عمر نور الدين
الحسابات الخاطئة، ولاشك، هي أكبر معضلة واجهت السياسة الخارجية لتركيا في عهد حزب العدالة والتنمية الذي يحكم البلاد منذ 14 عاما والذي أخذ الفرصة كاملة لتحقيق التقارب والشراكة الحقيقية مع الشرق والغرب لكن سياساته المتقلبة في السنوات الأخيرة لم تبق له حليفا أو صديقا في الشرق أو الغرب.
لماذا كانت السياسة الخارجية للعدالة والتنمية ناجحة في بداياته عندما كان الرئيس السابق عبد الله جول يتولى منصب وزير الخارجية قبل انتخابه رئيسا للجمهورية في عام 2007، ولماذا استمرت هذه السياسة ناجحة عندما كان لجول الدور الأبرز في صياغتها مع مؤسسات الدولة، ولماذا تحللت وتفككت هذه السياسة لتعكس عدم قدرة الدولة على اتخاذ خطوة سليمة في كل القضايا التي تتداخل أو تتدخل فيها؟
إن أكبر إخفاق للسياسة الخارجية التركية بدأ مع القراءة الخاطئة لما يسمى بالربيع العربي في 2011، وبالتحديد لأحداث سوريا، والاعتقاد بأن بشار الأسد، الذي وث نظاما عتيدا متجذرا متشابك العلاقات والتحالفات مع قوى مؤثرة على الساحة العالمية سيرحل في غضون أشهر، وسيذهب أردوغان للصلاة في المسجد الأموي بعد أن يدخل دمشق دخول الفاتحين، في ظل استقبال حافل من القادة الجدد، الذين كان المتخيل أنهم سيكونون في الغالب من جماعة الإخوان المسلمين، كما في مصر بعد ثورة يناير، أو في تونس مع حركة النهضة بعد الثورة على بن علي.. لكن كل هذه التصورات كانت محض خيال وتدفع تركيا الآن ثمنها باهظا.
لعبت حكومة العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان على أوتار متعددة فيما يتعلق بالأزمة السورية التي تعقدت بشكل ربما لم تتوقعه حتى الأطراف الرئيسية الفاعلة فيها منذ البداية، تنقلت تركيا من معسكر إلى معسكر ومن دعم مجموعة إلى دعم أخرى، وحاولت أن تضخ الدماء في عروق المعارضة السورية التي تسمى بالمعتدلة، والتي تعاني الخلل من الداخل منذ البداية، وسعت مع شركاء إقليميين أبرزهم قطر إلى تقوية الجماعات المقاتلة ضد الأسد، واستقبلت نحو مليوني لاجئ باعتقاد أنهم سيعودون إلى ديارهم في ظل الحكم الجديد بعد أشهر.
ساعدت تركيا الاتحاد الديمقراطي الكردي وذراعه المسلح وحدات حماية الشعب الكردية، وألقى رئيس وزرائها أحمد داوداوغلو السلام على كوباني، وجعلت تركيا من أراضيها معبرا لقوات البشمركة للتوجه إلى كوباني لتحريرها.. ثم أعلنت الاتحاد الديمقراطي ووحدات جماية الشعب تنظيما إرهابيا يشكل امتدادا لمنظمة حزب العمال الكردستاني في تركيا، وبدأت الحرب معه وسط الحديث عن تدخل بري في سوريا بالاشتراك مع السعودية.
كانت تركيا أردوغان تعول على عضويتها في حلف الناتو الذي يشكل الظهر والسند القوي الذي يستدعى عند الحاجة، لكنها في إطار هذه الرحلة من الإخفاقات وسوء التقدير كانت قد اصطدمت بالحائط الروسي بعد إسقاط المقاتلة الروسية في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي على حدود سوريا لانتهاكها المجال الجوي التركي لسبع عشرة ثانية، لتتحول روسيا من صديق إلى عدو.
وبعد أن كانت تركيا تعتقد أن الناتو سيدعمها إلى درجة الدخول في حرب مع روسيا على الساحة السورية بدأ أن الأمر غير ذلك تماما.
جربت تركيا أن تلقي بورقة التنظيم الذي تراه إرهابيا وأن تحاول شحذ همة الحليف الأمريكي من خلال إلصاق الاتهامات لحزب الاتحاد الديمقراطي، وتحميله المسؤولية عن التفجير الإرهابي في أنقرة في 17 فبراير شباط الجاري، لكنها اكتشفت أن الحليف الأمريكي، المنشغل بالانتخابات الرئاسية، لايسير معها على الخط نفسه، بل يطالبها بوقف قصفها للاتحاد الديمقراطي شمال سوريا مؤكدا أن الدفاع عن النفس هو حق مشروع ولكن داخل أراضي الدولة نفسها وليس خارجها.
اعتقدت العقلية التي تدير تركيا، خطأ كالمعتاد، أن سيناريو التحريك عن طريق أكراد سوريا سيكون صالحا لاتخاذ القوى الغربية قرار التوجه للحرب البرية، لاسيما وأن السعودية جاهزة ومستعدة، فإذا بأنقرة تفاجأ بأن جميع الحلفاء في الغرب ليسوا على الخط نفسه، حتى أوروبا التي تتملق أردوغان بالمال تارة وبتأشيرة الشنجن تارة ثانية وفتح فصول جديدة في مفاوضات تركيا مع الاتحاد الأوروبي تارة ثالثة غير مستعدة لخوض حرب غير محسوبة العواقب في أفغانستان الجديدة، أو سوريا.
أما إيران التي تشكل محورا أساسيا في سوريا، والتي بدأ الغرب يفتح لها ذراعيه، ففترت علاقاتها في الفترة الأخيرة مع تركيا التي دخل رئيسها أردوغان في تلاسن مع قادة الدولة التي كان يصفها ببيته الثاني.
إذن لم يبق لتركيا أردوغان سوى حليفها التقليدي، قطر، والحليف المحتمل، السعودية، في ظل مواقف الحلفاء الغربيين من الحرب في سوريا والتوافق الأمريكي الروسي على أن المشكلة في سوريا لن تحسمها الحرب، وأن الأسد لن يرحل قريبا كما يريد أردوغان.