(رويترز) – تمثل النتائج المبهرة التي حققها الرئيس الايراني حسن روحاني في انتخابات فرضت عليها قيود كثيرة لاختيار أعضاء البرلمان ومجلس ديني دليلا يصور شعبا معزولا يتلهف على التحول من دولة دينية إلى مزيد من الديمقراطية.
لكن لا يتوقع سوى قلة قليلة تحولا مفاجئا في ميزان القوى.
ويمنح نظام الحكم في الجمهورية الاسلامية الذي يجمع بين الدولة الدينية والنظام الجمهوري سلطة حاسمة في أيدي المؤسسة الدينية المحافظة التي أظهرت في الماضي قدرتها على تأكيد سيطرتها متى شعرت بأنها مهددة.
وربما يمتلك روحاني سلطة أقوى للعمل على فتح الاقتصاد الذي خربته العقوبات على مدى عشر سنوات لكن المجال المفتوح أمامه للسماح بمزيد من الحريات الاجتماعية والسياسية تقيده سيطرة المتشددين على القضاء وقوى الأمن ووسائل الإعلام الرسمية.
ومما لا شك فيه أن حجم المكاسب التي حققها أنصار روحاني يمثل انتكاسة للصقور الذين يعارضون أي انفتاح على الغرب. فقد هزمت شخصيات ايرانية بارزة كانت تنتقد الاتفاق النووي الايراني مع القوى العالمية.
فالانتخابات لم تسفر فقط عن عودة أصحاب التيار الوسطي والإصلاحيين إلى البرلمان الذي ظل تحت سيطرة المتشددين منذ عام 2004 بل عن فوزهم كذلك بعدد 15 مقعدا من بين مقاعد طهران الستة عشر في مجلس الخبراء المكون من 88 عضوا والذي يتولى مهمة اختيار الزعيم الأعلى الايراني.
وسقط في الانتخابات اثنان من أبرز المتشددين أحدهما رئيس المجلس وهو إحدى هيئات المؤسسة الدينية.
وحصل أنصار روحاني على مقاعد البرلمان الثلاثين في طهران كلها وذلك رغم أن مكاسبهم خارج العاصمة كانت محدودة إذ احتفظ المحافظون بكثير من المقاعد في المجلسين.
ويوضح حصر غير رسمي أجرته رويترز لنتائج الجولة الأولى في انتخابات المجلس التشريعي المكون من 290 عضوا أن المحافظين فازوا بنحو 112 صورا وأن الإصلاحيين وأصحاب تيار الوسط فازوا بعدد 90 مقعدا في حين حصل المستقلون والأقليات الدينية على 29 مقعدا.
وستجرى انتخابات الإعادة في ابريل نيسان في 59 دائرة انتخابية لم يفز فيها أي من المرشحين بأكثر من 25 في المئة من الأصوات.
وهذه الأرقام تقريبية لأن ايران ليس فيها ارتباطات حزبية صارمة. كذلك فإن بعض المرشحين حظي بتأييد المعسكرين.
وجاءت هذه النتائج رغم قيام مجلس صيانة الدستور المؤلف من مجموعة من رجال الدين غير المنتخبين بشطب آلاف المرشحين المؤيدين للإصلاح. وهذا المجلس مسؤول أمام الزعيم الأعلى آية الله علي خامنئي مباشرة.
وقال محلل في طهران طلب عدم نشر اسمه “تعكس النتائج التي تحققت في طهران اتجاها إصلاحيا وتركيزا على تحسينات في الاقتصاد والعلاقات الخارجية.”
وأضاف “روحاني سيحقق مزيدا من الانضباط في الاقتصاد وقدرا أكبر من الانفتاح في السياسة الخارجية لكن التركيبة العامة والنهج لن يتغير. ستختلف العبارات لكن ميزان القوى لن يتغير.”
ومن الممكن أن تصوغ هذه المنافسات مستقبل الجيل التالي في ايران حيث تقل أعمار ما يقرب من 60 في المئة من سكان البلاد البالغ عددهم 80 مليون نسمة عن 30 عاما ويتلهفون على العودة للاندماج في المجتمع الدولي والعودة إلى الأسواق العالمية في أعقاب الاتفاق النووي في العام الماضي ورفع معظم العقوبات الدولية.
* إرادة الشعب
وقد حث الرئيس السابق أكبر هاشمي رفسنجاني حليف روحاني الرئيسي المتشددين على عدم الوقوف في الطريق. ورفسنجاني زعيم محنك نجا من كل ما شهدته الساحة السياسية في ايران من منعطفات وتحولات منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979 وقد تصدر انتخابات مجلس الخبراء.
وقال رفسنجاني في تغريدة على تويتر “لا يقدر أحد على مقاومة إرادة أغلبية الشعب وعلى كل من لا يريده الشعب أن يتنحى جانبا.”
وانطوت تغريدة رفسنجاني على إشارة إلى أن المكاسب الانتخابية بدأت تغير ميزان القوى.
فمن المؤكد أنها تعزز احتمالات إعادة انتخاب روحاني في العام المقبل إذ ينسب له الأصدقاء والأعداء على السواء الفضل في الاتفاق النووي الذي أتاح لايران فرصة إقامة علاقة جديدة مع العالم.
كذلك فإن النتائج ربما يكون لها تأثير على اختيار خليفة خامنئي الذي يملك السلطة المطلقة لكنه يبلغ من العمر 76 عاما وصحته معتلة بعد أن أجرى جراحة في البروستاتا عام 2014.
ومن المحتمل أن يعجل تشكيل البرلمان الجديد بحملة روحاني لفتح ايران أمام التجارة الخارجية والاستثمارات الأجنبية ويخفف من بعض القيود القانونية على النشاط الاقتصادي.
وفي مؤشر على نواياه بعد الانتخابات دعا الرئيس يوم الثلاثاء إلى خصخصة صناعة السيارات التي تملك الدولة 50 في المئة منها وتمثل ثاني أكبر قطاع في البلاد بعد النفط والغاز.
وليس من المعروف إلى أي مدى ستمكنه الانتخابات من معالجة الفساد والمصالح الاقتصادية المترسخة.
ويحرص الأصوليون المتشددون الذين مازالوا يتحصنون بمؤسسات يسيطر عليها خامنئي مثل القضاء على منع الانفتاح الجديد على العالم أو التحرر على الصعيد الداخلي.
وفي أول تعليق منذ الانتخابات أشاد الزعيم الأعلى بارتفاع نسبة الإقبال على التصويت لكنه لم يعلق على النتائج. ورسم الخطوط العامة التي يود أن يراها في المجلسين المنتخبين الجديدين مشيرا إلى ضرورة ألا يكون للغرب نفوذ عليهما.
وقد تحققت الصفقة التي قيدت برنامج ايران النووي مقابل رفع العقوبات الاقتصادية الصارمة لأن خامنئي أرادها. لكنه يحذر الايرانيين بانتظام من أن الغرب سيحاول استغلالها في إضعاف الجمهورية الاسلامية.
وقال فؤاد إزادي المحلل الايراني المؤيد للمحافظين “لا يمكن للزعيم الأعلى أن يسعد برؤية من يدعمون سياساته وهم يخسرون والذين يعارضون سياساته وهم ينتصرون.”
* لم يحن بعد أوان الاحتفال
يتفق جميع المحللين تقريبا أن من السابق لأوانه أن يحتفل المعسكر الإصلاحي أو الشباب الايراني المتطلع للتغيير بأي خطوات تحققت للأمام.
وفي المرة السابقة التي فاز فيها الاصلاحيون بالسيطرة في البرلمان في عهد الرئيس محمد خاتمي عام 2000 اعترض مجلس صيانة الدستور على عدة قوانين أقرها البرلمان واعتبرها مخالفة لمبادئ الشريعة الاسلامية.
وكان خاتمي يتمتع حينذاك بأقصى شعبيته وبدا أن المتشددين يخسرون بعد أن أذلهم النصر الساحق الذي حققه في انتخابات عام 1997. ورأى كثيرون حينذاك أن ايران تتجه إلى وفاق مع الغرب وإلى الإصلاح الاقتصادي والتحرر الاجتماعي والتعددية السياسية.
وانتهت تلك التجربة بسيطرة المتشددين إذ استخدموا القضاء ومجلس صيانة الدستور في سد ما فتحه خاتمي من قنوات تحرر وأغلقوا صحفا وحبسوا إصلاحيين واعترضوا على قوانين إصلاحية وحرموا أنصاره من الظهور في وسائل الإعلام الرسمية.
وسرعان ما أصبح خاتمي الذي أعيد انتخابه عام 2001 بطة عرجاء بسبب تضييق الخناق على أنصاره وانكشاف أمر البرنامج النووي السري الايراني الذي لم يكن للرئيس سيطرة عليه.
وكان الدرس واضحا. فكل الساسة المنتخبين بمن فيهم الرئيس يخضعون في النهاية لسيطرة رجال الدين المعينين ورجال القضاء الاسلامي ومؤسساتهم ذات النفوذ غير الشفافة ويأتي الزعيم الأعلى على رأس هيكل السلطة.
والآن مثلما كان الحال حينذاك يملك خامنئي السلطة المطلقة. ويهييء هو والحرس الثوري الأجواء ويرسمان الحدود ويحددان الاتجاه العام للبلاد من خلال السيطرة على وسائل الإعلام والجيش وأجهزة المخابرات والأئمة ومعظم الموارد المالية.
* مصالح مترسخة
وقد أثار انفتاح على العالم بهذه الضخامة وكذلك شعبية روحاني مخاوف حلفاء خامنئي المتشددين الذين يخشون فقدان السيطرة على وتيرة التغيير بالإضافة إلى التطاول على مصالحهم الاقتصادية المربحة التي كونوها خلال فترة العقوبات.
فالحرس الثوري الإسلامي على سبيل المثال ليس مجرد حارس لإيران بل هو إمبراطورية اقتصادية من الشركات التي تملك مصالح في قطاعات من البنوك إلى البناء والتصنيع. ومازال الحرس يخضع لعقوبات بسبب اتهامات بأنه يدعم الإرهاب.
وأدى ذلك إلى تفاقم الخلافات السياسية داخل هياكل السلطة المعقدة في ايران.
ويتنبأ بعض المحللين بأن الإصلاحيين قد يكتسبون قدرا أكبر من السلطة تدريجيا في الأجل الطويل إذا استطاعوا تعزيز أغلبيتهم وأكدوا قبل كل شيء أن لهم صوتا مسموعا في اختيار الزعيم الأعلى المقبل.
غير أن خصومهم لديهم هذا الشعور نفسه.
فقد قال إزادي الاستاذ المساعد بجامعة طهران “في مجلس الخبراء خسر الأصوليون مقاعد. وذلك الجزء أكثر تعقيدا (من البرلمان) لان أعضاءه من رجال الدين ورجال الشريعة وليسوا بالضرورة من الساسة لكنهم يملكون فعلا قدرا كبيرا من السلطة.”
وأضاف “يمكنهم اختيار الزعيم (الأعلى) بل ويمكنهم صرف الزعيم إذا أرادوا كما أنهم يراقبون نشاط الزعيم ولذلك إذا استطاع روحاني ورفسنجاني الدفع بمزيد من حلفائهم في مجلس الخبراء فسيكون بوسعهم في الواقع فرض بعض الضغوط على نشاط الزعيم عندما تحدث خلافات في السياسة.
“فالزعيم ليس معصوما في الفقه الشيعي.”
وقال إزادي إن مجلس الخبراء يمكنه التأثير على خامنئي خلال حياته على النقيض من مجمع الكرادلة في الكنيسة الكاثوليكية الذي لا يجتمع إلا عند وفاة البابا.
وتابع “لست مضطرا للانتظار حتى وفاة البابا. فإذا لم يعجبهم ما يفعله الزعيم يمكن لأقلية كبيرة متحالفة مع روحاني ورفسنجاني فرض ضغوط على الزعيم” خاصة إذا أصبح رفسنجاني الرئيس القادم للمجلس وهو منصب سبق أن شغله.
* صراع غير محسوم على السلطة
يمكن لمثل هذه الضغوط أن تؤثر في قرار خامنئي بشأن الشخص الذي سيختاره لمنصب رئيس القضاء. والمنصب أحد أعمدة القوة المحافظة في ايران.
وقال إزادي “ما لدينا هو تحول” يجعل خامنئي “يسير على حبل مشدود في محاولة موازنة العملية برمتها.”
وسيتضح مثل هذا السعي لتحقيق التوازن في عملية اختيار الرئيس التالي للبرلمان وهو المنصب الذي ظل يشغله حتى الآن علي لاريجاني حليف خامنئي الذي مال موقفه نحو روحاني.
وقد فاز لاريجاني الذي وقف وراء تأييد البرلمان للاتفاق النووي بإعادة انتخابه لكنه جاء في المركز الثاني في مدينة قم.
أما منافسه الرئيسي محمد رضا عارف نائب الرئيس السابق في عهد خاتمي ومرشح الإصلاحيين الرئيسي لرئاسة البرلمان فقد احتل المركز الأول في طهران.
وستؤثر زعامة البرلمان في القوانين التي يقصد بها الترويج لتدفق الاستثمارات الغربية. وكان المتشددون قد حاولوا من خلال البرلمان تعطيل مساعي الانفتاح على العالم.
وقد تشجع المحلل سعيد ليلاز المؤيد للمعسكر الإصلاحي بدرجة كافية بنتائج الانتخابات بما دفعه للاعتقاد أن بوسع روحاني والبرلمان بدء العمل على تحرير الاقتصاد والحد من الفساد وجذب الاستثمارات وزيادة الانتاجية.
ويقول ليلاز “علينا أن نمضي قدما في تحرير الاقتصاد فليس لدينا بديل آخر من أجل تقليص الفقر.”
ويصيف “القوى الرئيسية في ايران تحت سيطرة الزعيم الأعلى. لا شيء سيتغير بشكل مفاجئ أو كبير. فقط في الأمور الاقتصادية سيكون لدينا وضع أفضل كثيرا في البرلمان. أنا متفائل بالمستقبل.”
وتنتظر ايران الان حتى يتضح مدى انتشار هذا التفاؤل.
ويرى فيها المستثمرون الدوليون فرصة هائلة كسوق ناشئة في كل شيء من صناعة السيارات إلى الطائرات إلى السكك الحديدية وتجارة التجزئة بما تملك من احتياطيات ضخمة من الغاز وقاعدة متنوعة للتصنيع والأيدي العاملة المتعلمة.
وبالنسبة لرجل الشارع العادي في ايران تبشر إمكانية قدوم هذه الاستثمارات بالعودة للنمو الاقتصادي وتحسن مستويات المعيشة وزيادة الوظائف في الأجل الطويل.