عمر نور الدين
مما يؤسف له أن نسمع تصريحا كهذا..
“لن أمتثل لقرار المحكمة الدستورية ولا أحترمه”.. هذا التصريح صدر عن الرئيس رجب طيب أردوغان قبيل توجهه إلى جولة في غرب أفريقيا يقوم بها حاليا تعليقا على قرار الإفراج عن رئيس تحرير صحيفة جمهوريت جان دوندار ومدير مكتبها في أنقرة أردم جول..
إنه هو نفسه أردوغان الذي لطالما تحدث عن الديمقراطية، التي يبدو أنه اختصرها فقط في صناديق الاقتراع، وفقط عندما تكون النتيجة لصالح حزب العدالة والتنمية، أما غير ذلك فالديمقراطية ليست في وضع طبيعي.
إن هذا التصريح هو كلمات كاشفة، تنبئ عن العقلية التي تتحكم في تركيا، لا التي تحكمها، فلو أنك تحكم لراعيت الدستور والقوانين التي تضع نظاما لإدارة شؤون البلاد، أما إن كنت تتحكم فإن خطابك سيكون هكذا بالضبط، خطاب لا يعترف بالقوانين أو المؤسسات الدستورية، وإنما يرى الزعيم الأوحد هو القائد الملهم وهو سيد قراره، ولاقرار يعلو على قراره.
كانت المحكمة الدستورية العليا أعلنت في بيان لها الأسبوع الماضي أن حبس رئيس تحرير صحيفة” جمهوريت” جان دوندار ومدير مكتبها في أنقرة أردم جول هو اعتداء على حقوقهما، وكما هو معلوم فإن المحكمة الدستورية هي أعلى سلطة قضائية في البلاد، وعدم احترام قراراتها أو عدم الامتثال لها يمثل سحقا لدولة القانون المنصوص عليها في دستور البلاد، وقطعا لساق من جسد النظام الذي يحرك الدولة وتعطيلا لأحد أهم تروسها.
أطلق سراح دوندار وجول، لكن القرار لم يعجب رئيس الجمهورية لأنه كان قد تعهد بملاحقتهما بنفسه وعدم تركهما بعدما نشرا صورا ومقاطع فيديو لعملية تفتيش شاحنات تابعة للمخابرات التركية على الطريق بين مدينتي أضنة وهطاي جنوب تركيا في يناير/ كانون الثاني 2014 قيل إنها كانت متجهة إلى جماعات متشددة في سوريا، وتحديدا تنظيم داعش الإرهابي، فيما قالت الحكومة إن الشاحنات كانت تحمل مساعدات للتركمان في شمال سوريا الذين نفوا بدورهم تلقيهم أي نوع من المساعدات من تركيا.
اعتبر نشر هذه الأخبار افشاء لأسرار الدولة من جانب السلطة الحاكمة، بينما اعتبر من جانب المحكمة الدستورية العليا ممارسة لحق مشروع من جانب الصحفيين اللذين وضعا في السجن، وهو في الحقيقة مهارة من جانب الصحفي الذي يتمكن من الحصول على مثل هذه المعلومات، وفي بلد يدعى أنه يتبنى نظاما ديمقراطيا يقوم على حرية الرأي والتعبير واحترام القانون لا يمكن تجريم مثل هذا العمل..
لكن في دولة العدالة والتنمية، التي هي في الحقيقة دولة الرئيس، يصبح هؤلاء خونة وجواسيس ومكانهم السجن مدى الحياة.. فانتظروا من الآن هجمة جديدة وعودة دوندار وجول إلى محبسهما في سجن سيليفري شديد الحراسة من جديد، بل لعله من الواقعي انتظار تعديل قانون المحكمة الدستورية لمنعها من الاعتراض على الإرادة العليا.. بعد أن ظن الجميع أن جهاز القضاء وميزان العدل في الدولة قد اختل أو دفن ولن يعود إلى نصابه مرة أخرى .. لكنه أثبت أنه ما زال حيا ينبض.
سيشاهد الاس جولات جديدة من الاعتداء على الحقوق والحريات ولن تتوقف هذه المعركة بسهولة، لكن كل ما يشاهده الجميع الآن من هجمات واعتداءات على الحريات وخنق لكل صوت معارض وتكميم للدولة من أعلاها إلى أسفلها حتى لا يبقى فيها إلا صوت واحد.. ما هو إلا زبد بحر يرغي ويزبد .. لكن الباقي تحت هذا الغثاء هو الراسخ وهو ما سيظهر ولو بعد حين .. ” فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.. صدق الله العظيم.