أ.د. فؤاد البنا (*)
إن تسارع اﻷحداث التي تعصف بمنطقتنا العربية واﻹسلامية، تبدو ﻷول وهلة ثمرة فوضى طبيعية غير موجهة، كنوع من التداعيات الناتجة عن محاولة عدد من شعوب المنطقة الثورة على جلاديها واﻻنعتاق من ظالميها، حيث أدى الكبت الطويل والظلم الجسيم بمجاميع من هذه الشعوب إلى الجنوح نحو التطرف ومعاقرة العنف، وﻻسيما بعد التكالب الواضح من قبل قوى وتيارات عديدة، داخلية وخارجية، ضد الربيع العربي.
ولكن المتابع لتلك الحوادث واﻷحداث عن كثب، يدرك أنها ليست فوضى عشوائية بل عملية منظمة، إذ يبدو أنها تسير في حلقات متسلسلة، وتتجه نحو تحقيق أهداف تتبدى أنها ضد أشواق الشعوب بالحرية واﻻستقلال.
وكلما مر الزمن تنكشف ما تبدو أنها مؤامرة تلوح في الأفق، رغم الجهود الجبارة التي يبذلها المستفيدون من الثورة المضادة، من أجل إخفاء أصابعهم التي تتحرك في الظلام.
وكمتخصص في الفكر السياسي ومتابع للأحداث بتمعن، فإنني أشعر بتلك الأصابع تدفع جماعات العنف في المنطقة نحو الإتجاهات التي تحقق مصالحها اﻻستراتيجية.
وكمسلم ومواطن عربي أخشى أن تكون كثير من الحوادث المتلاحقة جزءاً من مؤامرة على ما أسميه بالبراق الحضاري وهو مازال غير قادر على الطيران.
وأقصد به الجسم الحامل لمشروع النهوض الحضاري لهذه اﻷمة.
جناحا البراق
ظل الهلال الممتد من مصر إلى تركيا وفي القلب منه بلاد الشام، هو القائد اﻷساسي لهذه اﻷمة في معظم المراحل التأريخية.
ويبدو أن محاوﻻت أمة اﻹسلام للنهوض تتجدد من هذه المنطقة، حيث تستحيل إلى براق يحاول اﻻرتقاء بالأمة حضاريا لوصل ما انقطع واستئناف ما توقف منذ زمن طويل.
ولهذا البراق جناحان رئيسان: الجناح التركي والجناح العربي.
أوﻻ: جناح النموذج التركي الناهض:
ويتمثل بمحاوﻻت النهوض الحضاري القائمة اﻵن في تركيا، تلك المنطقة التي تمتلك الكثير من مؤهلات العروج الحضاري، وأهمها بإختصار شديد:
1- العبقرية الجغرافية:
تمتلك تركيا موقعاً استراتيجيا يسمى آسيا الصغرى ويتربع على هضبة اﻷناضول، ويقع عند ملتقى أهم قارتين في العالم: آسيا وأوروبا، وفي مجمع البحرين: اﻷبيض واﻷسود، ويتحكم بمضيقين هامين للتجارة الدولية: البوسفور والدردنيل.
2 – الفاعلية الثقافية:
تركيا منطقة التقاء وتماس بين أكبر ديانتين في الدنيا: اﻹسلام والمسيحية، وظلت هذه المنطقة المتصلة ببلاد الشام، ذات حراك ثقافي فاعل أثرى الثقافة اﻹنسانية بشكل كبير، في معظم حقب التأريخ اﻹنساني، وكانت أهم قنطرة ربط بين الثقافات الشرقية والغربية.
3 – الثقل التأريخي:
ظلت آسيا الصغرى من أشد المناطق الجامدة استراتيجيا في العالم، حتى أنها تمكنت عبر حقب التأريخ المختلفة من إقامة سلطنات وإمبراطوريات ضخمة، نشرت ظلها على كثير من أصقاع العالم بما فيها أجزاء واسعة من أوروبا.
4 – فاعلية اﻹنسان التركي:
من المعلوم أن أغلى ما تمتلكه اﻷمم من ثروات هو اﻹنسان.
واﻹنسان التركي مميز بنشاطه الدائب وعمليته الدائمة، ومعروف بذكائه الحضاري وحسه التجاري، ومشهور بقدراته العسكرية وطاقاته الروحية.
وتصدق الوقائع واﻷرقام ذلك كله، بجانب ركام هائل من الخبرات التأريخية الغنية والمتنوعة.
5 – التحديات الداخلية والخارجية: تعرضت تركيا لتحديات شتى منذ قرن من الزمان، حيث انبجست من داخلها واندفعت من خارجها، ووصلت إلى حد احتلالها من قبل دول التحالف في الحرب العالمية الأولى، وإسقاط السلطنة العثمانية، ودفعها نحو تطبيق نموذج متطرف من العلمانية التي زرعت التبعية التركية للغرب، وجعلتها ذيلا له في الواجبات دون الحقوق، إذ ضم الغرب تركيا إلى حلف شمال الأطلسي العسكري منذ تأسيسه، ورفض إدخالها ضمن السوق اﻷوروبية المشتركة ثم اﻻتحاد اﻷوروبي، متعللا بأعذار واهية، ومطالبا بالمزيد من الشروط التي عمقت التبعية وفقدان الهوية.
ولم تثمر سائر التنازﻻت شيئاً مذكورا، حتى أدرك كثير من اﻷتراك أن الإتحاد اﻷوروبي منظمة مسيحية ﻻ مكان لبلادهم فيها، كما أعلنت ذلك تانسوا تشيلر رئيسة حكومة تركيا قبل نحو عقدين من الزمان، مستندة إلى تصريحات بعض الساسة اﻷوروبيين، بجانب اﻷفعال الواضحة في الواقع.
وﻻ شك أن تحدي اﻻحتلال واﻻمتهان قد جرح كرامة اﻷتراك، واستفز وجدانهم، واستثار طاقاتهم الكامنة، كما هي عادة التحديات الكبرى، ولهذا عدها فلاسفة الحضارة شرطا من شروط النهوض الحضاري.
التوجس من النموذج التركي
من المؤكد أن اﻻنبعاث الحضاري الذي تنعم به تركيا منذ عقد ونصف، يخيف التيارات اليمينية المتطرفة في بعض الدول الغربية ذات الخلفيات اﻻستعمارية، وﻻسيما أن تجربة النهضة التي تحاول الإقلاع اليوم شديدة الطموح، وبدأ بعض رموزها بإطلاق رسائل تشير إلى استلهامها للنموذج العثماني الذي أشرقت أشعته على أوروبا طيلة قرون من الزمن.
ولذلك بدت في اﻷفق رياح مؤامرة ضد تركيا ذات أبعاد مختلفة، لكن لبها يعتمد على تقويض العلاقة بين عمودي الإنجاز.
عمودا النموذج التركي
يبدو أن نموذج الإفلاع الحضاري الذي يتفاعل في تركيا اﻵن يقوم على عمودين أساسين:
اﻷول: العمود السياسي اﻻقتصادي:
ويتمثل في حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ 14 عاما، والذي حقق إنجازات كبرى على سائر الأصعدة، وﻻسيما الصعيد اﻻقتصادي، حيث نقل تركيا من المركز 111 عالمياً إلى المركز 16، وأدخلها نادي العشرين الكبار بقوة، متقدمة على عدد من الدول التي سبقتها بمسيرة الإقلاع الحضاري.
وما تزال تركيا تتقدم نحو الصدارة بسرعة، رغم كساد اﻻقتصاد الأوروبي وبشكل خاص في الدول المحيطة بتركيا، كاليونان التي تعد الخلفية التأريخية والمكون الثقافي البارز للحضارة الغربية المعاصرة.
اﻵخر: العمود التربوي واﻻجتماعي:
ويمثله تيار الخدمة بقيادة الداعية والمفكر التركي فتح الله جولن، وكان هذا التيار شريكا لحكومة العدالة غير المنظور في تحقيق النجاحات السابقة، حيث كان رديفا قوياً بكوادره ومؤسساته التربوية واﻻجتماعية واﻻقتصادية والإعلامية التي خدمت التجربة وأثرتها.
وقد حقق تيار الخدمة منجزات هائلة داخل تركيا وخارجها، في مجاﻻت المدارس والجامعات والمؤسسات الإعلامية والثقافية والفنية والبنوك والشركات والعمل اﻻجتماعي والخيري، سواء من ناحية الكم أو الكيف، حتى أنه استدعى اﻻهتمام والدراسة الغربية القوية، حتى أن هناك أكثر من 100 رسالة علمية في الغرب درست الخدمة، كما علمت من بعض قادتها.
وﻻبد أن التيارات اﻻستخباراتية واﻻستعمارية الغربية التي تتوجس خيفة من صحوة اﻷتراك، ليست مرتاحة لما يقدمه أبناء الخدمة من نماذج في العطاء ولما يحققونه من نجاحات في البناء، سواءً في تركيا أو خارجها، إذ توجد على سبيل المثال أكثر من 2000 مدرسة للتيار تتوزع في 170 دولة من دول العالم.
ولذلك أﻻحظ قرائن كثيرة تدل على أن دولا ومؤسسات غربية تلعب دوراً ذكياً ماكرا في اﻹيقاع بين عمودي المشروع التركي، وتتظاهر بالتماهي مع مخاوف كل طرف ﻻستثارته ضد اﻵخر، وتمارس صورا من الدعاية السوداء لتشكيك كل طرف باﻵخر، وبالتعاون المباشر أو غير المباشر مع عناصر من الدولة العميقة التي تكونت طيلة عقود من العلمانية المتطرفة، ولم يبتلعها البحر الذي ابتلع الدولة العميقة لفرعون؛ ﻷنه بالطبع ﻻ يمتلك أي أحد عصى موسى في هذا الزمان!!
الجناح الثاني: الربيع العربي:
اندلعت شرارة الربيع العربي آخر عام 2010، معبراً عن أشواق العرب للخلاص من إذﻻل الهوامش وصقيع الحواشي، والعودة إلى متون القوة ونواصي الكرامة اللائقتين بخير أمة أخرجت للناس.
وقد حقق هذا الربيع خلال فترة زمنية قصيرة، تقدما كبيراً على مستوى إعادة تشكيل الوعي وتنظيم الحركة ومحاولة تنظيم طاقات اﻷمة لمواجهة التحديات الكبرى التي تواجهها، مما أبرز القوة الذاتية للفكر الإسلامي، الذي ينهل منه ويتكئ عليه أصحاب الفصيل الرئيسي الحامل لهذا الربيع، ويشير إلى قوة التعبئة والتنظيم عند الإسلاميين.
ومن المؤكد أن هذا الربيع قد أيقظ مخاوف دعاة المركزية الغربية وصدام الحضارات، واستدعى هواجس الرجل اﻷبيض الذي كان قد أعلن عن (نهاية التأريخ)، وموت (الجغرافيا السياسية) التي تضع حدوداً بين الدول.
وأعلن أن العولمة ترفض التحجج بالخصوصيات الثقافية والسيادة الوطنية، لمنع اﻷصلح – أي اﻷقوى – من دخول أي بلد بحرية تامة، وأكد أن الحدود الوطنية، ﻻ محل لها من اﻹعراب في النحو العولمي الجديد!!
إيقاظ الربيع للمتآمرين:
وكما مثل الربيع العربي مفاجأة مبهجة للتيارات اﻹنسانية في الغرب، فقد كان صادما للإمبريالية الغربية وامتداداتها في أعماق الحياة العربية، سواء كانت أنظمة أو منظمات، حيث سارعت للقيام بثورة مضادة، استنارت بمعلومات أجهزة المخابرات وأبحاث مراكز الدراسات المحلية والدولية، وتسلحت بكل ما تملكه من حيل في مخازن المكر وخزائن المخاتلة.
ومن المؤسف أن ولوج المؤامرة الخارجية تم من الفجوات القائمة في أسوارنا الداخلية الهشة، وأهمها العصبيات الدينية والطائفية والعرقية والقبلية والجهوية، والتي أحالتها في ظل التخلف الماحق إلى قنابل موقوتة، فجرتها في وجه الربيع الذي ينزف دما في كل دوله، لكنه ما يزال يتشبث بأهداب الحياة.
واستغلت المؤامرة الثغرات الكبرى في صروح الربيع العربي، وأولها الشركاء المتشاكسون نتيجة انعدام الانسجام بين تياراته ومكوناته، واستثمرت الجهل المخيم واﻷمية المتراكمة، ومواريث الصراع القديم والحديث، ومن خلالها نفذت إلى مجاميع مؤثرة من المجتمعات العربية، فكانت تلك الردة التي جعلت الربيع المزهر ينقلب إلى أشواك شتوية!
التغيرات الداخلية هي اﻷساس
وأختتم هذه المقالة القصيرة بالتأكيد على أن صاحب هذا التحليل ﻻ يؤمن بنظرية المؤامرة المطلقة، فالعرب والمسلمون ليسوا ريشا في مهب أعاصير العولمة، أو أحجارا على رقعة الشطرنج في يد الدول والمنظمات الكبرى!
فالمسلمون يمتلكون إمكانيات ضخمة، تستطيع أن تصنع لهم مكانة مرموقة، إن استثمروها بوعي وحككة، وقدموا تنازلات لبعضهم البعض في طريق التآلف والتعاون، وإن جعلوا تحدي المؤامرة الخارجية أداة لصهر مكوناتهم وتذويب الخلافات غير الطبيعية، وإدارة الخلافات الطبيعية لصالح استراتيجية النهوض.
ولهذا فإن ما يلوح في اﻷفق من أدلة وقرائن، تشير إلى مؤامرة تكاد أن تزول منها الجبال، ﻻ يزيل إيماني بأن التحديات الداخلية أخطر بكثير من الخارجية، وأملي بأن محاوﻻت بعض الدول والحركات التصدي لهذه التحديات هي بداية عودة العافية، كالتقارب التركي السعودي، وتأسيس التحالف العربي، ثم التحالف العسكري الإسلامي.
وعلى سبيل المثال فإني ﻻ أخاف من المؤامرة الخارجية على تركيا رغم قوتها، مثل خوفي من الخلافات الداخلية بين العدالة والتنمية ومن تحالف معه وبين تيار الخدمة ومن تخندق بجانبه.
وأخاف من الشقة التي عادت للتوسع بين الغالبية التركية واﻷقلية الكردية، بعد أن كانت على وشك أن تردم نهائياً، حيث تتسلل المؤامرات الخارجية بخبث من الفجوات والتصدعات في الصروح الوطنية.
ورغم عبقرية أردوغان وضخامة المنجزات التي حققها لبلاده خلال سنوات قيادته لتركيا، فإنني أخشى من طموحاته الجامحة وﻻسيما بعد اﻻنتصارات الساحقة التي حققها على خصومه ومنافسيه، فقد جعله ذلك كله منتشيا وربما غير مبال بأصدقائه القدامى وغير هياب لخصومه الذين يتكاثرون ويتكتلون، مما دفعه للجموح إلى اﻷمام حيث أبرز طموحاته العثمانية التي تستفز العلمانيين اﻷتراك وتخيف الغربيين، مما سيجذب المزيد من المتآمرين كما تفعل روسيا اﻵن والتي تؤلب المجتمعات اﻷرثوذكسية ضد ما تصوره بأنه السلطان أردوغان!!
وﻻ شك أن هذا التآمر الواضح، ومحاولة تجييش الدول المجاورة لتركيا ضدها، ودفع اﻷقليات العرقية والدينية والطائفية والسياسية داخل تركيا للخروج على الثوابت الوطنية وأصول اللعبة السياسية، قد تجعل أردوغان يرتكب أخطاء، بعد مكوثه الطويل نسبياً في السلطة وإنجازاته الرائعة، وربما ألحقت ضررا بالغا بالتجربة، أو رمت على اﻷقل بمزيد من أحجار العثرة في سكة قطارها السائر.
_____________________
(*) أ.د. فؤاد البنا: أستاذ الفكر السياسي الإسلامي بجامعة تعز – اليمن
مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية