراط في تصريحات بعض مسؤولي حزب العدالة والتنمية الخاصة بأردوغان.. حيث وصفوه بـ”النبي الثاني”، وقالوا بأن “لمسه عبادة”، بل زعم النائب البرلماني عن حزب العدالة والتنمية الحاكم فوائي أرسلان أن “أردوغان زعيم قد جمع في ذاته كل الصفات الإلهية!” – ألف مرة حاشا -.
ولذك يمكن أن نقول بأن أكبر مكسب في تطبيع العلاقات بين إسرائيل وتركيا هو أن أردوغان وأنصاره لن يجرؤوا بعد اليوم على اتهام كل معارضيه بموالاة إسرئيل ومعاداة فلسطين!
ضرورة شرعية كلٍّ من الهدف والوسيلة الموصلة إليه
لتقييم أي فعل أو الحكم عليه لا بد من النظر أولاً إلى الهدف المرجوّ منه، ومن ثم إلى الأداة المستخدمة في الوصول إليه. فكما ينبغي أن يكون الهدف شرعياً، كذلك لا بد أن تكون الأداة المستخدمة في تحقيقه شرعية أيضاً، لكي يتأتى الحصول على النتائج المرجوة. إذاً يجب علينا أن نسلّط الضوء على “هدف” مافي مرمرة و”أداة” تحقيقه و”النتائج” التي تمخّض عنها لكي نتمكن من الحكم عليها بالصحة أو البطلان.
مافي مرمرة سفينة حربية أم سفينة مساعدات؟!
ينبغي قبل كل شيء أن نتفق حول نوع سفينة مافي مرمرة. أهي سفينة حربية أم سفينة مساعدات؟ إن كانت سفينة مساعدات فلماذا أثيرت هذه الضجة وأطلقت نداءات الحرب في كل مكان؟! وإن كانت سفينة حربية فما هي بسفينة حربية لخلوّها من أي معدات عسكرية! مع ذلك فهي لم تنطلق إلى غزة كسفينة مساعدات، بل انطلقت وكأنها سفينة حربية! فإذا كان الهدف إعلان الحرب على إسرائيل أَمَا كان يجب الاستعداد لها كما ينبغي امتثالاً للأمر الإلهي (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ…).
لماذا رفضت الحكومة اقتراح الجيش بإرسال سفينة حربية لحماية مافي مرمرة؟
بل قال الأدميرال في القوات البحرية التركية “نصرت جونار” الذي استقال من منصبه إنه أعلن للحكومة أنهم مستعدون لإرسال سفينة حربية لمراقبة سفينة مافي مرمرة وحمايتها من أي اعتداء إسرائيلي محتمل، لكن المسؤولين قالوا “لا نرسل سفينة، لكن لنقل لوسائل الإعلام إننا أرسلنا”. إلا أن الأدميرال اعترض على هذه الفكرة بشدة قائلاً: “إرسال سفننا الحربية لحماية مافي مرمرة مع القول لوسائل الإعلام بأننا لم نرسلها، أقلّ خطورةً من عدم إرسالها أصلاً والإعلان أننا أرسلناها!”.
لماذا استبدل العلم التركي الذي كان يرفرف على مافي مرمرة بعلم “جزر القمر”؟!
فضلاً عن أنه رُفِعَ علم جزر القمر على سفينة مافي مرمرة بدلاً من العلم التركي، مع أنه كان يرفرف عليها قبل مغادرتها المياه التركية وفي أثناء اتجاهها نحو شواطئ غزة. في الواقع لو لم يُستبدَل العلم التركي بعَلَم جزر القمر لما تَعرَّضت السفينة لهذا الاعتداء الغاشم، أو على أقل تقدير كان موقف تركيا سيصبح أقوى على الصعيد الدولي. إذ كان يمكن اعتبار الاعتداء على سفينةٍ تحمل العلم التركي في المياه الإقليمية اعتداءً على أراضي تركيا “العضو” في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومن ثَمَّ كان بالإمكان الردّ بالمثل على الدولة المعتدية من خلال الناتو. إذًا لماذا أُزيلَ العلَم التركي من السفينة واستُبدِل به عَلَم جزر القمر؟ ألا يعني هذا أننا نزعنا بأيدينا حقَّ ردِّ الناتو على إسرائيل؟ ولو لم تكن إسرائيل قد أعلنت عن موقفها مسبقاً، وكذلك لو كانت هي دولةً لا يمكن التوقع كيف تتصرّف في مثل هذه الظروف، فالأمر عندئذٍ كان سيختلف. ولكن في ظل الموقف الصارم لإسرائيل، فإن تنظيم حملة من هذا القبيل لم يكن يستهدف سوى تدمير العلاقات بين البلدين والقضاء على ما بنته “تركيا الصاعدة” في المنطقة.
لماذا تراجع برلمانيون في اللحظة الأخيرة عن قرار المشاركة في مافي مرمرة؟
وإذا أضفنا إلى ذلك أن البعض، بمن فيهم برلمانيون من حزب العدالة والتنمية الحاكم، وصحفيون وكتاب “إسلاميون” خرجوا وصرخوا في وجه العالم بأنهم سيشاركون في قافلة سفينة مافي مرمرة، ونشرت ذلك وسائلُ إعلام محلية ودولية مختلفة، لكن رأيناهم فيما بعد قد نزلوا من السفينة في اللحظات الأخيرة ولم ينضمّوا إلى المشاركين في القافلة لأسباب طارئة (!)، يتبيّن جلياً أن “بؤراً عميقة” حوّلت هذه السفينة إلى مطيةٍ للركوب عليها والوصول إلى “أهداف مشبوهة” من خلال استغلال المشاعر الدينية البريئة للناس.
خطة الجناح الإسلامي لأرجينيكون لإنقاذ أعضاء جناحيه التركي والكردي
وبعد ذلك فإذا تمكّنّا من إلقاء نظرة شاملة على الظروف التي كانت تمر بها تركيا حين انطلاق سفينة مافي مرمرة فسنرى ما يلي:
تنظيم أو شبكة “أرجينيكون” التي تسمّى بـ”الدولة العميقة” في تركيا، والتي تخفي هويتها الحقيقية وتظهر هويات قومية حيث وجدت، فترفع راية “القومية التركية” في غرب البلاد، و”القومية الكردية” في شرقها، مثل ما ترفع نظيراتها من الشبكات في العالم العربي راية “القومية العربية”.. لما استطاع القضاء التركي إمساكها من أرجلها عام 2007، هبّ الجناح الإسلامي لهذه الشبكة الأخطبوطية لوضع خطة مدروسة جيداً، فوظّف حزب أردوغان كـ”أداة” لإخراج أعضائها من الضباط والجنرالات والمدنيين (نحو 500 شخص، بمن فيهم رئيس هيئة الأركان السابق إيلكر باشبوغ) من السجن، بعد أن كانوا محكومين في إطار قضايا انقلابية وإجرامية مثل قضية أرجينيكون والمطرقة ومنظمة المجتمعات الكردستانية (KCK)، اللجنة الإدارية والتنفيذية العليا لحزب العمال الكردستاني، من جانب، ومن جانب آخر للقضاء على “حركة الخدمة” التي يعتبرها أخطر من حزب أردوغان مفسه وكل الجماعات الأخرى، لتركيزها على تربية أجيال مؤهلين من كل النواحي المادية والمعنوية لبناء المستقبل على أيديهم.
فقد تحرّك هذا الجناح للدولة العميقة أرجينيكون، عبر عناصرها وشخصياتها المعروفة عند الرأي العام منذ سنين بأفكارها ومواقفها “الإسلامية”، وشرع في محاصرة تركيا مجدداً من جميع أطرافها بنيران من النزاعات والمشاكل والأزمات، بعد أن راحت تنفتح على الدول الغربية والشرقية على حد سواء، من خلال علاقات واتفاقات ثقافية واقتصادية، وتسعى لحلّ كل النزاعات والمشاكل العالقة منذ عقود، باستخدام لغة الحوار والدبلوماسية في إطار إستراتيجية “صفر المشاكل مع الجيران”، من دون أن تثير حسد الإخوة وبُغْض الخصوم والأعداء، كالقضايا الفلسطنية والقبرصية والأرمنية والكردية وغيرها. بادر هذا الجناح “الإسلامي” لأرجينيكون إلى استغلال “القضية الفلسطينية” لإقحام تركيا في أزمة مع إسرئيل التي كانت تتفاوض معها لتسوية المشكلة بينها وبين فلسطين وسوريا، فدبّر حادثة “مافي مرمرة” وسط ظروف مشبوهة جداً تحت ذريعة “بريئة” بل واجبة ككسر الحصار المفروض على قطاع غزة، رغم الاعتراضات الموضوعية والمنهجية الموجّهة ضد الأسلوب المتبع في ذلك من قبل الجماعات الإسلامية ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية. وانتهت هذه الحادثة باستشهاد 9 من الأتراك وانهيار العلاقات الثنائية دون أن تحقّق غايتها المرجوة، بل تطورت الأحداث على عكس الهدف المعلن.. فالمشكلة بين إسرائيل وفلسطين لا تزال قائمة كما هي، بل تعقّدت أكثر من السابق، ولم تصل المساعدات المجموعة إلى غزة، بل تسببت في إغلاق باب الرفح، وحصلت إسرائيل على رخصة دولية للتدخل في سفن المساعدات الأخرى المتجهة إلى فلسطين، إضافة إلى استشهاد عشرة شهداء، تسعة منهم مواطنون أتراك. وهذه الحادثة كانت بمثابة الخطوة التي نزعت فتيل الأزمات القادمة التي ضيقت الخناق على تركيا.
جنرالات يخططون لاختلاق حرب “خفيفة” مع اليونان للسيطرة على الحكم
وإذا علمنا أن الضباط والجنرالات الانقلابيين المحكومين في إطار قضية المطرقة الثقيلة أو “باليوز” بالتركية، كما ورد في التسجيلات الصوتية والمصوّرة لهم، وضعوا خطة عام 2003 لإسقاط طائرة يونانية، ومن ثم قتل طيار تركي من أجل اختلاق “حرب” خفيفة بين تركيا واليونان، تمهيداً لإحداث “فوضى خلاقة”، و”عسكرة الأجواء” في البلاد، وأخيراً الانقلاب على الحكومة والسيطرة على زمام الحكم.. فإنه من الممكن أن نستخلص من المشهد الأخير للفليم الذي نشاهده منذ 5 أو 6 سنوات أن الجناح الإسلامي لأرجينيكون تمكّن من الدخول إلى الغرفة السرية لحزب أردوغان عبر مجموعة مستشارين يظهرون الانتماء إلى فكرة الإسلام السياسي التي تتخذ شرعيتها من “المعارضة اللفظية” لإسرائيل، وراح يمهّد الأجواء لإقحام تركيا في منطقة الشرق الأوسط الحافلة بالأزمات والمشاكل، بهدف إنقاذ أعضاء جناحيه التركي والكردي (حزب العمال الكردستاني واتحاد المجتمعات الكردستانية) لأرجينيكون.
كتاب إسلاميون وعلمانيون يسعون لخلق أجواء حرب مع إسرائيل
انطلق كتاب من اليمين واليسار، من أمثال “عبد الرحمن ديليباك”، الكاتب “الإسلامي” المعروف بعلاقاته المشبوهة مع العناصر العميقة في تركيا منذ سنوات، والمعروف بأنه العقل المدبر لمافي مرمرة، و”يغيت بولوت” الذي كان عدواً شرساً لأردوغان بحيث دافع مستميتاً عن حلّ حزبه من قبل المحكمة الدستورية، ومن ثم رأيناه قد أصبح بين ليلة وضحاها من كبار مستشاري أردوغان ومضى يطلق نداءات الحرب مع إسرائيل بعبارات مستفزة على القنوات التلفزيونية، قبيل انطلاق مافي مرمرة، زاعماً أن لدى تركيا القوة اللازمة لذلك، خاصة إذا ما اتفقت مع إيران..! انطلق هؤلاء ينفخون في أردوغان ودائرته الأوليغارشية الضيقة والرأي العام بصفة عامة ويدغدغون مشاعرهم ويهمسون في أذنهم بأن “تركيا الجديدة” بدأت تستعيد قوة أجدادها من خلال خطابات “العثمانية الجديدة” و”الخلافة الإسلامية”، بركوب موجات ما يسمى بأحداث “الربيع العربي” التي كان الأجدر بها أن تسمى بـ”الولادة المبكرة” لعملية تغيير طبيعية مرتقبة ومطلوبة في الدول العربية، والتي انطلقت أولاً في تونس عام 2010، ثم ما فتئت أن انتقلت إلى مصر ومنها إلى سوريا وليبيا. فبدأ أردوغان والمشجعون له يتخيلون في أنفسهم قوة لم تكن موجودة أصلاً، يحلمون أن يكون أردوغان بفضلها زعيم العالم الإسلامي، من خلال دعم فئة بعينها في تلك الدول.
أحلام إعادة رسم الخارطة الجغرافية في المنطقة!
وخلال مدة قصيرة جداً، بدؤوا يتوهمون ويهذون بأنهم سيعيدون رسم الخارطة الجغرافية في المنطقة، ولن يتحرّك حتى غصن فيها بدون علمهم وإذنهم، وراحوا يصدّرون هذه اللغة الكفاحية والثورية إلى شعوبها، مستغلّين الظلم الذي تعرضت له على أيدي الأنظمة الشمولية الحاكمة. كرّسوا كل جهودهم للإطاحة بهذه الأنظمة مهما كلّف الأمر وبأية طريقة كانت، بما فيها الطرق المشبوهة، لأن الغاية كانت تبرّر الوسيلة! لكن السياسة الخارجية تقوم على المصالح المتبادلة والواقعية لا الأفكار المثالية المجردة، ولم يكن من الممكن إدارتها من خلال خطابات نارية رنانة. لذلك سرعان ما اصطدمت هذه الأحلام بالحائط وجلبت على رأس تركيا مشاكل وأزمات مع كل دول المنطقة بل العالم، بحيث أصبحت منعزلة عن العالم وغير مرغوبة في المنطقة.
توجيه اهتمام حزب أردوغان إلى الخارج لإعادة تصميم البيت الداخلي!
لكن لا ضير! ألم يكن هذا هو الهدف والمقصود؟! توجيه اهتمام حزب أردوغان إلى الخارج لإعادة تصميم البيت الداخلي! استهلاك الطاقة الكامنة لتركيا بشغلها بأمور لا تعنيها ولا تملك القوة عليها! تقويض “الأرضية الديمقراطية” التي ساهمت في إعدادها كل القوى السياسية المعتدلة ومنظمات المجتمع المدني والجماعات الإسلامية، والتي ركب عليها حزب أردوغان ووصل إلى سدة الحكم! إرجاع تركيا إلى الأيام القديمة وتصغيرها وتسليم زمامها مجدداً إلى “نخبة أرجينيكون” الحاكمة منذ انهيار الدولة العثمانية.
جنرالات مسجونون عام 2012: تركيا ستعود إلى رشدها عبر حرب
ما قاله كلٌّ من الجنرالين “جيم عزيز تشاكماك” و”فاتح إيلغار” في تسجيل صوتي مسرب عام 2012 وهما قابعان في السجن في إطار قضية باليوز “تركيا ستعود إلى رشدها وصوابها (!) عبر حرب أهلية.. وسترون أننا سنخرج من هذا السجن خلال عام بفضل تعديلات قانونية يجري إعدادها حاليا من قبل الحكومة.. وبعد ذلك سيكون ثأرنا شديداً من الذين حاكمونا وسجنونا.. إنهم سيدخلون السجن مكاننا.. فنحن سنضعهم في السجن ذاته الذي وضعونا فيه”، تحوّل إلى حقيقة بعد سنة تماماً..
هل أرسل أرجينيكون أردوغان إلى الخارج بـ”مافي مرمرة” لإعادة تصميم الداخل؟!
فقد وضعت الدولة العميقة أرجينيكون، بالتعاون مع أجنحتها الإقلمية والدولية، أردوغان على سفينة “مافي مرمرة” وأرسلته إلى فلسطين أولاً، ثم رفعته على أمواج “الربيع العربي” ووجّهتها نحو سوريا ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، وأحيت منظمة حزب العمال الكردستاني بعد موتها بفضل ما يسمى بـ”مفاوضات السلام”، ومنحت لها منطقة ذاتية الحكم في الشمال السوري، وتسعى الآن لاقتطاع جزء من الأراضي التركية عبر حرب الشوارع والمدن في مناطق شرق وجنوب شرق تركيا التي بتنا نشاهد اليوم فيها مشاهد الحرب نفس التي تشهدها سوريا، وأخيراً خنقت ”تركيا الصاعدة” في عقر دارها، وأنقذت أعضاءها المسجونين، واستعادت “تركيا القديمة الصغيرة” المنطوية على ذاتها التي كانت تحكمها بمفردها منذ قرن من خلال إثارة الفوضى والبلبلة بين أطياف المجتمع المختلفة وإدارتها بمهارة فذة!
مزاعم أربكان حول علاقات حزب أردوغان مع إسرائيل ومشروع الشرق الأوسط الكبير
وإذا ما نظرنا إلى النتائج التي تمخضت عن السياسة التي يتبعها حزب أردوغان في التعامل مع القضايا المحلية والإقليمية والدولية منذ 5 أو 6 سنين، فلا شكّ أنه ينبغي أن نعيد النظر في المزاعم التي ساقها زعيم حزب الرفاه الراحل نجم الدين أربكان الموصوف بـ”أبو الإسلام السياسي في تركيا” وأمثاله من الشخصيات السياسية والعلمية البارزة التي لعبت دوراً محورياً في تأسيس حزب العدالة والتنمية المنشقّ عن حزب أربكان.. المزاعم التي كان يردّدها أربكان دوماً وكان الشعب التركي يعتبرها حينها من قبيل الصراع على الزعامة والتنافس على السلطة.. حيث قال أربكان “الصهاينة هم من أسسوا حزب العدالة والتنمية.. أما المشاكل التي نشبت بينه وبين إسرائيل فمختلقة ومصطنعة، ذلك لأن إسرائيل هي من تنصحه بمهاجمتها من أجل الحصول على التأييد!” كما قال البروفسيور نوزاد يالتشين طاش أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية “حادثة “One Minute” كانت عبارة عن سيناريو!” وعلى نفس المنوال يقول الكاتب المعروف بتحليلاته العميقة والعلمية وصاحب كتاب ترجمة معاني القرآن الكريم إلى التركية والإنجليزية الشهير علي أونال “حادثة “One Minute” كانت عبارة عن سيناريو لتلميع صورة أردوغان في تركيا والعالم الإسلامي”. ويتساءل في مقال حمل عنوان “حقيقة مافي مرمرة” قائلاً: “هل كانت مافي مرمرة عبارة عن خلق أرضية من أجل اختلاق حادثة “دقيقة واحدة” جديدة في سبيل تلميع صورة حكومة حزب العدالة والتنمية إلى أقصى الحدود الممكنة ضمن المخططات الأمريكية الموضوعة لتنفيذها في منطقة الشرق الأوسط؟”.
هل كان هدف مافي مرمرة تلميع صورة أردوغان وتقديمه كخليفة؟!
ومع التسليم بخلوص نية الناشطين المشاركين في حادثة مافي مرمرة، إلا أن هذه المزاعم تثير شبهات حول أن تكون هذه الخطوة أريدت لها – بعلم منسقيها أو عدمه – أن تكون استعراضاً سياسياً من أجل تلميع صورة أردوغان في العالم العربي وتقديمه كزعيم وخليفة في إطار مشروع الشرق الوسط الموسعّ أو الكبير. ولكن هذا الهدف أخفي عن المشاركين الأبرياء وترُكوا لواجهوا إسرائيل بوحدهم في ظلّ عدم اتخاذ تدابير كفيلة بحمايتهم من الاعتداء الإسرائيلي الغاشم، ليصبحوا ضحايا وأداة لتحقيق هذا الهدف المشؤوم.
هل حزب أردوغان مشروع أمريكا وبريطانيا وإسرائيل؟!
وكان زعيم حزب الوسط التركي الدكتور عبد الرحمن كارسلي نقل خلال برنامج أذيع على قناة تركية عن عبد الرحمن ديليباك قوله في جلسة مع مجموعة من زملائه “العدالة والتنمية أسّسته الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل باعتباره مشروعاً يخدم مصالحها”. وأكّد ديليباك نفسه صحة القول المنقول عنه في اتصال هاتفي جرى بينه وبين الكاتب الصحفي المعروف أونال تانيك، رئيس تحرير موقع “روتا خبر” الإخباري عقب تناوله هذه التصريحات في مقال له.
وكان ديليباك أكد في الاجتماع ذاته أن هذا المشروع عرض أولاً على كل من الراحل نجم الدين أربكان ورئيس حزب الوحدة الكبرى محسن يازجي أوغلو، لكنهما رفضا ذلك. ولا بد من التنويه هنا أن حزب أربكان تمّ تفتيته، كما أن يازجي أوغلو لقي مصرعه في حادث طائرة خاصة بحزبه أثناء الحملة الانتخابية للانتخابات المحلية في 2009، وهناك أدلة ووثائق قوية تثبت أن هذا الحادث كان مدبراً لقتله.
سياسي لأردوغان: مَن يدخل الحلبة مع الفيل يخرج منها مسحوقاً!
وقد كتب الكاتب محمد علي بولوط أن يازجي أوغلو قال لأردوغان: “يا أخي أردوغان! تعلمتُ مع مرور الوقت ومن الأحداث أنّه لا يمكن مزاولة سياسية مدعومة من قبل الأمريكيين. إذا كنت ستزاول السياسة مستنداً إلى الشعب فأنا معك. وإلا فالأمريكيون لايفعلون شيئا إلا لخدمة أنفسهم”. وعندما رد السيد أردوغان عليه قائلاً: “ننفّذ مطالب أمريكا لفترة، ثمّ نقوم بخدمة شعبنا. وإذا ما حاولوا منعنا من ذلك ندفعهم بعيداً عنا ونمضي في طريقنا”. بينما ردّ يازجي أوغلو على أردوغان بقوله: “إن أمريكا ليست قوّة يمكن دفعها والإفلات منها بهذه السهولة. ولا تنسَ أن مَن يدخل الحلبة مع الفيل يخرج منها مسحوقا”. ورفض عرضه بلطف. (انظر موقع Haber 7، 11 يناير/ كانون الثناي 2014).
هل أردوغان صار أسير طموحاته وملفاته التي يحوزها أرجينيكون
ولا يختلف الأمر إذا كان حزب أردوغان انطلق بنوايا حسنة في بداية مشواره السياسي عام 2012 ومن ثم غيّرته نِعَم السلطة أو ضرورياتها وأصبحت “أداة”، أو علم بـ”المهمة” التي ستُسند إليه من قِبَل الدولة العميقة أو لم يعلمها قبل تأسيسه أو أثنائه.. فإن كل الكيانات العميقة في العالم تحاول توظيف الأشخاص أو المجموعات لتحقيق أهدافها. مع أن الاحتمال الأقوى هو أن أردوغان كان مخلصاً وصادقاً في مسيرته السياسية لنقل البلاد إلى مصافّ الدول الديمقراطية والاقتصادية الكبرى في العالم، إلا أن أرجينيكون المرتبط بإسرائيل وأمريكا وبريطانيا، والمتعاون مع إيران، أخذه رهينة وأسيراً بعد أن دفعه إلى اتباع “طرق مشبوهة” دولياً أثناء محاولاته الإطاحة بنظام الأسد في سوريا خاصة، والمنطقة عامة، وارتكابِ جرائم فساد ورشوة كبرى بتوجيه من تنظيم السلام والتوحيد الإرهابي الإيراني. (نفصل القول في هذا التنظيم الإيراني وأنشطته في تركيا في مقال قادم إن شاء الله).
والعبرة هي أنه كما يجب أن يكون الهدف مشروعاً كذلك يجب أن تكون الوسيلة المختارة لتحقيقه مشروعة وصالحة، وإلا فلا يمكن التوصل إلى نتائج إيجابية من خلال طرق مشبوهة وملتوية.